صراع أردوغان وبوتين يرسم ملامح نظام عالمي جديد

الأربعاء 4 مارس 2020 06:00 م

هناك موطنان للخطر يهددان السياسة الخارجية الروسية في العادة؛ الأول هو عندما تكون روسيا ضعيفة للغاية وبالتالي يتجاهل الغرب مصالحها، وقد استمر ذلك خلال أول عقدين في حياة الاتحاد الروسي، بما في ذلك حرب كوسوفو، والتوسع الشرقي لحلف الناتو، وقرار الولايات المتحدة بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، وكذلك قرارها بالإطاحة بالزعيم الليبي "معمر القذافي".

أبدى الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون –"بيل كلينتون" و"جورج بوش" و"باراك أوباما"– اهتمامًا بروسيا لكنهم تجاهلوا وضعها كدولة فقيرة تكافح للتكيف مع فقدان إمبراطوريتها. وكان شعار البيت الأبيض: "لقد سمعنا ما تقولونه، ولكننا سنفعل ما نريد على أي حال".

انتهت الفوقية الغربية بالتدخلات الروسية في القرم وسوريا.

لكن موطن الخطر الثاني هي عندما تبالغ موسكو في تقدير قدرتها على فرض إرادتها على الدول الأجنبية، وعندما تظهر أيضًا الغطرسة التي كانت هي نفسها ضحية لها من قبل، وهو ما بدأ يحدث الآن في سوريا.

الفكرة أن أيًا من الخطرين لا يدوم طويلًا.

مبالغة في تقدير الإنجازات

انتهى العقد الماضي بأحداث تصل إلى ذروة النجاح وفق تصورات محللي السياسة الخارجية الروس الذين يتمتعون بحماية الكرملين وقدرتهم على الوصول إليه.

ومن الأمثلة الجيدة على ذلك، تحليل "سيرجي كاراجانوف" في صحيفة "روسيسكايا غازيتا"، حيث سرد "كاراجانوف" ما وصفه بـ"الإنجازات الرائعة" في العقد الماضي؛ مثل وقف توسع التحالفات الغربية؛ ووقف سلسلة من الثورات في سوريا دمرت مناطق بأكملها (يعني الربيع العربي)؛ والحصول على مواقع تجارية متميزة في الشرق الأوسط؛ وكسب الصين كحليف؛ وتغيير ميزان القوى مع أوروبا لصالح روسيا.

حتى إن محللًا في السياسة الخارجية الروسية أقل تشددًا مثل "ديمتري ترينين"، مدير مركز "كارنيجي" في موسكو، قد غرد مؤخرًا: "لا تركيا ولا روسيا تتلهفان من أجل قتال بعضهما البعض على سوريا أو داخلها. الخطاب الرسمي في موسكو يدور حول منع نشوب الصراعات. لكن من المحتمل أن يوافق الجيش الروسي على أنه يجب إعطاء القوات التركية إشارة قوية على أنها تمادت كثيرًا".

تمثلت "الإشارة القوية" التي أشار إليها "ترينين" في هجوم على قافلة عسكرية تركية أسفر عن مقتل 34 جنديًا على الأقل وإصابة آخرين في إدلب.

كانت الضربة التي تعرضت لها القافلة، والتي ألقى القادة العسكريون الروس باللوم فيها على تركيا، سواء بسبب قصفها المدفعي المستمر أو لعدم إخبارهم مقدمًا بمكان توجه القوات التركية، بمثابة قراءة خاطئة واضحة لكل من عقلية الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" ووضعه السياسي الخطير في وطنه.

العلاقة المزدهرة

منذ البداية، كانت هناك حدود لعلاقة "أردوغان" مع "بوتين"، والتي بدأت عندما أرسلت إليه موسكو رسائل الدعم التي كان لا يحصل عليها من واشنطن بعد الانقلاب الفاشل في يوليو/تموز 2016.

أثبت "أردوغان" ذلك لموسكو بالأفعال، فافتتح "تورك ستريم"، وهو خط أنابيب ينقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى جنوب أوروبا متجاوزًا أوكرانيا؛ واشترى صواريخ الدفاع الجوي الروسية من طراز "إس-400" مضحيًا بالطائرات المقاتلة الشبحية الأمريكية، لكن ذلك كان فقط طالما قدمت تلك التحركات لتركيا نفوذاً مع واشنطن أو سمحت له بالقيام بالمزيد في سوريا أكثر مما كان ممكنًا عندما كان لا يزال يتبع الخط الغربي.

في سوريا، كانت علاقة تركيا المزدهرة بروسيا تنطوي على مقايضات غير مريحة، حيث تخلى كل جانب عن حليفه، وهم "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي (PYD) بالنسبة لروسيا والسوريون في شرق حلب بالنسبة لأنقرة.

لكن ثمرة تلك العلاقة كانت محتومة النهاية لسبب ديموجرافي بسيط للغاية. فمع كل انتصار سجله النظام السوري، تضخم عدد اللاجئين السوريين في إدلب. يوجد حاليًا 4 ملايين في مساحة صغيرة وفرّ 900 ألف منهم إلى الحدود التركية، فيما يعد أكبر نزوح واحد للاجئين في الحرب كلها، وقد مر دون ملاحظة إلى حد كبير في أوروبا، حتى الآن.

"أردوغان" محاصر في زاوية

حوصر "أردوغان" في الزاوية، مع وجود 3.6 ملايين لاجئ سوري مسجل في تركيا، واقتناص المعارضة للمدينيتين الرئيسيتين (إسطنبول وأنقرة) في الانتخابات الأخيرة وإعرابها صراحة عن عداء للاجئين، إلى جانب الانشقاقات في حزب "العدالة والتنمية" الحاكم.

لم يستطع "أردوغان" السماح لكل من "بشار الأسد" و"بوتين" بقيادة موجة لاجئين أخرى باتجاه حدوده، وكان عليه أن يتصرف.

فسياسة "الأسد" التي تفاقم من أزمة اللاجئين سرعان ما أصبحت تهديدًا سياسيًا وجوديًا لـ"أردوغان" كرئيس.

ثانيًا، هناك عقلية "أردوغان"؛ حيث يفكر "أردوغان" في موقعه في تاريخ تركيا تمامًا كما يفكر "بوتين" بالنسبة لموقعه في تاريخ المسيحية الأرثوذكسية الروسية، أو كما يفكر رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" في موقعه من التاريخ اليهودي.

لا يعتبر أي من هؤلاء الرجال قيادتهم مؤقتة، أو تخضع بالكامل لإرادة الشعب في انتخابات حرة، بل يفكر كل واحد منهم في نفسه على أنه رجل اختاره القدر ليس فقط لتحقيق تطلعاته الخاصة ولكن تطلعات أمته أيضًا.

فاجأ التقدم العسكري التركي، خلال عطلة نهاية الأسبوع ،الروس، وأصبح المعلقون السياسيون الروس أكثر ترددًا بشكل ظاهر في المقابلات مع وسائل الإعلام الناطقة بالعربية.

حقق القصف الذي قامت به الطائرات التركية المسيرة ومدفعيتها على قوات "الأسد" 3 أهداف؛ حيث دمرت مصنعًا للكيماويات ينتج غاز الكلور ومطاران، بما في ذلك النيرب غرب حلب، وعدد كبير من الدبابات وناقلات الجنود المدرعة والأسلحة.

لقد بررت الفعالية القتالية للقوات التركية في إدلب، وخاصة أداء طائراتها المسيرة، تحليل مدير الموساد "يوسي كوهين"، الذي حضر اجتماعًا سريًا في الرياض السنة الماضية.

أخبر "كوهين" المجتمعين أنه بينما يمكن احتواء إيران عسكريًا، فإن تركيا لديها قدرة أكبر بكثير، فقد قال وفقًا لما نقله شهود: "القوة الإيرانية هشة. التهديد الحقيقي يأتي من تركيا".

نهاية العلاقة؟

كانت النتيجة نهاية العلاقة الودية بين "أردوغان" و"بوتين"، طلب "أردوغان" من "بوتين" الابتعاد عن طريق قواته، وطلب "بوتين" من "أردوغان" الخروج من إدلب.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها أي من الرجلين هذا النوع من اللغة بشكل خاص مع بعضهما، وهي اللغة التي يحتفظون بها عادة لرؤساء الدول الغربية.

سرعان ما فقد المسؤلون الروس هيبتهم في الإعلام التركي وانتهى النفوذ الروسي على كبار المسؤولين الأتراك أيضًا، فخلال معظم السنوات القليلة الماضية، اكتسبت روسيا سمعة بالوفاء بوعودها، لكن كل هذا اختفى.

لقد حلّت نظرة واقعية جديدة في أنقرة حول استعداد روسيا للوفاء بالوعود التي قطعتها لتركيا في سوتشي، وهذا يعني أن "أردوغان" سيبرم صفقة أكثر صعوبة عندما يذهب إلى موسكو.

من المستحيل التنبؤ بما سيحققه "بوتين" أو "أردوغان". إن موقف موسكو رسمياً يتعلق بمنع نشوب الصراعات أكثر، بينما تفعل بالطبع العكس تماماً على الأرض في إدلب.

لكن العنصر الجديد في هذه الحسابات هو وجود قوتين إقليميتين على طرفي نقيض من الصراع، لديهما الاستعداد والقدرة على استخدام القوة.

لم تعد روسيا هي الجيش الأجنبي الوحيد في شمال سوريا المستعد للقتال، وهنا ما زال من المستبعد وجود القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا.

نهاية ما تزال بعيدة

لا تزال الخطوط الأمامية في سوريا متقلبة إلى حد كبير، وهذا الصراع لم ينته بعد، بغض النظر عن عدد المرات التي أعلن فيها "بوتين" أن "المهمة أنجزت".

كل من روسيا وتركيا يمكنهما أن يسببا الخسائر لقوات بعضهما، في نفس الوقت الذي يتفاديان فيه الاصطدام المباشر ببعضهما البعض.

بالنسبة لـ"أردوغان"، ارتفعت المخاطر مرة أخرى وارتفعت معها حدة خطابه، حيث قال يوم الأحد: "تركيا تخوض كفاحًا تاريخيًا وحاسمًا من أجل حاضرها ومستقبلها. نواصل العمل بلا كلل ليل نهار من أجل تحقيق النصر الذي سيصون مصالح بلدنا وأمتنا وهذا سيؤدي إلى نتائج مهمة مماثلة لتلك التي شهدناها قبل 100 عام".

وأضاف: "ندرك أنه إذا تهربنا من الصراع في هذه المنطقة الجغرافية التي تعرضت للاحتلال والقمع عبر التاريخ، وإذا لم نتمسك بوحدتنا وتضامننا، فسيتعين علينا أن ندفع ثمنًا أكبر بكثير".

في هذا إشارة واضحة إلى تمكن "أتاتورك" من هزيمة الحلفاء في "جاليبولي" قبل قرن من الزمان، عندما كانت تركيا على وشك أن يتم تقطيع أوصالها من قبل قوى الحلفاء إذا فازوا، ومهدت هزيمتهم الطريق لصعود "أتاتورك" وإحياء القومية التركية.

نظام جديد

يفكر "أردوغان" الآن بالطريقة ذاتها بشأن حملته في سوريا حيث يواجه عددًا من الجيوش الأجنبية. إذا فاز في هذه الجولة، فسيرسخ لتركيا نفوذًا أكبر ليس فقط على الطاولة مع روسيا، ولكن في المنطقة أيضًا.

سيؤثر دور تركيا المتصاعد في سوريا أيضًا على توازن القوى في العالم العربي السني الذي يواجه التوسع الإيراني المفرط في الأراضي العربية.

وهذا هو السبب الذي يفسر تحديد (إسرائيل) لتركيا -الحليف العسكري السابق الذي باعت له طائرات مسيرة- كتهديد عسكري أكبر من إيران، خاصة بعد أن قامت تركيا بصنع طائراتها المسيرة الخاصة، ويفسر شماتة وسائل التواصل الاجتماعي في السعودية والإمارات بعدد الخسائر التركية في إدلب.

يخوض "أردوغان" معركة مرتفعة المخاطر، ويجب على "بوتين" أيضًا، أن يحسب تكاليف ما يعتقد أنه نجاحه في سوريا، والتي تزداد فداحة عامًا بعد عام، في أرض لن يحدث فيها إعادة إعمار قبل عقود.

لم تنجح القوة العسكرية الروسية في سوريا إلا عندما لم تكن هناك قوة عسكرية مضادة حقيقية يمكنها إسقاط طائراتها، والآن أصبحت مثل تلك القوة موجودة، وهناك الكثير مما سيترتب على هذه المنافسة.

مرحبًا بكم في النظام العالمي الجديد متعدد الأطراف، والذي يعتبر غير مستقر، تمامًا مثل النظام السابق الذي حل محله وكان يسيطر عليه الغرب.

المصدر | ديفيد هيرست - ميدل ايست آي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

ملف اللاجئين رجب طيب اردوغان فلاديمير بوتين العلاقات التركية الروسية الأزمة في سوريا

المونيتور: روسيا درست خيارات شبه عسكرية ضد تركيا

أردوغان إلى روسيا لبحث التصعيد في إدلب مع بوتين