قيادة البحر الأسود.. هل حان وقت اقتناص تركيا فرصة ضعف روسيا؟

الجمعة 3 مارس 2023 11:31 ص

"تقتنصها أو تفقدها".. بهذا التعبير وصفت الباحثة في مركز الدراسات التركية الحديثة بجامعة كارلتون الكندية، يفجينيا جابر، الفرصة الاستراتيجية التي تلوح لتركيا مع توالي العقوبات الغربية لإضعاف روسيا.

وذكرت يفجينيا، في تحليل نشره موقع مؤسسة "المجلس الأطلسي" البحثية، وترجمه "الخليج الجديد"، أن تركيا اختارت، منذ بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، إجراء توازن دقيق، بدا أنه يمثل استراتيجية محفوفة بالمخاطر، ولكنه كان ناجحا بشكل عام.

فمع المصالح التي تربط تركيا بكل من روسيا وأوكرانيا، دعمت أنقرة باستمرار أوكرانيا سياسيًا وعسكريًا دون عزل روسيا اقتصاديًا.

ولعبت أوكرانيا دورًا حاسمًا في ردع الحشد العسكري للكرملين في البحر الأسود الذي يشكل أيضًا تهديدًا لتركيا، وبالتالي عززت تركيا موقعها في المنطقة من خلال دعمها لأوكرانيا.

وفي الوقت نفسه، يمكن للوجود الروسي في سوريا أن يخلق مشاكل لتركيا من خلال زعزعة استقرار المناطق الحدودية والتسبب في تدفقات جديدة للاجئين.

كما أن روسيا لاتزال مصدرًا رئيسيًا لواردات تركيا من الطاقة، ما شكل إلى حد كبير رغبة تركيا في إبقاء قنوات التعاون مع روسيا مفتوحة.

لكن بعد عام من شن روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا، وصلت فوائد مثل هذا التوازن التركي إلى أقصى حدودها، وبدت أنقرة الآن بحاجة إلى استراتيجية إقليمية جديدة، تتسم بالجرأة والطموح والوضوح، حسبما تراه يفجينيا.

القيادة المبكرة

ورغم تحذير الولايات المتحدة وأوروبا من الآثار المترتبة على ازدهار التجارة مع روسيا التي تخضع لعقوبات متزايدة، حظيت تركيا بإشادة أوكرانيا والغرب لرفضها الحازم الاعتراف بالضم غير القانوني لشبه جزيرة القرم.

وكانت تركيا أيضًا أول دولة تزود أوكرانيا بطائرات حربية مسيرة عندما كان الشركاء الآخرون مترددين بشأن مساعدتهم العسكرية، كما ساعد قرار أنقرة بإغلاق مضيق البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية الروسية في منع التصعيد في البحر الأسود.

وفي الوقت نفسه، ومن خلال الحفاظ على علاقات وثيقة مع "الصديق العزيز" الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تمكن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من وضع تركيا كوسيط محوري في الصراع، ما يسلط الضوء على نجاحات عمله المتوازن، إذ سمحت له هذه العلاقة الشخصية بإحضار الزعيم الروسي إلى طاولة المفاوضات، وإن كان ذلك بنتائج عملية قليلة.

وساعدت الصفقات الدبلوماسية التي توسطت فيها تركيا، مثل مبادرة الحبوب أو تبادل الأسرى، على حل القضايا الإنسانية الملحة، وذلك رغم أن أنقرة لم تتمكن من التوسط في وقف إطلاق النار أو محادثات السلام الشاملة، وعزز ذلك من موقف تركيا في المنطقة وخارجها.

وكانت لهذه الاستراتيجية مزاياها الواضحة بالنسبة لتركيا في الأشهر الأولى من غزو أوكرانيا، قبل أن يضعف الجيش الروسي بشكل كبير على أيدي القوات الأوكرانية، وبدأت تظهر أدلة على الفظائع الروسية الجماعية في أوكرانيا، وانهيار كل أمل في التوصل إلى حل سلمي، فقد تغير الوضع بشكل كبير منذ ذلك الحين، لكن سياسة تركيا الإقليمية لم تتغير.

تصحيح المسار

ساعدت طائرات "بيرقدار تي بي 2" التركية المسيرة أوكرانيا في الأيام الأولى للحرب، ورغم قيام الحلفاء الآخرين بتكثيف دعمهم العسكري لأوكرانيا والالتفاف حول كييف في تحالفات لإرسال الدبابات والدعوة لإرسال طائرات، لكن دور تركيا طغى عليه.

ووفقًا لـOryx، وهي مجموعة أبحاث استخباراتية مفتوحة المصدر، فقد أرسلت تركيا إمدادات عسكرية إلى أوكرانيا بخلاف الطائرات القتالية، لكن رغبة أنقرة في إبقاء مساعدتها العسكرية لأوكرانيا منخفضة، بسبب الحساسيات مع روسيا، خلقت صورة مشوهة لموقف تركيا من هذه الحرب.

ورغم مكانة تركيا كثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي "الناتو" وطموحات أنقرة الدبلوماسية، لكن دولًا أصغر، مثل بولندا ودول البلطيق، كانت الأكثر صراحة في إدانة الفظائع الروسية بأوكرانيا وتولت زمام المبادرة في التحالفات الدولية لردع العدوان الروسي في المنطقة.

وسمح تعاون تركيا الاقتصادي مع روسيا بإيجاد بعض الحلول قصيرة المدى، لكنه ترك تأثيرًا سلبيًا طويل الأمد على التصور العام لتركيا في أوكرانيا والغرب.

ووفقًا لاستطلاع حديث أجراه مركز أوروبا الجديدة، فقد قفز مستوى عدم الثقة بأردوغان بين الأوكرانيين من 19.5% في عام 2021 إلى 46.6% في عام 2022.

ومن وجهة نظر براجماتية بحتة، حذر بعض الاقتصاديين من أن تعميق الروابط مع الاقتصاد الروسي المتدهور قد يجر تركيا إلى "كارثة اقتصادية".

ورغم تضاعف التجارة بين روسيا وتركيا بين عامي 2021 و2022، لتصل إلى 68.1 مليار دولار، لكن أكبر سوق لتركيا لا يزال هو الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ حجم التجارة 196.4 مليار دولار في عام 2022، ما يجعل علاقات أنقرة مع الشركاء الأوروبيين أولوية رئيسية.

 سلام تفاوضي

وهنا تشير يفجينيا إلى أن احتمالات التوصل إلى سلام عن طريق التفاوض مع النظام الروسي، والتي كانت تركيا تضغط من أجلها منذ فترة طويلة، أصبحت الآن غير واردة أكثر من أي وقت مضى.

وإضافة لذلك، انتهك بوتين بشكل صارخ معظم التزاماته السابقة لأردوغان. فعلى سبيل المثال، قصفت روسيا ميناء أوديسا البحري، ما قوض صفقة الحبوب التي أبرمت بإسطنبول في اليوم السابق.

وأعرب المسؤولون الأوكرانيون عن مخاوفهم من استخدام روسيا السفن التجارية لنقل الأسلحة عبر مضيق البسفور، وهو ما يعتبره الخبراء انتهاكًا واضحًا لاتفاقية مونترو.

وإضافة لذلك، عرقلت روسيا عمل ممرات الحبوب التي تتوسط فيها تركيا، كما عرقلت الملاحة في البحر الأسود دون رد فعل من أنقرة.

ولم تتردد تركيا أبدًا في اللعب بقوة عندما كانت مصالحها على المحك أو عندما تعرضت طموحاتها الإقليمية للتحدي. فاحتلال روسيا للبحر الأسود يقوض ليس فقط جهود تركيا لتخفيف أزمة الغذاء العالمية ولكن أيضًا نظام مونترو، الذي يمنح السفن التجارية وصولاً غير مقيد إلى المضائق التركية.

كانت صفقة الحبوب، التي سمحت ببعض الصادرات الزراعية من الموانئ البحرية الأوكرانية عندما لم تكن هناك خيارات أخرى متاحة، ناجحة بالتأكيد في الأشهر الأولى من الغزو، ومع ذلك فهي الآن في حالة شبه منتهية، حيث أصبح لموسكو حق النقض (الفيتو) بحكم الأمر الواقع على حرية الملاحة في البحر الأسود، وتحويل البحر إلى "بحيرة روسية"، وهو ما حذر منه أردوغان منذ فترة طويلة.

ولذا ترى يفجينيا أن الوقت حان، بعد مرور عام على الحرب، لمعالجة السبب الجذري للمشكلة، وهو السيطرة الروسية على الطرق البحرية، بدلاً من التركيز على الجوانب الفنية لكيفية الحفاظ على صفقة الحبوب حية.

وفي هذا الإطار، تنقل الباحثة عن يوروك إيشيك، من البوسفور أوبزرفر، قوله: "إذا لم تستجب روسيا للدبلوماسية، فقد حان الوقت لحلف الناتو كي يضع وجود بحري دفاعي ذي مغزى في البحر الأسود لحماية حركة مرور التجارة من وإلى الموانئ الأوكرانية".

 ولن يؤكد هذا على دور تركيا كعضو رئيسي في الناتو بالبحر الأسود فحسب، بل سيساعد أيضًا في معالجة مشكلة أكبر، وهي الحفاظ على حرية الملاحة وتخفيف أزمة الغذاء في الجنوب العالمي.

وقت تركيا

وهنا تشير يفجينيا إلى أن تركيا استفادت بالفعل من الإخفاقات الكبرى لروسيا في أوكرانيا، وبدأت في إخراج روسيا من جنوب القوقاز واستبدالها تدريجياً كشريك أمني للجمهوريات التركية في آسيا الوسطى.

وتضيف: "إن هزيمة روسيا وظهور أوكرانيا القوية بجيش حديث جيد التدريب من شأنه أن يساعد في ردع الوجود الروسي في البحر الأسود دون توسيع الوجود الدائم لحلف شمال الأطلسي. ومن شأن هذا التحول الاستراتيجي أن يقلب التوازن العسكري لصالح أنقرة في سوريا والبحر الأبيض المتوسط، حيث كانت روسيا أيضًا المنافس الاستراتيجي لتركيا".

وتشير الباحثة إلى أن قبضة موسكو الضعيفة على العالم التركي، من البحر الأدرياتيكي إلى سور الصين العظيم، تقدم فرصًا متعددة لتركيا، والتي تتجاوز بشكل كبير فوائد الصفقات التجارية الظرفية والمحفوفة بالمخاطر مع النظام الروسي المتدهور تحت العقوبات الغربية.

وعلى عكس أوائل التسعينات، حولت أنقرة الآن تركيز تعاونها الإقليمي من الأفكار العريضة لعموم تركيا إلى البنية التحتية العملية ومشاريع الطاقة. وبالنظر إلى هدف الاتحاد الأوروبي المتمثل في تجاوز روسيا في ممرات النفط والغاز والنقل، فمن المرجح أن يرحب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بنشاط تركيا الإقليمي.

ونظرًا لأن تركيا لا تزال بحاجة إلى استثمارات أجنبية كبيرة ومساعدات إعادة الإعمار في أعقاب الزلازل المدمرة، فقد يكون الوقت مناسبًا لأنقرة كي تصلح العلاقات مع الغرب.

إن القدرة على حفظ الزخم في أجندة ثنائية إيجابية مع الولايات المتحدة، والتي تم تسليط الضوء عليها خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكية، أنتوني بلينكن، الأخيرة إلى تركيا، ستعتمد، على استعداد تركيا للاعتراف بروسيا باعتبارها التهديد الأمني الرئيسي وللتصعيد.

وهنا تشير يفجينيا إلى الجهود المبذولة لمنع تصدير المنتجات ذات الاستخدام المزدوج، والتي يمكن أن تستخدمها الصناعات الدفاعية الروسية، خاصة  أن كبير الدبلوماسيين التركي أعلن نية أنقرة التعاون مع روسيا على هذا النحو، خلال زيارة بلينكن.

وقبل عام، كان لدى تركيا رؤية استراتيجية لتزويد أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة بينما كانت بعض الدول الأخرى تقصر دعمها للمساعدات الإنسانية والخوذات. وساعدت القيادة التركية المبكرة، من بين عوامل أخرى، في منع هزيمة كييف.

والآن، ترى يفجينيا أن الوقت قد حان لتطوير تركيا رؤية استراتيجية للمنطقة بعد هزيمة روسيا في حرب أوكرانيا بدلاً من تبني استراتيجية الاجتماع مع بوتين على مصالح مشتركة.

المصدر | المجلس الأطلسي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

تركيا روسيا أوكرانيا البحر الأسود الناتو حلف شمال الأطلسي أردوغان بوتين