بروكينجز: أزمة القيادة هي التهديد الحقيقي لفلسطين

السبت 15 فبراير 2020 10:24 م

كان الرد الفلسطيني على "صفقة القرن" التي طرحها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" هو الرفض السريع، وكان ذلك متوقعا. وبعد مغازلة قصيرة مع "ترامب" وفريقه منذ أكثر من عامين، وصف "محمود عباس"، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية، جهود البيت الأبيض منذ ذلك الحين بأنها مؤامرة لتصفية الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي تهمة كررها في مجلس الأمن الدولي، الثلاثاء.

وفي الأيام التي تلت إطلاق الخطة، في 28 يناير/كانون الثاني، دعا "عباس" شعبه إلى النزول إلى الشوارع احتجاجا، وطلب عقد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية في مصر، وأرسل خطابا إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" هدد فيه بوقف كل أشكال التنسيق بين السلطة الفلسطينية و(إسرائيل)، بما في ذلك التنسيق الأمني.

وتؤكد تفاصيل الخطة إلى حد كبير مخاوف "عباس". ويبدو أن رؤية "ترامب" تراعي المواقف التي يتبناها اليمين المتطرف في (إسرائيل) حتى أنها تتبنى لغته ورواياته، مثل استخدام المراجع الكتابية لتبرير السيطرة السياسية الإسرائيلية على القدس.

ولن تكون الدولة الفلسطينية، إذا سُمح لها بالوصول إلى حيز الوجود، قائمة سوى بالاسم فقط، وسيتم تجريدها من جميع عناصر السيادة ذات المغزى، وستكون في شكل أرخبيل من الجيوب المعزولة تحيطها المدن والأحياء اليهودية بشكل يشبه "البانتوستانات" في جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري.

وبموجب الصفقة، تحتفظ (إسرائيل) بأكثر من 30% من الضفة الغربية وجميع مستوطناتها وكامل القدس، بالإضافة إلى سيطرتها الكاملة على أمن فلسطين وهوائها ومياهها الإقليمية وحدودها، وحتى معاهداتها وتحالفاتها. وستكون الدولة الوليدة مجرد مناطق متفرقة تتمتع بالحكم الذاتي الضيق، بحيث يتعين على الدولة الجديدة أن تطلب الإذن من (إسرائيل) لمجرد بناء بئر؛ لأن حقوق المياه الجوفية تبقى في أيدي (إسرائيل).

بعبارة أخرى، "الخطة عبارة عن مهزلة". لكن رغم ذلك، فإن الخطر الحقيقي الذي يهدد بتصفية الحركة الوطنية الفلسطينية لا يأتي من (إسرائيل) أو الولايات المتحدة، ولكن من فشل قيادتها. وفي الواقع، كشفت رئاسة "ترامب" النقاب عن الضعف الأساسي للسياسة الفلسطينية، وسلبية زعمائها، والحالة الرهيبة لمؤسساتها، بعد أكثر من ربع قرن من محاولات السلام الهشة وفشل اتفاقات أوسلو.

سلسلة من الانتكاسات

ومنذ وقت الانتداب البريطاني في فلسطين، وصولا إلى تجديد الحركة الوطنية في ظل منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة "ياسر عرفات" وحتى اليوم، عارضت (إسرائيل) إلى حد كبير التطلعات الوطنية الفلسطينية، حيث عادة ما تكون الولايات المتحدة حليفا راغبا في دعم جهود العرقلة الإسرائيلية. ومع ذلك، لم تختف الحركة الوطنية ببساطة؛ بل استمرت، وتغلبت على العديد من التحديات والنكسات على طول الطريق.

ورغم أن (إسرائيل) اعترفت في نهاية المطاف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للفلسطينيين عام 1993 بتوقيعها على اتفاقات أوسلو، فإنها لم تقبل بعد ذلك بحق الفلسطينيين في تقرير المصير في دولة ذات سيادة.

وبدلا من ذلك، عكست اتفاقيات أوسلو حدود ما كانت (إسرائيل) على استعداد للموافقة عليه في بداية المفاوضات، من أجل قيام كيان فلسطيني يتولي الحكم المحلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، مما يعفي (إسرائيل) من معظم التزاماتها كجيش احتلال، مع السماح لها بممارسة السيادة على كامل الأرض.

ومع عدم وجود افتراض أساسي مشترك حول المكان الذي تتحدث عنه المفاوضات، أو أي اختصاصات قانونية، انهارت الاتفاقات إلى أجل غير مسمى. علاوة على ذلك، فإن هذا هو ما تكرسه خطة "ترامب" بشكل دائم إذا تم تنفيذها.

ومع ذلك، لأكثر من عامين، بينما قام فريق "ترامب" بتنظيم مبادرة سياسية واحدة تلو الأخرى تهدف إما إلى تعزيز السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس، أو تقويض المواقف الفلسطينية، فإن "عباس" ودائرته الداخلية لم يفعلوا سوى إصدار شعارات مهترئة. وبدلا من التصدي بشكل استباقي للاقتراح الوشيك من خلال، على الأقل، تقديم رؤية بديلة والعمل مع الحلفاء في المنطقة وخارجها لبناء الدعم لها، تراجعت القيادة الفلسطينية عن موقفها، وانتظرت دون وضع استراتيجية أو رؤية مقنعة.

وتعرف (إسرائيل) أن تهديدات "عباس" بإنهاء التنسيق بين السلطة الفلسطينية و(إسرائيل)، أو حل السلطة الفلسطينية بالكامل، غير قابلة للتحقيق. وكان ذلك يتطلب، في مرحلة ما على مدى الأعوام الـ15 الماضية، بناء البدائل اللازمة لهياكل عصر "أوسلو"، التي تعفي (إسرائيل) من مسؤوليات الحكم بينما تعزز الاعتماد الفلسطيني على (إسرائيل) في كل شيء، من الماء والكهرباء إلى الموانئ والتصاريح. 

على هذا النحو، فإن المناورات الممكنة، مثل قرار السلطة الفلسطينية الأخير بحظر استيراد بعض المنتجات الإسرائيلية إلى الأسواق الفلسطينية، قد تكون فعالة من حيث المبدأ، لكن الفلسطينيين ليسوا مستعدين بشكل مؤلم للحرب التجارية التي من المحتمل أن تنتج عنها. 

وبدلا من البحث عن مخرج من أوسلو، كان "عباس" قد تعمق أكثر فأكثر فيها، واعتمد أكثر على النوايا الحسنة الإسرائيلية والأمريكية من أجل النهوض بقضية الدولة الفلسطينية. وبدلا من تعزيز العلاقات المؤثرة في الخارج، بما في ذلك بين الفلسطينيين في الشتات، كانت استراتيجيته هي التمسك بحدوث تحول نموذجي داخل (إسرائيل) أو أمريكا، بشكل قد ينقذ حل الدولتين. وبسبب هذا الاعتماد الساحق، فإن (إسرائيل) وأمريكا في وضع يسمح لهما بإلحاق هذا الضرر الهائل بالحركة الفلسطينية.

ومن المؤكد أن القيادة الفلسطينية تشعر بالارتياح من قرار الجامعة العربية بالإجماع رفض اقتراح "ترامب"، وما أعقب ذلك من قرار منظمة التعاون الإسلامي، الذي دعا أعضاؤها، البالغ عددهم 57 عضوا، "إلى عدم الانخراط في الخطة أو التعاون مع الإدارة الأمريكية في تنفيذها بأي شكل من الأشكال".

لكن الموقف الراهن ينطوي على تحولات مهمة في الشرق الأوسط حول القضية الفلسطينية. فقد شهدت علاقات (إسرائيل) مع بعض الدول العربية تقاربا نتيجة الحقائق الجيوسياسية الجديدة، بما في ذلك الاضطرابات الإقليمية، وتوسع النفوذ الإيراني، وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة.

علاوة على ذلك، كيف يمكن للمرء أن يتوقع من الدول العربية أن تمتنع إلى أجل غير مسمى عن متابعة المصالح المشتركة مع (إسرائيل) في حين تتعاون السلطة الفلسطينية مع (إسرائيل) بشكل يومي؟ فبالتأكيد، لا يستطيع "عباس" أن يطلب منها جميعا أن تكون "أكثر ملكية من الملك".

ويرتبط بذلك الجمهور العربي الأوسع وحماسه للقضية الفلسطينية، الأمر الذي كان دائما موضع مراقبة من القادة الإقليميين. وفي الأعوام الأخيرة، تضاءل هذا الشغف، ويعزى ذلك جزئيا إلى أن القضايا الأخرى الأكثر إلحاحا قد أخذت الأولوية، ولكن أيضا لأن القيادة الفلسطينية غير الفعالة والمضللة، والتي أصابتها الشيخوخة، لم تفعل شيئا مؤخرا لحشد الرأي العام الإقليمي. 

وينطبق الشيء نفسه في الداخل، حيث تراجعت شعبية "عباس" ومصداقيته، بسبب عدم إحراز تقدم في إقامة الدولة، وضعف الحكم بشكل عام، وتعليق الانتخابات الديمقراطية، والرغبة في الحفاظ على التنسيق الأمني ​​مع (إسرائيل). وبدلا من ولاية شرعية، اعتمد "عباس" بشكل متزايد على أدوات القمع للبقاء في السلطة. 

وحتى عندما كان من الممكن اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ذات يوم هيئة تمثيلية شرعية، وإن لم تكن أبدا ديمقراطية، فإن الجهود الرامية إلى تعزيز السيطرة على المؤسسة قد حولتها إلى شيء آخر، فقد تم فصل  الجزء الأكبر من المجتمع الفلسطيني المرتبط بالفصائل الإسلامية، مثل "حماس"، ليصبح غير مدرج تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، وفقدت الفصائل المتبقية الكثير من صلتها السابقة.

قيادة سياسية بلا بديل

ويجب أن تكون الحالة الفلسطينية الداخلية مصدر قلق للجميع، بغض النظر عن الخلفية السياسية. فهذا الضعف هو الذي سمح لـ(إسرائيل) أن تضغط بكل قوة لاستغلال كل هذا الضعف على أكمل وجه، وهو ما يمكن القول إنه أساس فشل جهود صنع السلام.

وإذا قررت (إسرائيل) في مرحلة ما في المستقبل أن من مصلحتها عقد صفقة مع الفلسطينيين، فلن يكون هناك طرف على الجانب الآخر شرعي بما فيه الكفاية للتوقيع على اتفاق دائم. وقد سمح الضعف الفلسطيني أيضا للإسرائيليين المهتمين بالاستسلام الفلسطيني الكامل بأن يكونوا أصحاب الصوت الأعلى.

ومع ذلك، ما دام الفلسطينيون محرومين من الحقوق السياسية والمدنية، فسوف يستمر الصراع ويتدهور، ويخلق المزيد من عدم الاستقرار.

وعلى الرغم من أن القيادة الفلسطينية الحالية أضعفت الحركة الوطنية، إلا أنها لا تزال لديها العديد من الأصول التي يمكن البناء عليها؛ حيث تظل الهوية الفلسطينية قوية وواسعة الانتشار، ويعد الناشطون الفلسطينيون والمجتمع المدني وأنصارهم، (بما في ذلك بين الجماعات الإسرائيلية واليهودية)، أكثر المكونات ديناميكية وإلهاما في الحركة الوطنية. ويوفر جيل جديد من الأكاديميين والباحثين إطارا فكريا جديدا لفهم الصراع الذي قد تستخدمه القاعدة الشعبية لتوجيه كفاحها.

ويظل الظلم اليومي الذي يواجهه الفلسطينيون بئرا مستمرا يستمدون منه الدافع والطاقة من أجل قضيتهم.

ومع ذلك، فإن الحملات الشعبية، مثل المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، التي تم إطلاقها عام 2005 كوسيلة للضغط على (إسرائيل) في مواجهة فشل الجهات الحكومية في حل هذا الصراع، قد تكون آلية قوية للتغيير، ولكن ليس بديلا عن برنامج سياسي متماسك تدفعه جهات سياسية فاعلة.

ويظل المستقبل الوحيد للحركة الوطنية الفلسطينية مرهونا بتنحي القيادة الحالية عن الطريق، أو دفعها جانبا، لإعطاء الآخرين فرصة للقيادة.

المصدر | عمر رحمان - بروكينجز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

محمود عباس السلطة الفلسطينية صفقة القرن

مندوب إسرائيل بالأمم المتحدة: لا فرص للسلام في وجود عباس