كيف قتلت حبيبة «أشواك» الجانب العاطفي لدى «سيد قطب»؟! (3 ـ 3)

الأربعاء 24 يناير 2018 11:01 ص

تناولنا في الجزئين (الأول) و(الثاني) من هذا التقرير طرفا من حياة الراحل الشهيد «سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي» المعروف بـ«سيد قطب»، وأوضحنا طرفا من وعود «عبدالناصر» له بعد الانقلاب بالسلامة، وشعور «قطب» بأن أوان الخطر على حياته لم ينته بانتهاء عهد الملكية، وهو الأمر الذي تصاعد حتى إعدام الراحل في 29 من أغسطس/آب 1966، كما أوضحنا أن الراحل كانت له آمال واسعة في الحياة، فليس صحيحا أن الشهداء لم يكونوا من أصحاب الخطط والمشروعات الدنيوية ولكن الأكيد أنهم كانوا يفضلون ما لدى الله تعالى.

أما عن عدم زواج «سيد قطب» والالتباس الحاصل لدى بعض الشباب بظنهم أن الرجل لم يكن لديه وقت للجانب العاطفي، فقد أوضحنا أن رواية «أشواك» التي نشرها الراحل عام 1942 تكشف بوضوح، وحتى من خلال «الإهداء» عن أنها قصة ذاتية وسيرة من بعض طرف الشباب لديه، (الراحل كان مواليد مديرية أسيوط المصرية في 9 من أكتوبر/تشرين الثاني عام 1906)، وكان «الإهداء» يقول:

«إلى التي سارت معي في الأشواك، فدميت ودميت، وشقيت وشقيت، ثم سارت في طريق وسرت في طريق: جريحين بعد المعركة .. لا نفسها إلى قرار ولا نفسي إلى استقرار».

تعمق المأساة

في يوم خطبة الشاب «سامي» (بطل الرواية) إلى حبيبته «سميرة» تكاشفه أن هناك أشواكا في قلبها نظرا لعلاقة سابقة لها مع «ضياء» الضابط، كما تبوح له بأنها لا تنسى الأخير، وأن سبب عدم خطبتهما رفض الأهل من الطرفين، وفيما كانت الآلام تتزاحم في نفس بطل الرواية كانت «سميرة» بداية من موقف يوم الخطبة تحرص على تذكيره بأنها آثمة مجرمة لا تستحق طيبته، وبدلا من إنهاء العلاقة عند هذا الحد، يتمادى البطل بالتضحية بمشاعره، في محاولة وصل وإعادة ما كان بين خطيبته وحبيبها السابق، وهو ما يصطدم برفض «ضياء» له بقوة، وإيقاظ الأخير فتيل الشك بداخل «سامي» بإعلامه أن «سميرة» ذهبت إليه في معسكره في الهرم من قبل، وكانت منطقة الهرم مهجورة آنذاك.

ومع تصاعد خط الشك داخل نفس «سامي» يضطر لإخبار أهل البطلة بما في نفسه فيقاطعونها لتتمسك به قائلة:

ـ «إنني غريبة في هذه الحياة إلا أن أراك» صـ32.

فتجاوبها روحه حتى قبل أن تقول الكلمات السابقة:

ـ «لقد كان أشوق منها إلى تمضية كل دقيقة بجانبها» صـ28.

والرواية التي تدور في أجواء الثلاثينيات الأدبية والفنية المفعة بالرومانسية، المتصلة بقوة بالرغبة الجارفة بالتضحية بالنفس في سبيل سعادة المحبوب، وأيضا التماس والتداخل مع أن القدر، وأن مشاعر الإنسان مهما تدفقت لا يمكنها تحدي الظروف المحيطة، بخاصة أن امرأة من الوجود كافية بجعل المبدع (روائيا أو قصصيا أو شاعرا) يستغني عن جميع النساء، فإن لم يجد لدى واحدة منهن ما يريد فلا حاجة به إليهن جميعا، موقف عبر عنه في أشعاره «إبراهيم ناجي»، وتجربة تكررت مع الراحلين «الطاهر أحمد مكي»، و«جمال حمدان»، رحمهم الله.

وتعمد «سميرة» إلى ما لا يرضاه بطل الرواية من محاولة جذبه إليها جسديا بصورة تبدو تلقائية، وهو ما ينهيه ويحسمه بالقول:

ـ «كانت تربيته الأولى في بيئة محافظة متطهرة» صـ33.

وينطبع الموقف الأخير على نفسه فلا يفارقها، بخاصة لما تذكره «سميرة» نفسها بعد قليل:

ـ «سأقول لك الحق إنني مجرمة» صـ39.

وتستحيل كل لفتة بين الخاطبين عذابا لا يطيقانه، فإن اختارت كتابا من شقته في زيارة لها بصحبة أختيه، وقرأت فيه عن الخطيئة ظنت أنه قصدها ودبر الموقف كله، وإن خرجت معه ورأهما عابر ظن أن علاقة كانت بينهما، ويأتي ملخص المرحلة الدقيقة من الرواية مع الاستعداد الكامل للزفاف في وصف البطل وتقريره للأحداث:

ـ «كان كل شيء في الظاهر يندفع إلى الأمام، ولكن تيارا مغادرا كان يسير في الخفاء» صـ46.

وفي إحدى مشاجرات الخطيبين يريد «سامي» ملاطفة «سميرة» بالقول إنها «صغيرة» فتسمعها «حقيرة» صـ48، وتأبى وترفض نفسه الاعتذار، ويتقبل إنهاء العلاقة لكن نفسه لا تهدأ بعدها.

العذراء الأولى

إنها التجربة الأولى في حياة بطل الرواية، ومع مناطق التماس الشديدة بين المنعطفات الحادة في الرواية وتوضيح حقيقة المشاعر التي دارت لدى «سامي» ففي صـ68 يقول عن حيرته بعدما مضى بدونها «كأنما هو في بحران»، والأصل بحرين وحدة العاطفة تنسي بسيط قواعد اللغة أحيانا، ولو كان الكاتب درعميا أو خريجا لكلية دار العلوم.

أما التعبير المقبل فمن أجمل ما يقرأ في مجاله إذ يجد لها صورة منسية بين أوراقه بعد الفراق فيهمس لنفسه:

ـ «إن هناك وليدا نائما هناك يخشى عليه من الضوضاء» صـ56.

وبرغمه يركب الترام إلى حيث تقيم، ويحتفي ببواب العمارة، ويسأل عنها حتى بعد مغادرتها البيت مع أهلها، بل يحلم بها وهي متجردة تهتف به في الحلم أنها ليست «عذراء»، فلا يصمت فيزورها طالبا الحقيقة فتقول إنها بالفعل «عارية» أمامه لأنه يعرف تاريخها، ولأنها ليست فتاة خياله التي يكتب عنها في الإذاعة المسلسلات بل هي التي:

ـ « ..لو عرفتها على حقيقتها ما كتبت عنها سطرا واحدا» صـ66.

وتكرار مفردات وسياق يؤكدان أن محبوبة البطل «سميرة» خاطئة، مجرمة، حقيرة، لو عرف عنها حقيقتها ما كتب (البطل) عنها شيئا؛ إنما هو هاجس لدى الكاتب أن يكون ظلمها أمام نفسه قبل القارئ، لذلك يختار تكثيف هذه المفردات والبحث عن أسباب منطقية في الحياة لها، ووقائع موضوعية يتناولها في أحداث الرواية، ثم هو بعد ذلك مدان لدى نفسه، تحرص لغته على بيان أنه ضحية ليس إلا وأنها وأنها ..

لكن «سميرة» ترفض وصل قصتها معها، وتودعه بنبل، فيجب أن تدفع ثمن ما فعلت، وهو قرار فرض عليه، ليلتقيها بعد سنوات من الفراق في وسط البلد قرب دار للسينما خارجة منها ومعها ابن سمته باسمه (!)، ليندم أنه لم يتم ما بدأه بخاصة وهي تبكي بعدما فارقته، ويلوم جميع مفردات الأحداث التي فرقت بينهما، وفي مقدمتها نفسه، محاولا تسوية القصة معها، فماذا لو أنه ارتبط بها، وغفر لها ما كان بل اعتذر:

ـ «خيالات وما الفارق بين الخيال والواقع .. كلاهما طيف عابر يلقي ظله على النفس ثم يختفي من عالم الحس بعد لحظات».

جاءت اللغة في الرواية متوسطة بين القديمة المحملة بالبلاغة الشديدة والتي كان يكتب بها «طه حسين» و«الرافعي» على سبيل المثال والمحدثة التي كتب بها «نجيب محفوظ» و«عبدالحميد جودة السحار»، وإن كانت (اللغة) سردية غير مكثرة من الحوارات، إلا أنها حملت ببواطن النفس البشرية بخاصة في ظل أجواء القلق والشك والحيرة، على أن رمزية اسمي البطلين تبقى ذات دلالة رائعة في لغة الراوية بخاصة في ظل المفارقة بينهما وبين الواقع فـ«سامي» لا يعرف التسامي والصفح ولا يتمكن حتى من ذلك إن أراده، و«سميرة» لم تكن مسامرة للبطل بل مصدر أحزان وأتراح حملها البطل نتيجة معرفته وعلاقته العاطفية بها  لسنوات طويلة!

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

رواية أشواك سيد قطب عبدالناصر إبداع رومانسية تسامي سمر حيرة معاناة التجربة الأولى