شاهد.. هل تعمدت «جيهان السادات» اغتيال «أم كلثوم» معنويا؟

الثلاثاء 6 فبراير 2018 05:02 ص

يوم التقت المطربة الراحلة «أم كلثوم» بالرئيس الراحل «محمد أنور السادات»، بعد توليه حكم مصر، بحضور زوجة الأخير «جيهان السادت»، كان يومًا حافلًا بالنسبة للسيدتين.

إذ تقدمتْ «أم كلثوم» من «السادات»، وبحب الطرفة والنكتة التي اعتادتهما طوال حياتها، فضلا عن رصيدها في الحوار والمواقف معه ومنها وداعه لها من قبل عند سفرها إلى مستشفى البحرية الأمريكية للعلاج من الغدة الدرقية، في عهد سابقه الراحل «جمال عبدالناصر»، وكانا يحضران معا حفلاتها، وكان «عبدالناصر» الشديد الطبع يتبسط معها.. لكن «أم كلثوم» فعلتها وانتهى الأمر، قالت لـ«السادات» في حضور زوجته:

ـ «مبروك يا أبو الأنوار..!».

و«أبو الأنوار» لقب أُطِلقَ على «السادات» نسبة لاسمه الثاني «أنور»، وهو لقب شديد الخصوصية، ولعله هو نفسه كان يستخدمه في مناسبات خاصة، ومنها ما يُتداول عنه شفهيا من أنه لقي طلبة من جامعة القاهرة، والأرجح أن اللقاء سبق حرب أكتوبر 1973؛ حيث المظاهرات والصخب الشبابي، وتدخل المُثقفين ضده ومنهم الراحل «توفيق الحكيم» على أشده، فلما ضاق «السادات» ذرعا بلغط الشباب وأصواتهم قال:

ـ «إذا كنتم نورا (نَور كلمة شعبية مصرية تطلق على المزيفين وأشباه اللصوص الصغار والكبار) فأنا أبو الأنوار (نسبة إلى اسمه الثاني كما أوضحنا)، وإذا كنتم سادة فأنا السادات!».

فضحك الطلاب واستمعوا إليه.

لكن السيدة، أو سيدة مصر الأولى فيما بعد، «جيهان السادات»، لم تضحك لكلمات «أم كلثوم»، ورؤوس وكبراء الدول لطالما تشوقوا لكلمة منها، ولم يكونوا يكتفون بالضحك فقط، من مثل زيارة «أم كلثوم» لتونس في عام 1968، ومرورها بأحد القصور مع الرئيس الراحل «الحبيب بورقيبة»، وقوله لها إنه كان أثرًا صغيرًا فبناه وعظّمه .. فقالت على البداهة:

ـ «يعني زارار جاكتة وأنت جعلته بذلة كاملة!».

قالت «جيهان السادات» على البداهة ردا على كلمتي «أبو الأنوار» لـ«أم كلثوم»، وأمام جمع حاضر في حفل غير قليل حاضريه:

ـ «أبوالأنوار.. دي (هذه) لا تقولينها لرئيس دولة.. لو كان جمال عبدالناصر حيا أتحداك لو قلتها له».

أما «السادات» فتشاغل ولم يتدخل لإصلاح الموقف، وأما زوجته فظلت تنظر لـ«أم كلثوم»، وقد بلغت حينها الثانية والسبعين من عمرها (بحسب أقرب الآراء للثقة كان تاريخ ميلاد أم كلثوم 1898، وإن قيل 1902 أو 1904، واعتمد 1908 في جواز سفرها).

وعلى جميع الآراء كانت «أم كلثوم» بمنزلة سيدة مصر الأولى، التي تتعامل معاملة زوجات الرؤوساء والملوك (في العام التالي للقاء الذي تم بينها وبين السادات وحرمه حضرت أم كلثوم حفل إعلان اتحاد الإمارات في 2 ديسمبر/كانون الأول بصحبة نخبة من كبار الشخصيات بل رفعت علم الدولة الوليدة في ذلك الوقت).

انسحاب ومرض

لم يكن أمام «أم كلثوم» إلا لملمة ما تبقى من كرامتها في موقف «السادات» وحرمه والانسحاب بهدوء من الحفل والانزواء مع أمراض الشيخوخة التي بدأت تداهمها، حتى أن بعض الأغاني التي كانت تؤديها وتصعد عبرها السلم الموسيقي بسهولة ويسر صارت تجد مشكلة في أدائها (غنت أم كلثوم لأحمد شوقي سلوا قلبي بيسر وتمكن قبل عام 1955 ثم بكت لما لم تسطع أداءها على النحو الأمثل بعدها).

وفي آخر حفلاتها وأغانيها اعتمدت الآلات الموسيقية الكهربائية العالية الصوت لتغطي على قدرات صوتها المُنسحبة، بما فيها جيتار الراحل «عمر خورشيد» وأورج «مجدي الحسيني»، وهو ما عابه عليها الراحل «فريد الأطرش» في حياتها بقسوة.. لما رفضت الغناء له فألمح إلى أن قدراتها الصوتية لم تعد تسعفها لتفعل، وأن أغانيها بعد «الأطلال» و«أنت عمري» لم تعد تليق بها (غنت أم كلثوم أنت عمري بتدخل شخصي من الرئيس عبدالناصر آنذاك.. للجمع بينها وبين الراحل عبدالوهاب عام 1964، وغنت الأطلال من تلحين رياض السنباطي بعد وفاة كاتبها إبراهيم ناجي في عام 1953.. وتغنت بالأبيات المُنتقاة من شعر ناجي عام 1966).

كما عاب «فريد الأطرش» استمرار «أم كلثوم» في الغناء، وردد أن عليها أن تتمسك بقرار اعتزال الفن الذي اتخذته عام 1970 عام رحيل «عبدالناصر»، (توفي فريد الأطرش قبل أم كلثوم بـ37 يومًا فحسب في نهاية عام 1974 عن 57 عاما؛ إذ كان من مواليد سوريا عام 1917).

سر بكاء «أم كلثوم»

ولدت «أم كلثوم» لأسرة ريفية بسيطة المستوى في قرية طماي الزهايرة التي تتبع مدينة السنبلاوين بمحافظة الدقهلية (دلتا النيل/شمال)، ولم تستطع إكمال تعليمها في الكُّتّاب؛ لأن أبيها لم يكن يملك دفع قرش للشيخ.

وقالت في حلقات إذاعية عن تاريخ حياتها أنها تعلمت الإيقاع من عمل أبيها وأخيها الأكبر «خالد» في الإنشاد الديني في المناسبات المختلفة، ومن دوام استماعها إلى صوت نقط الماء الصادرة عن الزير (إناء فخاري كبير لتبريد الماء).

وجاءت القاهرة بصحبة الأسرة لتنشد في البداية حتى تعرفت على الراحل «أبوالعلا محمد»، وقيل تزوجته، ثم تعرفت على الملحن «محمد القصبجي» وقد ذاع صيتها بعد تلحينه لها أغنية «رق الحبيب»، وفيما بعد تجاوزته وجعلته فردا في فرقتها بعد قائد، وروت الكاتبة «صافيناز كاظم» أنه فاتحها بحبه فقالت على البداهة:

ـ «يا راجل روح وأنت وجهك مثل الـ... »، وذكرت كلمة غير مناسبة.

وكانت «كاظم» تؤكد على بشرية «أم كلثوم» أمام محاولات تأليهها فنيا بعد مسلسل «أم كلثوم» لـ«صابرين» تأليف «محفوظ عبد الرحمن» وإخراج «أنعام محمد علي» عام 1999، مثلما كان طليق «كاظم» الراحل «أحمد فؤاد نجم» أحد ألد أعداء «أم كلثوم» من الأدباء، وهو ما نعود إليه بعد قليل.

خلال مسيرتها حرصت «أم كلثوم» على جمع المال لتعويض ما فاتها وأسرتها، ثم التقرب من الحكام ما أمكنها، وهو ما ظهر بوضوح مع الملك «فاروق»؛ حيث كادت أن تتزوج من خاله «شريف صبري» لولا معاندة سيدات الأسرة المالكة.

وذهب الملك لحفلها في النادي الأهلي في سبتمبر/أيلول 1944 قائدا سيارته بنفسه، فغيرت واستدعت «قفلة» (ختام) أغنية «يا ليلة العيد أنستينا» لـ«أحمد رامي» لتجعلها: «والليلة عيد على الدنيا سعيد، عز وتمجيد لك يا مليكي»، بدلا من «وأنت حبيبي» كآخر كلمتين ليهديها الملك «وسام الكمال» من الدرجة الثالثة المخصص للعائلة المالكة، ولتصبح أول فنانة تنال وسام أبناء الملوك.

وبعد يوليو/تموز 1952 مُنعت أغانيها من الإذاعة، واعتبرت من العهد الملكي البائد، لولا تدخل «عبدالناصر» بنفسه، والأخير أدرك أنه لا «عبدالحليم حافظ»، رغم حبه الشديد للتقرب من رجال السلطة، ولا غيره يحل محل «أم كلثوم» في التعبير عما أطلقَ عليه ثورة وبالتالي كسب الجماهير العربية بعد المصرية عاطفيا.

وكان من قربها من «عبد الناصر» أنه أمر بمنحها جوازا أحمر دبلوماسيا، وجعلها كمثل سيدة مصر الأولى لما كانت زوجته الراحلة «تحية كاظم» لا تحب الظهور علانية، ثم إنها غنت له أغان وطنية ذاكرة اسمه تحديدا بما لم تفعله «أم كلثوم» من قبل، وكانت معبرا عن السلطة لدرجة توسط «عبدالناصر» بينها وبين «عبدالوهاب» ليلحن لها، ولدرجة أنها وقفت قبل حرب 1967 في حفلها في أول مايو/أيار من نفس العام لتقول:

ـ «في الشهر المقبل سأغني في تل أبيب».

فردت عليها «جولدا مائير»، رئيسة وزراء (إسرائيل) في ذلك الوقت من تل أبيب قائلة:

ـ «أتحداك لو غنيت الشهر المقبل في القاهرة».

ولم تغن «أم كلثوم» في يوليو/تموز 1967، واعتكفت في فيلتها في الزمالك حتى أمرها «عبدالناصر» بالغناء فكانت حفلاتها لنصرة المجهود الحربي.

لكنها في حكم «عبدالناصر» صارت سلطة يحسب لها حسابات بالغة التعقيد، حتى أن فتى مصريا يدرس مر بفيلتها في الزمالك فعضه كلبها، فتمت المبادرة بتحرير محضر ضد الطالب بأنه اعتدى على الكلب، وهو ما تناوله الراحل «أحمد فؤاد نجم» بقسوة في قصيدته «كلب الست» في أوائل الستينيات!

وفي مايو/أيار 1971 وقفت «أم كلثوم» تغني بعد حوارها مع «جيهان السادات»، وقد فهمت أن الأخيرة تريد أمرًا كاستحداث لقب «سيدة مصر الأولى».

وأثناء غنائها «ومرت الأيام» (شاهد جزء الحفل الذي بكت فيه أم كلثوم بعد حذف فترة غلق الستار) تأليف الراحل «مأمون الشناوي» وتلحين «محمد عبدالوهاب»، وكانت غنتها قبل رحيل «عبدالناصر» بأشهر قليلة (عام 1970)، والأغنية أحد ثمار تدخل «عبدالناصر» ليلحن لها «عبدالوهاب» .. فاض بـ«أم كلثوم» فقد شعرت أن العالم الذي اعتادته يُسحب من تحت قدميها، فلم تعد لها مكانتها، وجاء وقت بكائها عصر «عبدالناصر» كله، فلم يعد الأصدقاء على قيد الحياة وكانوا يتقربون وتمتنع أحيانا.. من «زكريا أحمد»، لـ«بيرم التونسي»، وحتى «محمد القصبجي»، وصولا لـ«عبدالناصر» نفسه وأغلب أسرتها.. وفي المقطع الذي يقول:

«ومرت الأيام

وهل الفجر بعد الهجر بلونه الوردي بيصبح».

بكت كما لم تبك على المسرح من قبل، ويبدو أن المُقابلة والمُفارقة والتضاد بين الفرحة التي تحكي الأغنية عنها، وتقبلها الإهانة من حرم رئيس الدولة بعدما كانت بمثابة ومنزلة «دولة فنية» داخل الدولة المصرية بل الأمة العربية، يبدو أن المفارقة مع شيخوختها ومضي عصرها، آلمتها حتى لتنهار وتطالب بإغلاق الستار حتى تعود متمالكة نفسها.

لم تقتل «جيهان السادات» «أم كلثوم» أو تغتالها بمعنى الكلمة.. لكنها آلمتها في شيخوختها، و«أم كلثوم» هي المُعتادة على تدليل الجميع لها، حتى أنها بعد ذلك وفي مرض موتها يتصل بها الأمير الراحل «عبدالله الفيصل» (غنت له أم كلثوم ثورة الشك ومن أجل عينيك) فيقول لها:

ـ «حاسه بإيه؟».

فتقول على البداهة:

ـ «جوعانة!».

فيبادرها بالقول:

ـ «هل أرسل لك عجلا مشويا على طائرة خاصة فورا».

هكذا اعتادت أم كلثوم المعاملة من الجميع بعدما استوت على عرش الغناء العربي لا المصري فحسب، لكن الأيام ومرورها لا يُبقي على أحد أو عادة، وبوفاة «أم كلثوم» عن 77 عامًا (في أرجح الآراء) في 3 نوفمبر/شباط 1975 خلا الجو واستحدثت «جيهان السادات» بعد حين لقب «سيدة مصر الأولى» ولم تكن لتناله في حياة «أم كلثوم».

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

مصر أم كلثوم الملك فاروق عبدالناصر السادات جيهان السادات