استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

دجاجة «عمرو خالد».. وأفول «الدعاة الجدد»

الاثنين 11 يونيو 2018 01:06 ص

منذ أكثر من عقد ونصف العقد، اعتاد عمرو خالد على الظهور الإعلامي في شهر رمضان كل عام في برنامج ديني، بيْد أنّه باغت جمهوره هذا العام بالظهور في إعلان تجاري هابط ورديء في شكله ومضمونه وخطابه، لترويج نوعية معيّنة من الدجاج.

مزج فيه مزجاً كاملاً فجّاً بين ما هو ديني/ دعوي وما هو استهلاكي/ إعلاني، عندما قال: "لمّا بطنك تبقى صح ارتقاءك لربنا في التراويح هيبقى صح مع الدجاج بخلطة آسيا" (!).

فور ظهور الإعلان في فضاء السايبر، تعرّض خالد لموجةٍ عاتيةٍ من الهجوم الكاسح، شهدت إجماعاً على إدانته، ما دفعه إلى الظهور في مقطع مصوّر حمل اعتذاراً باهتاً عن كارثته الإعلانية، وحديثاً عاطفياً تبريرياً، حاول أن يُضفي عليه ثياب المظلومية.

فذكر أن أنشطة شركة الدجاج أنشطة خيرية، وأقحم في ختامه دعاءً نبوياً مأثوراً بنبرات صوتية مؤثرة. ونسي عمرو خالد (أو تناسى) أنّها ليست المرّة الأولى التي يظهر فيها في إعلان تجاري لترويج سلعةٍ مستخدماً خطاباً دينياً، فقد ظهر من قبل في إعلان آخر لترويج نوعيةٍ من العطور، زعم أنها تتفق مع قيم الإسلام الداعية إلى الجمال (!).

لا مجال هنا للخوض في النوايا التي لا يعلمها إلا خالق البرايا. ولكن يظلّ التوصيف الأدقّ لفِعلة عمرو خالد هو "التجارة بالدين"، وهي ليست هفوة طارئة أو زلّة عارضة، بقدر ما هي تعبيرٌ دقيقٌ عن وجود خلل منهجي جسيم ومتأصِّل في خطابه منذ ظهوره، واستمرّ وكَبر حتى ظهر بهذه الطريقة الزاعقة في كارثته الأخيرة.

فخطاب عمرو خالد متصالحٌ تماماً مع قيم السوق والربح والمجتمع الاستهلاكي، كما أنه متعايشٌ، إلى أبعد مدى، مع "النيوليبرالية" الطفيلية، حيث يشتبك فيه المضمون الديني مع العائد الإعلاني اشتباكاً وثيقاً، حتى تحوّل خالد نفسه إلى "سلعةٍ" خاضعة لمعايير السوق والربحية، بتقديم الدين مُنتَجا قابلا للترويج والاستهلاك، ويدرّ أرباحاً طائلة على منتجيه، وهو ما يجسّده مصطلح "البيزنس الديني".

تقلّب عمرو خالد بين صفات وأدوار عديدة، حسبما يقتضيه المناخ، فقد بدأ داعيةً أخلاقيا يشبه خطابه خطاب الوعّاظ البروتستانتيين، يهدف إلى تعزيز الجانب الأخلاقي، ثمّ تحوّل إلى مُصلِحٍ اجتماعيٍ، يتحدّث في قضايا التنمية والنهضة عبر بناء شبكات اجتماعية.

وبعد ثورة يناير، سعى إلى تأسيس حزب سياسي تحت اسم "مصر المستقبل". وبعد "3 يوليو"، ومصادرة المجال السياسي، اكتشف عمرو خالد قدراته الأدبية "الدفينة"، فألّف روايةً حملت اسم "رافي بركات"، وبهذا يكون قد اجتمع فيه الداعية والمصلح والسياسي والروائي (!).

قالت العرب قديماً: بقرة سمينة ولا سبع عجاف، ومأساة عمرو خالد أنّه طارد عصافيرَ كثيرةً حتى فقدها جميعاً. وعندما وصل إلى مرحلة الإفلاس، سلك مسلك الإعلانات التجارية، وقدّمها بطريقة بائسة ومُبتذَلَة للغاية، من العطور إلى الدجاج.

وعمرو خالد هو الأيقونة الأشهر والتجسيد الأكبر لظاهرة الدعاة الجدد التي ظهرت في نهاية التسعينيات إفرازا طبيعيا لعدّة عوامل سياسية، واقتصادية، واجتماعية، كانت محصّلتها ظهور طبقة بورجوازية جديدة، ذات نزعة "نيوليبرالية".

كانت تبحث عن خطاب ديني يُشبع حاجاتها الروحية من دون مساس بمصالحها وامتيازاتها، عبر نمط من "التديّن الآمن"، لا يجلب متاعب على أصحابه، ولا يدعو إلى الصدام مع السلطة، أو إلى تغيير البنى الاجتماعية القائمة.

فجاء خطاب الدعاة الجدد الذي قدّم تديّناً بمواصفاتٍ خاصة، تتلاءم مع حاجة المُترَفين والمُتخَمين من أبناء تلك الطبقة، فهو يُربِّت على نزعاتهم الاستهلاكية، مع محاولة تهذيبها وأسلمتها، ويتحدّث بتقدير كبير، يصل إلى درجة التمجيد، عن الثروة وعن عدم وجود أي تعارض بينها وبين التديّن، طالما كانت من طريق شرعي.

ويتمّ تسخيرها لصالح الدين، فيُمكن للشاب البورجوازي الطفيلي أن يكون ملتزماً دينياً ومتمتعاً بكل امتيازاته الاجتماعية وملذّاته الدنيوية، من دون شعورٍ بالذنب، يدفع عقله إلى استدعاء أسئلة كبرى، تدعوه إلى إعادة النظر في مدى مشروعية وضعه الاجتماعي.

بالطبع، لا يتطرّق هذا الخطاب مطلقاً إلى عدم شرعية الاحتكار وغياب العدالة الاجتماعية، فمثل تلك الأمور لا تعني تلك الطبقة الطفيلية، فضلاً عن أنها تتصادم مع مصالحها، وهو ما تحدّث عنه الباحث السويسري، باتريك هايني، تفصيلاً في كتابه "إسلام السوق"، ووصف فيه عمرو خالد بأنه وقف على بوّابة "الإسلام السياسي" ولم يدخلها.

بيْد أن بعض جماعات الإسلام السياسي، تحت شعارها الأثير "مصلحة الدعوة"، سعت سعياً حثيثاً إلى الاستثمار في ثمار خالد الدعوية، والاستفادة من اختراقه الطبقة النيوليبرالية من ذوي السلطة والثروة، من أجل توسيع وعائها التنظيمي، باستقطاب عناصر جديدة.

إن لم تكن من درجة "العاملين المُنتظمين"، فلتكن من فئة "المُحبّين والمُتعاطفين" مع خطاب "الجماعة". وقد كان أتباع تلك الجماعات أكثر من روّج عمرو خالد، ودافع عنه باستماتةٍ، إلى درجة نشر قصص خرافية عن قدراته الدعوية "الأسطورية"، منها أنّه كان سبباً في ارتداء زوجة علاء مبارك الحجاب، ما تسبّب في نفيه خارج مصر(!).

المفارقة الطريفة أن الذين دافعوا أمس عن خالد، لأسباب انتهازية، هم أنفسهم الذين يهاجمونه اليوم بضراوة، في تناقضٍ أخلاقي فاضح، من دون حياء أوخجل، والسبب الحقيقي انتهاء العلاقة النفعية السابقة، واختلاف الخيارات السياسية الحالية بين الطرفيْن.

لن تنتهي ظاهرة الدعاة الجدد أو تختفي، لأن هناك طبقة اجتماعية تبحث عن هذا النوع من الخطاب الديني "الخفيف"، وما يُمثّله من تديّن "استهلاكي" مُتناغم مع قيم النيوليبرالية.

لكن صار واضحاً أن الظاهرة قد دخلت في طور الأفول، بعدما فقدت بريقها السابق، وقد أفلس روّادها وأصبحوا في حالة انكشافٍ متعدّد الجوانب معرفياً، وعلمياً، وفكرياً... والأسوأ أخلاقياً.

وبتوسيع دائرة التحليل، ينطبق الأمر نفسه على جماعات الإسلام الحركي في مصر، في نسختها التقليدية الكلاسيكية ذات التنظيمات الحديدية، بعدما استنفدت أغراضها التاريخية، وصارت تعيش خارج العصر، وأوشكت على الخروج من التاريخ.

هذا إلى جانب الانكشاف المعرفي الهائل والسقوط الأخلاقي المريع لغالبية المشايخ المُتنطِّعين المُتسلِّفين، من أصحاب شعار "الفرقة الناجية"، وفقه اللحية والنقاب، وأرباب التديّن المُتيبِّس.

فكل هذه الأنماط (الأصنام المُقدَّسة) كشفتها ثورة يناير تماماً، وأظهرت أنّها مجرّد هياكل ورقية، وفقاقيع هوائية، صنعها التجريف والفراغ، سرعان ما سقطت، وصارت هباءً منثوراً، وهشيماً أذرته الرياح.

وهو ما يؤذن بنهاية حقبة تاريخية من مسيرة ما تعرف بالصحوة الإسلامية التي ظهرت في الفضاء الديني المصري منذ السبعينيات، ومرّت بمراحل عديدة، تمخّضت في نهايتها عن انتشار حالةٍ من "فائض التديّن" في المجتمع.

فجنحت إلى طغيان الشكليات الدينية، وشهدت أنماطاً متعددّة ومظاهرَ متنوّعة من محاولات "الأسلمة"، آنَ لها أن تتوارى، بعدما أثبتت فشلاً ذريعاً، وصارت عبئاً على الدين، وباتت تُشكِّل حاجزاً بين الناس وصحيح الدين.

يقف المجال الديني المصري على أعتاب مرحلةٍ جديدة من التحولات والتغيّرات الكبيرة، قد نشهد فيها تحرير الدين من "الأَيْقنَة والأَقْنمَة" التي صبّت لصالح شخصياتٍ، وجماعاتٍ، وفئاتٍ تمددّت في المجال الديني، وتربّحت من الدين بعدما أصبحت "أيقوناتٍ" مُقدّسة.

وقد تشهد المرحلة الجديدة وضعَ حدٍّ لمحاولات التسييس، والتسليع، والتنميط، والتطويع، التي استهدفت الدين في العقود الماضية، وجعلت منه مجرّد "أداة" لتحقيق مصالح شخصية، وفئوية، وحزبية، وتنظيمية، تارة لخدمة التنظيم/ الجماعة، وتارة لتسويغ الفساد والاستبداد باسم "الكتاب والسنّة"، وتارة لتديين الرأسمالية المُتوحّشة.

في حين مُنِيَ الدين نفسه بخسارةٍ فادحة، تشهد عليها موجة لا تُخطئها عيْنٌ من انتشار الإلحاد والنفور من الدين، والتي تُمثّل الوجه الآخر لموجة الغلوّ والتطرّف، وهو الحصاد المرير لكل هذه الأنماط الدينية البائسة الفاشلة.

- أحمد طه كاتب وباحث مصري.

المصدر | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية

ظاهرة

مطالبات بوقف برنامج عمرو خالد بعد اتهامه بسب الصحابة وإثارة الفتن