الفيلم الإيطالي «أفضل عرض» .. متاهة أن نفقد «حسنا الاستراتيجي»!

الأربعاء 14 فبراير 2018 08:02 ص

المخرج الإيطالي «جوزيبي تورناتوري» (62 عاما) يواصل في فيلمه «أفضل عرض أو The Best Offer» رحلة مميزة في استكشاف النفس البشرية، ففي كل فيلم ناجح من أفلامه بصمة نادرة تثبت أن الإنسان لا يختلف باختلاف الأماكن والأزمنة واللغات بل تظل النفس البشرية المعذبة واحدة في جميع الحالات وعبر مسيرة الإنسان منذ القدم حتى نهاية البشرية.

ولد «تورناتوري» في جزيرة صقلية لأسرة فقيرة، وتدرج في المهن مما أكسبه قدرة نادرة على فهم آلام الآخرين وأيضا مصدر سعادتهم المبالغ فيها، ومنذ فيلمه الآخاذ «سينما بارديسو» إنتاج 1988، وحصوله على «الأوسكار» لأفضل فيلم مترجم عنه، وهو يواصل مسيرة إخراجية تخبو حينا، ولكن تبقى فترات الازدهار تبدع أفلاما بالغة الرقي تجعل المشاهد أكثر نبلا بعد مشاهدتها.

في الأديان السماوية تحذير من ضراوة الوقوع في تجربة تحمل النفس ما لا طاقة لها به .. فتشقيها وتكلفها ما تملك بل قدرتها على المسير واستكمال الحياة، والمعنى الأخير نجده في كلمات من التوراة (ربنا لا تدخلنا في تجربة)، كما نجده في «القرآن الكريم»: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) من الآية 286 من سورة البقرة، أما سبب الاستشهادين فنتعرف عليه في السطور المقبلة.

لا تفرح

تدور أحداث فيلم اليوم حول «فيرجل أولدمان» أو الممثل الأسترالي «جيفري رش»، خبير التحف الأثرية الإيطالي الأول في مجاله، يكسب ملايين اليوروهات، ويكتسب شهرة عالمية في مجال اكتشاف اللوحات والقطع الفنية الأصلية، وفي نفس الوقت يحرص على صنع مسارين مزيفين لحياته الأول مهني يلغي الصورة السابقة المعروفة في العلن عنه.

أمام الآخرين يبدو «أولدمان» مهندما، شديد العناية بملابسه وقفازاته وسهراته، وأيضا محاطا بمجموعة من المساعدين ومكتب فخم يوحي بالنزاهة والاحترافية والاحترام، أما الحقيقة فإن الخبير الأشهر في التحف واللوحات عبارة عن أناني يبيع للناس لوحات من الطبقة الأصلية الثانية أو الأقل جودة، ويساعده «بيلي (دونالد ساذرلاند) أو شخص الظل البديل للمكتب الفاخر والشخصية اللامعة، فيقوم الأخير بعمليات قذرة الغرض منها إيهام العملاء بأنهم أمام لوحات وتحف بالغة الندرة بالمزايدة على السعر ورفعه في المزادات واستفزاز المشاركين لدفع أكبر رقم ممكن.

ويتعمد «بيلي» تمرير اللوحات النادرة لـ«أولدمان» في الظل ليحتفظ الأخير بها في خزانة سرية، أما اللوحات النادرة فقد استعاض خبير التحف واللوحات العالمي بها عن المرأة في علاقة مع الجماد تغنيه عما ستجره علاقته بالأنثى من متاعب هو في غنى عنها.

وهذه اللوحات التي تصور المرأة في جميع مراحل حياتها وأوضاعها الحياتية تقود للجانب الحياتي العاطفي الخفي من «أولدمان» المرهوب الجانب، الذي يقيم ويدخل في أفخم الأماكن ولا يجرؤ متطفل على الاقتراب منه، إنه في الحقيقية يتيم الأبوين نشأ في ملجأ، وعرف المرأة من خلال الراهبات اللواتي اكتشفن قدراته على ترميم التماثيل فجودنها وكن يكلفنه بالشاق من الأعمال طوال الوقت.

ومع تصاعد أحداث الفيلم يطمح «بيلي» المساعد في العمليات القذرة في دور أكبر من الحصول على الأموال، فهو يرى نفسه فنانا قادرا على إبداع لوحات مماثلة لما تباع في المزادات، ولإدراك «أولدمان» لحقيقته يسخر من رجاء مساعده ويمضي في حياته.

وفي ذكرى ميلاد «أولدمان» يرفض الاحتفال قبل الموعد لإيمانه بالخرافات على حد قوله، ويقرر الرد بنفسه على أول مكالمة تهنئة لتظهر «كلير إيبستون» (سيلفيا هويكس) في حياته، وبالتدريخ وفي أجواء بالغة الغموض توهمه أن لديها مخزونا كبيرا من التحف ورثته عن أبويها، وانها تريد بيعه بمعرفته، وعلى سبيل التشويق تتركه في أول موعد يقف ببابها ثلثي الساعة، وفي المرة الثانية وبعد اعتذارات تتركه للحارس، وفي الثالثة والرابعة تقنعه بأنها مصابة برهاب مواجهة الآخرين أو الخروج من منزلها (Agoraphobia)، وأمام كم التحف الهائل الذي يراه يقتنع «أولدمان» بما يراه.

وبحس العالم المنصرف عن كل ما في الحياة المنهك في عمله المتناسي لجفاف عواطفه، الحريص على عدم لمس البشر أو التوغل في التعامل معهم، يشعر أنه أمام فتاة جميلة يريد علاجها والاستحواذ على اهتمامها فيبدأ في استشارة صديق «بيلي» أو الفني الماهر في التكنولوجيا «روبرت» (جيم ستورغس).

وتتصاعد الأحداث مع انتكاسة حالة «كلير» مرة بعد أخرى، وتوغل «أولدمان» في ما بعد الشفقة عليها، وهي الفتاة الجميلة العشرينية العمر وهو الرجل الستيني، وتتوغل العلاقة بين الأخيرين حتى لا يطيق ابتعادها، ويدمن استشارة «ربروت» في كيفية إقناعها بعشقه لها، فيما تدمن صديقة «روبرت» «سارة» إقناع «أولدمان» أن «روبرت» غارق في محبة «كلير» مثله!

وحسما للأمر يقرر «أولدمان» استضافة «كلير» في بيته وإدخالها، كامرأة حقيقية، مخزن لوحاته الأصلية الأكثر جودة ونفاسة كامرأة حقيقية يضيفها لعالم ظلال النساء الذي عايشه لعشرات السنوات، ويقرر الخروج من عالم ضيقه بالبشر لتكوين عائلة صغيرة عبارة عن «كلير و«روبرت و«سارة مقتنعا أنه مع صحبة من المحبين، وهو الذي طالما رفض صحبة أعيان وسياسيي وكبراء المجتمع.

وفي وسط نشوته الكبرى بمحبة «كلير» ونجاتها من مرضها يقرر السفر للعرض الأخير والمزاد الأروع في حياته، وفي لندن يغيب يومين ليعود مكتشفا الحقيقية.. اختفت غرفة اللوحات الخاصة بالنساء في حياته، واختفت صحبة «كلير»، أي ضاعت المرأة من حياته جمادا نادرا وإنسانة محبة.

ففي غمرة فرحه بوجود حبيبة له (كلير) نسي «أولدمان» أنه ما من مرة ذهب فيها إلى فيلتها الأثرية إلا ووجد التحف واللوحات في أماكن مختلفة مع أن المفروض أن الفيلا مهجورة، وأن المرأة القزمة في المطعم المواجه للفيلا تملك الأخيرة لكن بلا تحف ولا لوحات، وأنه مع دخوله المطعم مرات كانت الحقيقة تحت يديه ومن فرط نشوته بالحب المزيف تركها، وتمادى مع الفيلا وصاحبتها الوهمية ونقل التحف واللوحات إليها كل مرة يزورها.

تزييف اللوحات والبشر

ولأنها أول صدمة حقيقية له في الحياة فقد ظن «أولدمان» أنه يعيش علاقة حب مزيفة له عبق الحقيقة أو بقاياها، كما أن اللوحات المزيفة التي كان يتعامل معها لها عبق المزيفين وحرصهم ألا واعي على ترك لمسة شخصية على لوحات يقلدونها لغيرهم، فيرفض التاجر والخبير الماهر إبلاغ الشرطة، بل يسافر لمطعم ذكرته حبيبته ذات مرة له، ويجلس في انتظارها مصرا على أنها بالفعل تحبه وستجيء!

وقصة الفيلم في حقيقتها أن الجميع أصدقاء «بيلي» من «كلير» لـ«روبرت» إلى سارة وقد سلطهم عليه انتقاما من عدم إيمان «أولدمان» بموهبته، أو تقدير خدماته في رفع سعر لوحات أقل نفاسة وإعطائه (أولدمان) أعلى اللوحات للاحتفاظ الخاص في متحفه الشخصي.

جاءت الموسيقى التصويرية جيدة للإيطالي «إنيو موريكوني»، وإن جاء المونتاج حافلا بأخطاء ظاهرة للعيان، وبدا جميع أبطال الفيلم مهرولين خلف الأداء الرائع للأسباني «جيفري رش» في دور بطل الفيلم.

فيلم أفضل عرض ملخصه مقولة أحد النصابين (روبرت) للبطل أنه إذا تورط في الحب سيخسر حسه الاستراتيجي في الحياة، وهكذا هي كل علاقة عاطفية تبدو غير متكافئة في السن أو التعليم أو الدرجة الاجتماعية، اللهم إلا ما ندر أو ما كان يحلو لكاتب بريد جريدة «الأهرام» المصرية الراحل «عبدالوهاب مطاوع» أن يسميه: «شاذ الفتيا الذي لا يقاس عليه»؛ وهو في النهاية ما حذرتنا الأديان السماوية من الوقوع فيه، أو في حالة من الفرح والانتشاء بحالة دنيوية بخاصة مع عدم مناسبتها ومرارة تجربتها التي تحملنا ما لا طاقة لنا به!

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

فيلم إيطالي جوزيبي تورناتوري أفضل عرض أو The Best Offer انتشاء تجربة طاقة خبير جفاف عاطفي لوحات تحف