اغتيال خاشقجي.. سيناريوهات مستقبلية

الأربعاء 2 أكتوبر 2019 08:31 ص

لم يمنع مرور عام كامل، قيادات السعودية من استمرار هز رؤوسهم بأسى، وهم يقلبون أوراق ملف أزمة اغتيال الصحفي "جمال خاشقجي"، وهي الأوراق التي تنبئ، على ما يبدو، قارئها بأن هناك غيرها آت في الطريق.

مبعث الأسى هنا قد لا تكون الجريمة في حد ذاتها، لكن سياق تنفيذها وتبعاتها القريبة، التي كانت عنيفة على استقرار عائلة "آل سعود" كحاكمة لدولة مركزية ضخمة في المنطقة، وشديدة العنف على ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" بشكل خاص، بعد أن اتضح بدلائل أُريد لها ألا تتطور إلى لائحة اتهام، أنه كان مهندس المجزرة التي شهدتها القنصلية السعودية في إسطنبول، في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.

ووفقا للحسابات المادية الشائعة في المملكة، كان ثمن الجريمة ضخما للغاية مقارنة بالفائدة التي كانت مرجوة، وهي تكميم صوت سعودي بات صداه يتردد في أروقة الإعلام الأمريكي والغربي بشكل مزعج شل دائرة الحكم الجديدة بالرياض؛ فتحول الأمر إلى فضيحة محاطة بحبل من الأجراس التي أصمت تلك الدوائر لفترة طويلة، ولا يزال طنينها لم ينته حتى اليوم.

مر عام، وخفت التعاطي المباشر مع تبعات الجريمة نوعا ما، لكن تطوراتها مستمرة، بل إنها مرشحة للانفجار مجددا في أي وقت، ولا يبدو أن رغبة ولي العهد السعودي في أن يتحول ما حدث إلى نقطة سوداء ينساها العالم سريعا، قابلة للتحقق، في ضوء استمرار التفاعل التركي والدولي مع القضية، والذي يبدو أنه لا يزال عصيا على الخفوت.

على أية حال، اتخذت الرياض قرارها بمواجهة التبعات مهما كان الثمن لحماية ملك البلاد المستقبلي، الذي يراد له أن يكون حاكما لا تنساه المنطقة، لكن تهوره كان هو لجام طموحه، الذي بات يسير بخطى متعثرة.

وتشير التصريحات الجديدة لـ"بن سلمان" -التي اعترف فيها بمسؤوليته عن الجريمة بتصور خاص سرده خلال حواره مع قناة "PBS" لا يزال يبقيه بعيدا عن حقيقة ما حدث- إلى أن الرياض باتت تعلم أنه قد كُتب عليها القتال في مسألة "خاشقجي"، وهو كره لها، والمعركة تستدعي تغيير التكتيكات، ويبدو أن "بن سلمان" قرر التحرك من مربع أكثر راحة لمنتقديه في الغرب والولايات المتحدة، لكن الأتراك لا يزالون ينظرون إليها بعين الريبة وعدم الرضا.

 على أية حال، وفي الذكرى السنوية الأولى لقضية "خاشقجي"، بات من المهم البحث عن إجابات وتصورات لأسئلة خمسة يدور حولها السيناريو المقبل للقضية، التي شهدت، ولا تزال، تداخلات إقليمية ودولية واسعة.

1- ماذا يعني تقرير "كالامارد"؟ وما هو المتوقع من المنظمة الدولية؟

مثل تقرير مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحالات الإعدام خارج القانون "أغنيس كالامارد" حول قضية مقتل "خاشقجي"، الذي صدر في يونيو/حزيران الماضي، هالة ضوء مزعجة تم تسليطها على القضية، بعد أشهر من الخفوت النسبي تحت وطأة انشغال تركيا بملفات داخلية والعالم بتطورات أخرى.

وأبرز ما تحدث عنه تقرير "كالامارد" هو الحديث عن أن هناك أشياء شهدتها الجريمة وتبعاتها تؤكد أنها لا يمكن أن تحدث دون علم ولي العهد السعودي، وبالتالي حمل التقرير "بن سلمان" صدارة مشهد المسؤولية دون تصريح، مكتفيا بحث مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي بالتحقيق في الأمر، ومطالبة العالم باعتبار مقتل "خاشقجي" جريمة دولة تتحملها السعودية.

باختصار، أسهم تقرير "كالامارد" في تضييق الخناق حول "بن سلمان" وتقليل مساحة تحركه في اتجاه النأي بنفسه عن ما حدث، ووفقا لمحللين، فإن التقرير الأممي كان أحد الأسباب التي دفعت ولي العهد إلى تغيير استراتيجيته، والاعتراف بمسؤوليته "سياسيا" عن الجريمة.

ماذا ستفعل المنظمة الدولية بعد؟ جزء من الإجابة جاءت في تصريح "كالامارد"، في 27 سبتمبر/أيلول 2019؛ حيث اعتبرت أن إقرار "بن سلمان" بالمسؤولية "ليس كافيا"، داعية وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى رفع السرية عن ملفاتها المتعلقة بالجريمة، وتحدثت عن قانون يناقشه الكونغرس الأمريكي حاليا قد يفضى إلى منع المتورطين في الجريمة من دخول الولايات المتحدة.

((3))

2- إلى أي مدى يتوقع المراقبون مضي تركيا قدما في القضية؟ وما هي الأوراق المتوقعة لديها في هذا الشأن؟

إجابة الشق الأول من السؤال لخصتها التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية التركي "مولود جاوويش أوغلو" ردا على إقرار "بن سلمان" بمسؤوليته عن الجريمة؛ حيث اعتبرها "خطوة مهمة لكنها غير كافية".

الوزير التركي أكد أن بلاده تريد باختصار أن يمثل كل المسؤولين عن هذه الجريمة أمام القضاء، ومربط الفرس هنا هو كلمة (كل)، التي ستكون محور المعركة بين أنقرة والرياض خلال الفترة المقبلة.

توجه الدولة التركية يبدو مصرا على التصعيد، وصولا لـ"بن سلمان" نفسه، ولا يظهر أن أنقرة، حتى الآن على الأقل، لديها نية لخفض هذا السقف. وتحليليا، قد يكون رد الفعل السعودي العنيف ضد تركيا، بعد تصاعد الجدل بينهما بسبب الجريمة، عاملا أسهم في غضب الأتراك، وهو ما ظهر في إثارة قضية "خاشقجي" من قبل الرئيس "رجب طيب أردوغان" على منبر الأمم المتحدة، ليؤكد أمام الأسرة الدولية عدم نية أنقرة ترك القضية للنسيان.

أما عن أوراق تركيا المتوقعة لديها للاستمرار في تلك القضية؛ فالمؤشرات الظاهرية تقول إن تركيا ألقت ما في جعبتها من أدلة أمام الجميع، وأتاحت ما توصلت إليه استخباراتيا وأمنيا أمام السعودية والدول الكبرى وكذلك الأمم المتحدة، وفقا لتأكيدات الرئيس التركي. ويبدو من الأريحية النسبية في التعاطي مع القضية حاليا من السعودية والولايات المتحدة والغرب أنه لا أوراق استخباراتية جديدة في يد الأتراك.

بالتالي فإن استراتيجية الضغط التركي خلال الفترة المقبلة ستكون سياسية بالأساس، ومستندة على وضع مصداقية القانون الدولي على المحك، خاصة أن الجريمة أخذت طابعا حساسا، كونها حدثت داخل مقر دبلوماسي، وأن السماح بإفلات مرتكبيها من العقاب من شأنه أن يحدث خللا في خصوصية المنشآت الدبلوماسية التابعة لأي دولة في أي دولة أخرى، وبالتالي فإن السماح بانتهاك ما يمكن اعتباره "قداسة" تلك الأماكن سياسيا سيكون له ما بعده، وهذا ما ذكره "أردوغان" أكثر من مرة، لا سيما في مقالة الأخير بصحيفة "واشنطن بوست".

3- ما هو الأثر المتوقع لمآلات القضية على العلاقات السعودية التركية؟

يبدو أن القيادة التركية حريصة بشكل أساسي هنا على محاولة عزل هذه القضية عن العلاقات مع السعودية، قدر المستطاع، وهو ما ظهر في تأكيدات "أردوغان"، بمقاله الأخير بـ"واشنطن بوست"، حينما قال: "رفضنا السماح بتصوير جريمة خاشقجي كنزاع ثنائي بين تركيا والمملكة".

من هنا، ستبقى أنقرة في خانة رد الفعل، فهي -وإن اختارت عزل قضية "خاشقجي" عن العلاقات مع السعودية- فإن الأخيرة لا يبدو أن لديها هذا الخط الأحمر لأسباب متعددة، أبرزها الانضواء السعودي تحت الموقف الإماراتي، ومعروف أن أبوظبي تمتلك موقفا شديد الراديكالية من أنقرة، لكن قد يسهم التباعد السعودي الإماراتي النسبي الأخير، بسبب ما حدث في اليمن بالأساس، في تقوية موقف الطرف الذي يطالب بالحفاظ على علاقة مميزة مع أنقرة، رغم كل ما حدث.

وما هو واضح هو أن الأتراك سيمضون قدما في طلب العدالة المرضية بحدها الأدنى، الذي يتضمن عقاب واضح وصارم لكافة المتورطين، لكن المأزق هنا هو أن الرياض ترفض تماما إدخال ولي العهد السعودي في تلك الدائرة، وهو ما قد يستدعي مرونة من أنقرة، مقابل مكاسب أخرى قد تتمثل في منحها أوراقا قوية في العلاقة مع الرياض.

((4))

4- ما هو السيناريو الذي تعده السعودية لإغلاق القضية؟

ما هو دائر الآن، هو أن "بن سلمان" يحاول اللعب على عامل الوقت وضبابية أجواء المحاكمات المزعومة للمتهمين الذين قال إنه تم اعتقالهم، لكن يبدو أن الأتراك مصممون على كشف هذا الضباب، وصولا إلى عقاب علني بحق شخصيات كبرى في المملكة، وهو ما ظهر في تصريحات "أردوغان" ووزير خارجيته المتكررة حول ضرورة وجود محاكمة علنية للمتهمين في السعودية أو تسليمهم لمحاكمتهم في تركيا.

أبرز التحليلات تشير إلى أن "بن سلمان" لا طريق أمامه سوى التضحية بأسماء مهمة من فريقه المقرب في محاكمة علنية، وهو ما قاله بوضوح خلال مقابلته الأخيرة مع قناة "CBS" الأمريكية بأن المتورطين في مقتل "خاشقجي" سيحاسبون، أيا كانت رتبهم أو مناصبهم.

قد تعيد السعودية تقديم عروض مغرية لتركيا، مقابل إغلاق القضية، وهي بالطبع وعود اقتصادية مغرية للغاية، ورغم أن الأتراك لا يزالون يرفضون بإصرار هذا الأمر، إلا أن كل شئ له حدود، لاسيما وسط المصاعب الاقتصادية التي تواجهها تركيا، لكن الثمن يجب أن يكون باهظا للسعوديين ومغريا للأتراك، والأهم هو البحث عن مخرج يحفظ صورة أنقرة والرياض بعد ما حدث.

((5))

5- هل ثمة تأثير للقضية على الانتخابات الأمريكية؟ وكيف يعمل "ترامب" و"بن سلمان" على تجنب ذلك؟

يرى الرئيس التركي، في مقاله الأخير بـ"واشنطن بوست"، أن قضية "خاشقجي" كانت أكثر الحوادث تأثيرا وإثارة للجدل في القرن الحادي والعشرين، بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001. وإذا نجحت تركيا في إقناع العالم بهذه الفلسفة، فإن هناك تأثيرا سلبيا ينتظر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في الانتخابات المقبلة 2020.

لكن واقعيا، تبدو قدرة تركيا على هذا الأمر غير مضمونة، لاسيما أن الانتخابات الأمريكية مسألة شديدة التعقيد، وتخضع لتشابكات سياسية واقتصادية تتجاوز قضية "خاشقجي" بكثير، وعندما يأتي الحديث عن العلاقات الأمريكية السعودية، فإن الأمور تتجاوز مسألة "خاشقجي" برمتها، كما ذكر "بن سلمان" في حديثه مع "CBS".

وعلى نفس المسار الواقعي، ليست القضية بهذه البساطة؛ فـ"ترامب" قد يجد نفسه مجبرا على اتخاذ موقف راديكالي حقيقي ضد "بن سلمان" كشخص وحيثية إذا شعر بتأثير لتلك القضية على الانتخابات التي تأتي وسط أزمة سياسية كبيرة له مع الديمقراطيين حاليا، وبالتالي فإن الوصول لتصور سريع مع ولي العهد السعودي لإغلاق مرض للقضية، أو على الأقل تسكينها ريثما تمر الانتخابات، سيمثل ضرورة ملحة.

يبقى في النهاية الإشارة إلى أن التصلب التركي لن يتغير، طالما لم يحدث مرونة غير مسبوقة من الرياض، وهي مرونة لن تكون سهلة أبدا على ولي العهد الشاب، فهل سيفعلها؟

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

مستقبل العلاقات السعودية التركية العلاقات السعودية التركية مقتل خاشقجي ملف قضية خاشقجي

تركيا وخاشقجي.. انحناء للعاصفة أم سياسة النفس الطويل؟

دماء خاشقجي تعيد الروح للربيع العربي

ستراتفور: قتل خاشقجي ضربة قاضية للعلاقات السعودية الأمريكية

العالم العربي بعد خاشقجي.. مزيد من المعارضة كثير من القمع