تحسن المؤشرات الاقتصادية يخفي المشاكل الحقيقية للاقتصاد المصري

السبت 24 أغسطس 2019 05:45 م

حصلت مصر على إشادات عالية من صندوق النقد الدولي لتنفيذها سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الصعبة ونجاحها كسوق ناشئة. ومع ذلك، فإن مثل هذه الاتجاهات الإيجابية تخفي مشهدًا محليًا مقلقًا للغاية، بما في ذلك الفقر المتصاعد، والطبقة المتوسطة المضغوطة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، واستمرار بطالة الشباب، والقمع السياسي المتزايد. علاوة على ذلك، رغم أن الحكومة كثيراً ما تكرر تعهدها بالقضاء على الإرهاب، فإن أعمال العنف التي تمارسها الجماعات المتشددة في شمال سيناء ومنطقة القاهرة مستمرة.

وعلى الرغم من الانتقادات الحادة من منظمات حقوق الإنسان الدولية والناشطين الليبراليين، فإن حكومة الرئيس "عبدالفتاح السيسي كانت مدعومة من قادة دوليين رئيسيين، وتحديداً من روسيا وبعض دول الخليج العربية، وخاصة السعودية والإمارات وبالتأكيد من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب". وقد مكّن هذا الدعم الدولي بالإضافة لخنق المعارضة في الداخل حكومة "السيسي" من الحفاظ على سيطرة مشددة على النظام السياسي المصري؛ لكنه نهج غير مستدام على المدى الطويل. ومع تزايد عدد سكان البلاد لأكثر من 100 مليون ومدفوعات الديون العالية التي لا تترك مجالاً كبيرًا لتحسين الخدمات الاجتماعية، تحتاج الحكومة إلى تغيير نهجها القائم على الاعتماد على الجيش. ومن شأن الانفتاح السياسي والاقتصادي أن يسمح بالنمو المطرد للقطاع الخاص والتدفق الحر للأفكار والانتقادات التي من شأنها أن تطور أداء القطاع العام أيضا.

نمو.. ومعاناة

على الورق، يعد الاقتصاد المصري في حالة جيدة. وأوشكت مصر على الانتهاء من برنامج إصلاح اقتصادي مدته 3 سنوات تضمن 12 مليار دولار في شكل قروض من صندوق النقد الدولي في مقابل تخفيض قيمة الجنيه المصري، وفرض ضريبة القيمة المضافة، وخفض الدعم على منتجات الطاقة وبعض المواد الغذائية مثل زيت الطهي. وساعدت مثل هذه السياسات الحكومة على تخفيض العجز الكبير في الميزانية بمقدار النصف بين العام المالي 2019/2018 والعام المالي السابق له. علاوة على ذلك، يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 5.3% في عام 2019. وتشمل بعض قصص النجاح السياحة، التي حققت 11.4 مليارات دولار في عام 2018 مقارنة بـ7.6 مليارات دولار في عام 2017، وحقل غاز ظهر الكبير الواقع في الجزء المصري من البحر الأبيض المتوسط والذي يحمل إمكانات كبيرة. لكثير من هذه الأسباب، أشارت الإيكونوميست إلى مصر باعتبارها "السوق الناشئة الأكثر سخونة في العالم".

ومع ذلك، كان هناك القليل من التأثير لهذا التحشن على الأسر المصرية المتوسطة. في الواقع، لقد انخفضت القوة الشرائية لهذه الأسر فعليًا لأن انخفاض قيمة الجنيه المصري أدى إلى ارتفاع تكاليف الغذاء (مصر واحدة من أكبر مستوردي الأغذية في العالم)، في حين أن التخفيضات في الإعانات أدت إلى زيادة حادة في سعر البنزين. علاوة على ذلك، فإن الزيادة في الأجور لم تواكب معدل التضخم، الذي بلغ حوالي 30% في عام 2017 ولكنه انخفض إلى 11% في نهاية عام 2018. ونتيجة لذلك، ارتفع معدل الفقر، حيث ارتفع من 28% في عام 2015 إلى 32% في عام 2018 (خط الفقر يشمل أولئك الذين يكسبون أقل من 45 دولارًا في الشهر). وهناك تقييمات أخرى ترسم صورة أكثر قتامة: في تقرير صدر في أبريل/نيسان 2019، قدر البنك الدولي أن 60% من المصريين "إما فقراء أو معرضين للفقر".

بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن الحكومة المصرية تدعي أن البطالة قد انخفضت من 12.6% في عام 2016 إلى 8.1% في الربع الأول من عام 2019، كانت معظم الوظائف الجديدة في القطاع غير الرسمي. علاوة على ذلك، هناك ما لا يقل عن 700 ألف شاب يدخلون سوق العمل كل عام، ولدى الكثير منهم درجات علمية عالية وتطلعات كبيرة. وانخفض معدل بطالة الشباب بشكل طفيف فقط، من 34.7% في عام 2015 إلى 32.6% في عام 2018. وفي الوقت نفسه، كانت الحكومة المصرية تقترض بشدة من الخارج؛ حيث إجمالي حجم ديونها 87% من إجمالي الناتج المحلي، وتمثل مدفوعات ديونها ما لا يقل عن 38% من إنفاق الميزانية. هذا يعني أن الحكومة لديها أموال أقل للإنفاق على التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية الأخرى التي تحافظ على عدد كبير ومتزايد من السكان.

ومع التوقف تام لتوظيف القطاع العام، لم يتحمل القطاع الخاص الركود. ويعزى ذلك جزئيًا إلى عدم وجود مجال متكافئ للشركات في مصر وأيضًا بسبب حقيقة أن الجيش يملك عددا يصعب حصره من المؤسسات التي تعمل في مجالات النشاط الاقتصادي المختلفة. وعلى الرغم من أن صندوق النقد الدولي قد أشاد بالإصلاحات في مصر، إلا أنه حذر في أحد تقييماته الأخيرة من أنه: "هناك حاجة إلى بذل جهود متواصلة للمضي قدماً في الإصلاحات الحاسمة في مجال المنافسة، وتخصيص الأراضي الصناعية، والشفافية وحكم المؤسسات المملوكة للدولة، والمشتريات العامة". وتبقى طريقة صناعة السياسات الاقتصادية في مصر مبهمة. ونتيجة لذلك، خارج قطاع الهيدروكربونات، كانت الشركات الأجنبية مترددة في الاستثمار في مصر في ضوء هذه السياسات الحكومية.

جنون العظمة

وعلى الرغم من أن حكومة "السيسي" نجحت في استعادة بعض الثقة النقدية الدولية، فقد شددت قبضتها بشكل متزامن على النظام السياسي حيث يتم تصوير المعارضة في كثير من الأحيان على أنها جريمة ضد الدولة. ويتعرض الصحفيون والمدونون الذين تجرأوا على انتقاد النظام إما للمضايقة أو الإلقاء في السجن. وتزعم بعض المنظمات غير الحكومية الدولية، مثل هيومن رايتس ووتش، أن هناك ما يصل إلى 60 ألف سجين سياسي في مصر. وفي حين أن أغلبيتهم أعضاء في جماعة الإخوان المسلمون أو متعاطفين معها، إن الكثير من المعتقلين هم من الليبراليين العلمانيين وناشطي المجتمع المدني الذين تم حبسهم بسبب انتقاد الحكومة.

ويبدو أن "السيسي" يعتقد أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الرئيس السابق "حسني مبارك" كان التسامح مع المعارضة إلى حد ما في السنوات التي سبقت مباشرة انتفاضة 2011، وهو مصمم بوضوح على عدم اتباع هذه السياسة. في أبريل/نيسان من هذا العام على سبيل المثال، اعتقلت السلطات في محافظة القليوبية عضوًا في حزب الدستور الليبرالي بدعوى منحه رشاوى للمواطنين ليخرجوا ويصوتوا "بنعم" على التغييرات الدستورية التي يفضلها "السيسي" ومؤسسة الجيش. في الواقع، لاحظ بعض المراقبين المستقلين أن الكثير من المصريين حصلوا على ما يعادل 150 جنيهًا مصريًا من الغذاء (حوالي 9 دولارات) للتصويت في الاستفتاء. قالت إحدى النساء لصحيفة الغارديان إنها مع اقتراب شهر رمضان المبارك، كانت بحاجة إلى المواد الغذائية لعائلتها التي تعاني من ضغوط شديدة.

مددت التعديلات الدستورية فترة رئاسة السيسي الحالية من 4 إلى 6 سنوات، وسمحت له بالترشح لفترة جديدة حتى عام 2030. كما منحته سلطات واسعة على القضاء ومكنت الجيش من التدخل في السياسة بدعوى حماية مدنية الدولة.

وعلى الرغم من أن "السيسي" سمح للضباط العسكريين بإدارة أعمال تجارية أكثر من السابق، إلا أنه يشعر بالقلق أيضًا من احتمال حدوث انقلاب أو زيادة شعبية بعض العسكريين المتقاعدين الذين يمكن أن يتحدوه في الانتخابات. وخلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في عام 2018، أمر "السيسي" على سبيل المثال باحتجاز المرشح الرئاسي "سامي عنان"، رئيس أركان الجيش في عهد "مبارك"، وأرغم "أحمد شفيق"، الرئيس السابق للقوات الجوية ورئيس الوزراء السابق لـ"مبارك" على التراجع عن محاولته للتنافس على الرئاسة بعد أن عاد إلى مصر من المنفى الذاتي في الإمارات.

ووفقًا لتوجيهات "السيسي"، أقر البرلمان في عام 2018 مشروع قانون يمنح الضباط العسكريين حصانة قانونية عن أي أعمال تم ارتكابها بعد الإطاحة بالرئيس السابق "محمد مرسي" في يوليو/تموز 2013، كما نص القانون على بقاء الضباط المتقاعدين تحت الخدمة العسكرية الاحتياطية بعد تقاعدهم. وتم وضع البند الأخير لأسباب سياسية لأن الضابط في وضعية الاحتياط، مثل نظيره في الخدمة الفعلية، يُمنع من الترشح للمناصب العامة.

الإرهاب لا يذهب بعيدا

عندما تم تنصيبه لأول مرة كرئيس في عام 2014، تعهد "السيسي" بأن هزيمة أولئك الذين يعتبرهم إرهابيين كانت أولويته الأولى. لكن حتى مع وجود جهاز استخباراتي وعسكري واسع تحت تصرفه، لم ينجح في هذا المسعى. ويعد الجزء الرئيسي من المشكلة هو أن المجموعة الإرهابية الرئيسية في سيناء، والتي تسمى ولاية سيناء، التابعة لما يسمى الدولة الإسلامية، تمكنت من مواصلة ضرب أفراد الأمن الحكوميين من خلال الاستفادة من التضاريس الصعبة في شمال سيناء وكذلك استغلال المظالم البدوية القديمة ضد الدولة.

وقد عملت الإجراءات الحكومية المشددة ضد القرى البدوية في سيناء في كثير من الأحيان على تحديث صفوف الإرهابيين. وفي أعقاب عدة هجمات في شمال سيناء، بما في ذلك ضد مسجد صوفي في فبراير/شباط 2018، نشرت الحكومة مئات القوات الإضافية في المنطقة لتطهير المتطرفين. وأدى هذا النشر إلى انخفاض العنف، لكنه لم ينته بعد، وقد تكون التهدئة مؤقتة فقط. وفي أواخر يوليو/تموز 2019، حث مسؤولو وزارة الدفاع الأمريكية نظراءهم المصريين على اتباع "نهج يركز على السكان" بدرجة أكبر، مما يعني اكتساب ثقة السكان المحليين في حملة مكافحة التمرد.

لم يشمل نهج إدارة "السيسي" الأمني اعتقال المشتبه فيهم فحسب، بل شمل ما وصفته جماعات حقوق الإنسان بأنها اعترافات قسرية تحت التعذيب وكذلك عمليات قتل خارج نطاق القضاء، كما كثفت الحكومة من استخدام عقوبة الإعدام ضد من تثبت إدانتهم بعد محاكمات سريعة. وعلى الرغم من وجود دعم شعبي ضئيل في مصر للجماعات المسلحة، فإن مثل هذه التكتيكات القاسية والافتقار إلى حيز سياسي للتعبير عن المعارضة يحفز المزيد من الشباب الساخطين للانضمام إلى هذه الجماعات. بمعنى آخر، لم تفهم الحكومة أن سياساتها الخاصة ساهمت في تهيئة جو يعتقد بعض الشباب فيه أن العنف هو ملاذهم الوحيد.

أصدقاء "السيسي"

في حين أن لدى "السيسي" الكثير من المنتقدين في مصر والغرب بسبب سياساته القمعية، فإن لديه أيضًا العديد من الأصدقاء المؤثرين في جميع أنحاء العالم. ولا يزال السعوديون والإماراتيون يقدرون تحالفهم معه، الذي بدأ عندما أطاح بـ"مرسي" وشن حملة على جماعة الإخوان المسلمين في صيف عام 2013. وأغدقت دول الخليحج على مصر مليارات الدولارات من المنح واستثمارات القطاع الخاص.

ويتمتع "السيسي" خارج منطقة الشرق الأوسط بدعم قوي من الرئيس "ترامب"، الذي قال إن الزعيم المصري يقوم "بعمل رائع". ويتجنب الرئيس الأمريكي انتقاد الحكومة المصرية بسبب العدد الكبير من السجناء السياسيين في البلاد؛ ولم يتدخل هو وإدارته إلا في حالة بعض المواطنين من حملة الجنسية الأمريكية الذين تم سجنهم. أما بالنسبة لفرنسا، فقد تحدث الرئيس "إيمانويل ماكرون" عن ضرورة أن تحترم حكومة "السيسي" الحريات الفردية، لكن هذا لم يمنع باريس من أن تصبح بائع أسلحة كبير إلى القاهرة في السنوات الأخيرة.

وفي هذه الأثناء، كان الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، وهو زعيم استبدادي يعتبر حقوق الإنسان مؤامرة غربية، متحمسًا لتعميق الروابط العسكرية والاقتصادية مع مصر التي كانت حجر الزاوية في الاستراتيجية السوفيتية في المنطقة خلال جزء من الحرب الباردة. وقد وافقت روسيا على تقديم قروض ميسرة لمصر لبناء محطة طاقة نووية كبيرة غرب الإسكندرية، ومثل فرنسا، باعت أسلحة بقيمة مليارات الدولارات للقاهرة في السنوات الأخيرة.

نموذج غير مستدام

على المدى القصير، من المرجح أن يتمسك السيسي بالسلطة على الرغم من أن غالبية المصريين يواجهون ضائقة اقتصادية وأن الناشطين السياسيين يقعون تحت الحصار. ويبدو أن القمع بالإضافة إلى الدعم من اللاعبين الخارجيين يشكلان صيغة "السيسي" المثلى للحفاظ على نظامه واقفا على قدميه.

ولا يعد استمرار هذه السياسة استراتيجية رابحة على المدى الطويل. وما لم يتم تحفيف القيود من أجل السماح للقطاع الخاص بالازدهار (وليس فقط رجال الأعمال المرتبطين بالنظام)، والحد من سيطرة الجيش على مختلف الأعمال التجارية، وضمان التدفق للأفكار المعارضة، فإن "السيسي" لن يكون قادرًا على توليد مئات الآلاف من الوظائف الجديدة اللازمة لتوظيف الشباب المصريين الذين يدخلون سوق العمل.

ومع خنق المعارضة وندرة فرص العمل، من المحتمل أن يتوصل الشباب إلى استنتاج مفاده أن الهجرة أو اللعنف قد تكون هي طرقهم الوحيدة للمضي قدمًا. ورغم وجود حالة من "الإرهاق الثوري" لدى الشباب المصري في أعقاب سنوات فوضوية منذ الإطاحة بـ"حسني مبارك" في عام 2011، فإن الظروف التي أدت إلى انتفاضة 2011 ما زالت قائمة ويمكن القول إنها أسوأ الآن.

على الرغم من أن المساعدات الأمريكية لمصر صارت تتضاءل مقارنة بالمساعدات المقدمة من الدول الأخرى، لا يزال "السيسي" يقدّر دعم واشنطن. ويجب على صناع السياسة في الولايات المتحدة استخدام هذه الرافعة المالية لدعوة "السيسي" لتخفيف سياساته القمعية وفتح الاقتصاد أمام القطاع الخاص ومعالجة المخاوف السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحيوية. وخلافا لذلك، من المرجح أن تكون سياسات "السيسي" الحالية وصفة لعدم الاستقرار في مصر.

المصدر | غريغوري أفتانديليان - المركز العربي واشنطن دي سي

  كلمات مفتاحية

إحباط متزايد.. المصريون يشكون الغلاء رغم بيانات الحكومة الوردية