فيلم «أمسك بي إن استطعت».. قصة لص علّم أمريكا النظام!

الثلاثاء 9 يناير 2018 09:01 ص

فيلم اليوم «Catch me if you can أو أمسك بي إن استطعت» من إخراج الأمريكي ذي الأصل اليهودي «ستيفن سبيلبيرغ»، عن سيناريو لـ«غيف ناثانسون» عن قصة لص المعاملات البنكية الأمريكي الأشهر وسيرته الذاتية التي تحمل نفس اسم الفيلم «فرانك ويليامز أبادغيل» الابن، تذكر بشكل قوي، مع الفارق بالطبع، بطرفة مصرية وعربية بامتياز:

ذهب مواطن إلى متجر جديد عملاق يعمل بنظام حديث مبتكر لبيع الدجاج، وفي الطابق الأول سألته الموظفة بابتسامة مهذبة: «هل تريدها (الدجاجة) مذبوحة أم حية ما تزال؟»، فلمّا قال الرجل ببساطة مُتوقعة: «مذبوحة بالطبع لنتمكن من طهيها فورًا»، ردت الموظفة بابتسامة أوسع: «أخشى أن عليك أن ترهق قدميك لتصعد إلى الطابق الثاني»، وفي الطابق التالي سألت موظفة أخرى نفس المواطن: «هل تريدها مذبوحة ونظيفة أم مذبوحة بلا نتف ريش وما شابه»، فقال الرجل في حيرة من أمره: «بالطبع مذبوحة ونظيفة لنتمكن من طهيها فورًا»، فازدادت ابتسامة الموظفة وهي تقول: «أخشى أن عليك أن تصعد للطابق الثالث»، وفي الطابق التالي: قالت موظفة جديدة: «مذبوحة ونظيفة ومشقوقة البطن أم؟» .. وهكذا حتى وصل المواطن للطابق السادس، بلا مصعد بل بطلب مهذب بعد سؤال منطقي جديد كل مرة.

المشكلة في النظام

وفي الطابق السادس انتظره موظف رجل مفتول العضلات قال له: «باختصار نحن هنا لا نبيع دجاجًا من الأساس.. لكن هل أعجبك النظام؟!».

فيلم اليوم ينتصر لـ«فرانك أبادغيل الأب» باختصار شديد وفق منظومة خطأ النظام السابق الذي يرهقك ولا يعطيك ما تريد لكن وفق النسق الأمريكي، وقد أجاد «سبيلبيرغ» فيه تجسيد الجانب العاطفي المفتقد في الإنسان الغربي بخاصة الأمريكي منذ بداية الولايات المتحدة، وبلفظ أدق افتقاد دفء وحنان الأسرة، فبوسع أي ابن بلغ سن الاعتماد على النفس أو حتى أقل التسرب من المنزل، والخروج إلى الشارع، وبوسع أي أمًّ أن تتخلى عن بيتها وزوجها، بل تتزوج ثانية، بصورة مشروعة أو غير قانونية في الحالتين الإنسانيتين بدرجتيهما أو بلا قانون، والجميع في ظل نظام رأسمالي بالغ القسوة والضراوة والعنف سوف يحصل على المال ليعيش ولو مديونًا مفلسًا لا يملك من الدنيا شيئًا.

لكن حنان ودفء استقرار الأسرة وخواء الروح سوف يُطارد الجميع، كلّ بدرجات وبحسب درجة النبل في داخله، أما في الفيلم فالأب الذي يفقد زوجة وبيتًا مقابل ضرائب باهظة وهو المرموق اجتماعيًا «بولا أبادغيل» أو (ناتالي باي) فسوف يكتفي بما ناله من دفء الأسرة ويعيش على الذكرى حتى ينكسر عنقه، وهو يطارد قطارًا هاربًا من الضرائب، تاركًا وراءه حنانًا مفرطًا على زوجة ريفية فرنسية استقدمها لأضواء نيويورك فجذبتها الحياة ولم ترجعها له «روغر إسترونغ» أو (مارتن شن).

ومثلما وافق الأب على أن يكون في الطرف الأول المنسحب (المنسحق من المنحنى البياني الصاعد)، قفزت الأم لأعلى متقبلة المكانة الاجتماعية مع زوج محامٍ يتعامل مع بنك شهير خانت معه زوجها في البداية ثم بدلته به، وافق الابن ورضي أن يكون في أسفل المنحنى البياني الهابط لكن من الجهة المقابلة أو جهة المجرمين مستغلًا نزعات لم يستطع الأب تنميتها في نفسه.. من رغبة فاشلة في الإجرام أنجحها الابن بل تمادى فيها.

لعب (ليوناردو دي كابريو) دور الابن المجرم الفاسد «فرانك ويليامز أبادغيل» الصغير، أول أشهر المتلاعبين بالشيكات ومزوريها مع انتحال المهن المختلفة (مساعد طيار، طبيب، محام) دون إكمال التعليم من الأساس، وهو دور حقيقي لمواطن أمريكي كان صغيرًا في الستينات ودوّخ الشرطة الفيدرالية وراءه في عدد كبير من الولايات.. قبل أن ينقل نشاطه إلى عدة وجهات عالمية بعدها، وأجاد «سبيلبيرغ» مع كاتب السيناريو تحويل نص «أبادغيل» الابن على الشاشة الكبيرة في عام 2003 بخاصة إيجاد صور ومشاهد للمعادل الموضوعي الدرامي لسبب لأفعاله وسرقته 4 ملايين دولار أمريكي، وهو شعوره بنقص الحنان والحرمان من الأم.

وكأن المزحة والطرفة التي افتتحنا بها التقرير هنا لم تكن (في نسختها الأمريكية) صعودًا من أجل النظام لكن من أجل الترقي المالي والحصول على الخدمات والسلع المطلوبة والسفر عبر العالم كله، لكن مع افتقاد أهم عنصر في التكوين النفسي الحياتي، وجود الأمّ وبالتالي يصبح البطل مجرمًا.

ثنائي «توم وجيري» الأبوي

الفيلم دارت أحداثه في قرابة 144 دقيقة تقريبًا وضم نجمين من ألمع نجوم السينما الأمريكية (دي كابريو) في البطولة المطلقة لكن مع (هانكس) في دور الشرطي «كارل هنتراي»، وهو دور تنازل «هانكس» كثيرًا في بدايته ليبدو غبيًا أمام قدرات ومقالب وطرائف «دي كابريو» حتى إذا حقق الأخير لنفسه ما يناسب مكانته السينمائية.. ترك عنان الأحداث لـ«هانكس» أو «هنتراي» بحسب الفيلم.

مع انفصال الأبوين وإجراءات الطلاق في نهايات الستينات من القرن الماضي يُطلب من «أبادغيل» الابن الاختيار بينهما من جانب زوج الأم المستقبلي، وهو أحد المشاهد الحركية المبدعة في الفيلم دون مبالغات هوليود المعتادة إن لم تكن دائمة، فمع القلم والتوقيع يبدأ مشهد جري الابن ولهاثه في الشارع حتى وهو جالس في مكانه بالحقيقة، في إشارة إلى أن الهرب أكثر رفقًا بابن الخامسة عشرة عامًا من الاختيار بين الأب والأم، كما جاء المشهد التالي أكثر تعبيرًا وهو جالس في فندق يحاول الاستذكار والكاميرا تبحث عن النافذة التي تطل عليها غرفته فلا تجدها للوهلة الأولى؛ في إشارة أخرى أروع إلى بدايات المتاهة وانتهاء مرحلة الدراسة النظامية من حياته بلا رجعة!

ويبدأ «أبادغيل» الابن رحلة النصب بحساب بنكي به مبلغ بسيط أودعه أبوه في البنك باسمه، فالرأسمالية المتوحشة تنشئ اللصوص الصغار بخمسة وعشرين دولارًا، ليصير «أبادغيل» الابن أصغر الذين وضعوا على قائمة المجرمين الخطرين الذين تطلبهم الـFBI على مدى 5 أعوام متصلة، حتى إنه ذات مرة هرب من «هنتراي» المحقق المكلف به مدعيًا أنه من المخابرات المركزية.

الموقف السابق الذي جعل «هانكس» أو «هنتراي» في مكان «جيري» القط (على صواب لكنه عاجز عن التصرف مع القط اللبق أبادغيل الابن أو هانكس ذلك المضحك اللطيف اللبق)، والموقف السابق جعل المشاهد متحفزًا لسلسلة من المواقف المتجددة بينهما، حتى إن الثلث الأخير من الفيلم لا يُخفي أنه تم القبض على «أبادغيل» الابن لكن المشاهد يعايشه منتظرًا هربه مرة أخرى، وهو ما لا يغفله المخرج ويحققه للمشاهد في الدقائق الأخيرة من الفيلم على الطريقة الهوليودية المُبالغة المُعهودة لكن بلمسة افتقاد للحنان رائعة للحقيقة.

لأن المجرم والضابط التقيا فقد عرف كلاهما الآخر، ثم إن «أبادغيل» الابن لا يجد مؤنسًا أكبر منه في الحياة يأنس إليه فيداوم الاتصال بـ«هنتراي» الضابط الذي لا يخفي إعجابه به ولا رغبته في القبض عليه أيضًا حتى يحقق ما يريد ثم ينجح في تجنيده لوحدة خاصة بجرائم المال والشيكات تلحق بالشرطة الفيدرالية منذ عام 1975، ثم تأمين البنوك والمصارف العالمية بما يحقق مئات الآلاف من الدولارات لـ«أبادغيل» حتى اليوم وأيضًا صداقة «هنتراي» التي لم تكن لتتحقق لولا حس أبوته للأول.

أبدع «دي كابريو» و«هانكس» بنسب في الأداء تصاعدت قرب النهاية، وفيما عدا دور «فرانك أبادغيل» الأب أو (كريستوفر والكين) جاء دور بقية الممثلين رتيبًا كالمعتاد ليستحق «والكين» جائزتين غير الأوسكار بالطبع عن الدور.

جاء المكياج ومقاربة الأماكن لحقبة الستينات وأجوائها في أمريكا رائعًا، كما جاء ترتيب الفيلم أكثر من جيد لولا الإطالة في كثير من المشاهد وزج أخرى غير مفيدة، بخاصة في سياق محاولة زواج «أبادغيل» الابن الفاشلة.

فيلم «أمسك بي إن استطعت»: منظومة سينمائية إن شابتها وداخلتها أخطاء لكنها أجادت تجسيد عبارة لو تحققت في منظومة عالمنا الثالث العربي والإسلامي لغيرت مصير آلاف البشر على الأقل.. فبقليل من الصبر والاحتواء والتحمل إن أمكن يمكن أن نصنع أبطالًا من أناس ربما لم يكونوا يتوقعون ذلك!

المصدر | الــــــخــليج الجــــديد

  كلمات مفتاحية

فيلم أمريكي امسك بي إن استطعت Catch me if you can سبيلبيرغ أبادغيل الأب منظومة عالمية تعديل مسار بشري