فيلم «الميل الأخضر».. قراءة «توم هانكس» الخاصة لـ«المسيح» والقرابين!

الأربعاء 3 يناير 2018 05:01 ص

عاش الشيخ الراحل «محمد الغزالي» (22 من سبتمبر/أيلول 1917ـ 9 من مارس/أذار 1996) يردد في محاضراته وكتبه أنه إن تعجب من شيء في حياته .. فهو عجز أهل الحق عن نصرة الحق الذي بين أيديهم، ونجاح أهل الباطل في إعلاء شأن باطلهم!

تصنيف فيلم اليوم «The Green Mile أو الميل الأخضر» أحد أهم مفاتح قراءته الدقيقة، بخاصة في ظل إشادة من مشاهدين ومتصدين للنقد الفني العرب غير محدودة، فكثيرون يرون أنه فيلم نفسي ـ حركي أو غموض بمعنى عام.

فيلم اليوم باختصار شديد لا يمكن أن يقرأ فنيا بعيدا عن الدين، فهو فيلم يصنف كما يريد المصنفون، ولكن من تمام الفشل في تصنيفه إغفال إنه ديني بامتياز؛ ينتصر للمسيحية في عالم اليوم الرهيب الممتلئ بالزيف والقبح كما يقول الفيلم، وبعيدا عن ترديد بطله «توم هانكس» عدة مرات لجملة: ماذا أقول لربي غدا حينما أقف بين يديه فيسألني عنك.

فالجملة الأخيرة لم تأت عفوا أو وليدة دراما اجتماعية أو نفسية قادت بعفوية وبساطة أو بإنسانية (كما في فيلم الحاسة السادسة لبروس ويلز على سبيل المثال .. وأيضا فيلم ملاذ آمن)، إننا أمام فيلم مكون من قرابة 188 دقيقة.. أي أكثر من 3 ساعات لحمته الأساسية وبنيته الرئيسية الانتصار للمسيح وصلبه على الطريقة التقليدية لفهم المسيحية وبالتالي الغرب وقرابينه أو ضحاياه اليوم.

وللحقيقة فلا اعتراض على معتقد ديني خاص لا يضر أحدا، ولكن الاعتراض هو على وجود سينما غربية متفوقة تدس لنا السم في العسل بإحكام، فيما كثير من المسلمين اليوم يتلفت حوله باحثا عن حكم للإسلام في السينما، أو ما أجمله الشيخ «الغزالي» منذ سنوات بعيدة على محمل الفهم الدقيق.. ليقول إن الأمر مثل السكين «لك أن تذبح دجاجة تطعم فقيرا بها أو تذبح إنسانا لتخلد في جهنم ويلعنك الله!».

ما الفيلم الديني؟

يظن كثير من المشاهدين أن الفيلم الديني ينبغي أن يجئ على نسق «هجرة الرسول»، صلى الله عليه وسلم، أو حتى فيلم «المسيح»، ويتغافل هؤلاء أو لا يحيطون علما بأن التقدم الغربي لم يدع مجالا إلا وأعمل فيه الفكر والإبداع، وهكذا حتى أثمر الأمر في عام 1999 تناولا لرواية الكاتب الأمريكي «ستيفن كينغ» في فيلم، قال الأخير عنه أنه أحسن تجسيد الرواية على الشاشة في فيلم اليوم أكثر من أي عمل آخر.

حقق فيلم «الميل الأخضر» أرباحا قدرت بـ290.7 ملايين دولار في مقابل إنتاج تكلف فقط 60 مليون، وكتب السيناريو والحوار وأخرجه وساهم في إنتاجه «فرانك دارابونت»، وصرح هو الآخر أن الفيلم يعد الأكثر الأفلام إشباعا له خلال مسيرته الإخراجية.

يدور الفيلم في إطار استرجاع للأحداث (فلاش باك) لبطله «بول إيدجكومب» أو الممثل «دابس جرير» حيث كان مسؤولا عن «الميل الأخصر» الأمريكي، أو المربع المحتوي على المحكوم عليهم بالإعدام في أشهر السجون الأمريكية، وحينما يعود الفيلم بنا للوراء نكتشف أن «توم هانكس» ينتظرنا كبطل حقيقي للفيلم ومواطنه «جرير» كان غطاء له، فحينما تم إعداد المكياج اللازم لـ«هانكس» ليبدو في سن 108 عاما (!) أكتشف أن الملامح غير مناسبة فتم إسناد الدور لعجوز.

والقصة أن مربع «الميل الأخضر»، بحسب الفيلم تحول ضمنيا إلى عنبر في مستشفى، أما المرضى فليسوا جميعا من المحكوم عليهم بالإعدام بل من السجانين أيضا، ومروض الجميع والمشرف على علاجهم هو «إيدجكومب» أو «هانكس» ومعه بعض الأسوياء من الجانبين أيضا، وهذا الملمح في حد ذاته كان كافيا لصناعة فيلم إنساني جيد، بعيدا عن الدين والإسقاطات القوية المباشرة، التي أضعفت الفيلم وأصابت بنيته السينمائية بترهل المضمون والسقوط الدرامي في فخ الخرافات والانتصار للأفكار البالية العتيقة باسم المسيحية والمسيح والأخيران منها براء.

يعاني «إيدجكومب» كما تعاني الولايات المتحدة عام 1935 من الكساد الاقتصادي الذي جعل ثلث السكان بلا عمل، وأيضا من حصوة في المثانة تكاد تقضي على علاقته الخاصة بزوجته، وتتسبب له في آلام حادة من ناحية أخرى، وفي هذه الفترة الصعبة من حياته العملية يتم ترحيل مسجونين اثنين جديدين إلى مربعه الخطر.

كان من المفترض ألا علاقة تجمع بين العملاق الأسمر الطيب القلب.. المتعدد المواهب الخارقة «جون كوفي» أو «مايكل كلارك دنكان»، وبين الشرير المخادع المدعي الظرف وخفة الظل «بروتس هال» أو «سام روكويل»، وكلاهما سيقدم للكرسي الكهربائي عما قريب لإدانتهما بارتكاب جرائم قتل، أما الأول فاغتصب طفلتين ثم قتلهما، وأما الثاني فصاحب جرائم قتل متعددة.

والحقيقة الدرامية أن «كوفي» يمثل النموذج العصري للسيد «المسيح»، عليه السلام، بملامح مغايرة لزوم التمويه، فهو زنجي يستطيع معرفة الأحداث البعيدة وشفاء المرضى والمصابين بالإصابات الخطيرة، لكن نظرا لارتكاب «هال» الشرير لجريمة خطف وقتل الطفلتين يحاول علاجهما «كوفي» ويفشل فيضبط متلبسا ويتهم فيهما، فلا يستطيع تبرئة نفسه رغم قدراته (!) ليتم إعدامه تكفيرا عن خطايا البشرية، لكنه قبلها يدفع ضابط الشرطة الشرير «بيرسى ويتمور» أو «دوغ هتشيسون» لقتل «هال» قاتل الطفلتين عبر حبكة لا تخلو من طفولية.

وكان «بيرسي» قريب زوجة عمدة الولاية يتعمد الإساءة للمسجونين في ظل حماية منصبه له، وبالتالي يقتل فأر «وايلد بيل» أو «ديفيد مورس» الموهوب، لولا إعادة «كوفي» الحياة للفأر (!)، ويرد «بيرسي» بعدم وضع أسفنجة الإعدام مبللة فوق رأس بيل، مما يمنع سرعة الدائرة الكهربائية للتعجيل بوفاته، ومما يتسب في آلام لا تطاق مضاعفة لـ«بيل»!

وبتطوع «كوفي» لعلاج «إيدجكومب»، ثم شفاء الفأر.. فيتم استخدامه (كوفي) لعلاج زوجة مشرف السجن «جيمس كرومويل» أو «واردن هال موريس» في مغامرة مجنونة خارج «الميل الأخضر» تهب «كوفي» قلادة قديسة كانت تمتلكها المريضة «ميليندا موريس» أو «باتريشا كلاركسون»، ليدفن بالقلادة في تأكيد لعمق الفيلم الديني.

وفي النهاية يعدم «كوفي» ويعاقب «إيدجكومب» (إلهيا) بطول العمر هو و«فأر هال» حتى ليودع أحبابه وهو ما يزال على قيد الحياة (108 أعوام).

إبداع وخرافات

القصة السابقة لو لم تغلف في إطار من السيناريو الاسترجاعي من الخلف للأمام أو من النهاية أو البداية مع جودة مونتاج «ريتشارد فرانسيس بروس»، الذي حاول تحجيم ترهل الفيلم، مع موسيقى «توماس نيومان»، وديكور «مارتن سيارتون»، وقد ساوى كل ذلك تقديم منتج عالي التقنيات السينمائية بلا قصة مفيدة أو حتى مقبولة دراميا، أو شريط سينمائي من التعصب غربي لسيرة «المسيح» كما يراها صناع الفيلم والمؤلف، أو أن استمرار مآسي الحياة الغربية، والقتل والتشرد الداخلي والخارجي وغيرها من الآثام.. مع تقديم ضحية أو قربان عن تلك الجرائم من حين إلى آخر باسم الفداء و«المسيح».. وهذه الترهات والحماقات الفكرية بفعل التقدم الغربي السينمائي تلبس ثوب الفن فيما تتراجع الدول الإسلامية العربية عن مجرد اقتحام هذا المجال، بفعل الانشغال بالفقر والتخلف من ناحية والجهل بالتقنيات الفنية السينمائية من ناحية أخرى والإخلاص في استخدامها، ورحم الله الشيخ «الغزالي»!

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

فيلم أمريكي إنتاج 1999 الميل الأخضر The Green Mile المسيحية تعصب غربي إبداع تقني سينمائي تخلف درامي مضموني