فيروس كورونا ومخاطر تسييس الطب

الأربعاء 15 أبريل 2020 07:18 م

يعتقد البعض أن جميع المؤسسات الإنسانية سياسية، وينطلق هذا الاعتقاد من مقولة "أرسطو" أن "الإنسان بطبيعته حيوان سياسي"، وإذا رغب المرء في الصعود إلى القمة في مجاله، فلا يكفي أن يكون كفئًا، وإنما يجب أن يكون دبلوماسيًا، وداهية ووحشيًا عندما يستلزم الأمر.

لكن الصعوبة في السياسة هي القدرة على الموازنة بين المطالب المتنافسة، التي يؤدي الفشل فيها إلى اتخاذ قرارات خاطئة.

هناك اقتباس منسوب إلى "أبراهام لينكولن" يقول فيه: "يمكنك إرضاء جميع الأشخاص لبعض الوقت، ويمكنك إرضاء بعض الأشخاص طوال الوقت؛ ولكن لا يمكنك إرضاء جميع الناس طوال الوقت".

"كورونا" وتسييس المؤسسات الطبية

بالنسبة للعديد من المؤسسات -خاصة الحكومية- فإن الصراع بين الحفاظ على المصداقية وتلبية المطالب الجماهيرية هو صراع مألوف.

لكن هناك بعض المؤسسات، مثل المؤسسة الطبية، التي لديها خبرة أقل في ذلك؛ فغالبًا ما يتمتع المجتمع الطبي برفاهية العمل في عزلة نسبية عن متطلبات السياسة.

هذا الدرع من شبه الخصوصية أتاح ثقة أكبر بالخبراء؛ كما أن قلة الضوء المسلط على المؤسسة منحها غموضًا أكبر وقلل من النقد الموجه لها، ولكن هذا لم يعد الحال اليوم.

فقد عرّضت جائحة "كورونا" ممارسة الطب والصحة إلى المعضلة السياسية الأساسية المتمثلة في تحقيق التوازن بين المطالب المتنافسة.

يمكننا رصد هذا الصراع في المؤسسات الطبية الحيوية، بالنظر لقائدين مختلفين يجدان نفسيهما الآن في طليعة المناقشات الطبية والسياسية؛ وهما "تيدروس أدهانوم"، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، و"أنتوني فاوتشي" مدير المعهد الوطني لأمراض الحساسية والأمراض المعدية والمتحدث الفعلي باسم الاستجابة الأمريكية لجائحة "كوفيد-19".

يعتبر "تيدروس" في موقف صعب بالفعل، فغرائزه السياسية؛ التي سمحت له بالتسلق إلى قمة أكثر منظمة صحية مرموقة في العالم، لم تجهزه بشكل كاف لمواجهة فيروس "كورونا" باعتباره جائحة عالمية.

فقد تورطت منظمة الصحة العالمية في التستر على الانتشار المبكر للفيروس في الصين، كما حجبت المعلومات الحساسة من تايوان بشأن انتقال العدوى من شخص لآخر.

وبمجرد انكشاف أمر الوباء للعلن، كان "تيدروس" أبرز مؤيدي الصين، حيث امتدح البلاد، لا سيما فيما يتعلق بسرعتها في تحديد تسلسل الجينوم الخاص بالفيروس وعرضه على المجتمع العالمي، كما سلط الضوء على فعالية الصين في السيطرة على تفشي المرض.

صحيح أن الصين تمكنت من تنفيذ تدابير واسعة وقوية لإبطاء تفشي المرض، لكنها أسكتت أيضًا الذين فضحوا ما يحدث، وشنت حملة تضليل ضخمة، وجرّت المواطنين المرضى الباكين بقوة إلى خارج منازلهم وأغلقت البنايات السكنية.

ووفق ما اتضح في كثير من الأحيان؛ كانت السياسة - وليس تقييم الصحة العامة غير المنحاز - الدافع المحتمل لسلوك "تيدروس".

وبالرغم أن عامة الناس قد لا يفكرون في وكالات الصحة العامة ككيانات سياسية، إلا أن البلدان غالبًا ما تسعى إلى التأثير في المؤسسات الدولية لكسب النفوذ السياسي.

في عام 2017، أصبح "تيدروس" رئيس منظمة الصحة العالمية بعد أن أعطته الصين دعمها، وهكذا، كان مدينًا لها واضطر لإرجاع المعروف عندما تطلب الأمر ذلك.

لكنه خلال هذه العملية، أساء إلى سمعة منظمة الصحة العالمية، وأكسبها سمعة "شريكة الصين في التستر على فيروس كورونا"، وهي السمعة التي يمكن أن تهدد النفوذ السياسي للمنظمة ومصادر تمويلها، مما يضر في نهاية المطاف بقدرتها على القيام بعمل مهم.

الأسوأ من ذلك، أن العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي يطالبون الآن بالإطاحة بـ "تيدروس"، وقد يتمكنون من ذلك أيضًا، لأن الولايات المتحدة هي أكبر ممول لمنظمة الصحة العالمية، والمال له نفوذه.

والآن؛ تجد هذه المؤسسة الطبية العالمية نفسها في خضم خلاف جيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين.

الموازنة بين واجب السياسي والطبيب

في حين أنه من غير المحتمل أن يواجه "فاوتشي" هذا المستوى من التدقيق السياسي، فإنه لن يخرج من هذا سالما (قام الرئيس دونالد ترامب بالفعل بإعادة تغريد منشور مع وسم اطرد فاوتشي #FireFauci).

يحظى "فاوتشي" باحترام كبير لأسباب عديدة، أحدها أنه ترأس "المعهد الوطني الأمريكي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية" منذ عام 1984، وهو ناجح وبارع، لكنه يواجه الآن ربما أصعب مهمة في حياته المهنية؛ فلديه مهمة محفوفة بالمخاطر تتمثل في مواجهة الجمهور نيابة عن رئيس الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، عليه أن يقول الحقيقة العلمية بأفضل ما يستطيع.

ويمكن لهذه الأدوار أن تكون متضاربة. لدى السياسي نهج في مقاربة الوضع بشكل يختلف تمامًا عن الطبيب. يحتاج الرئيس إلى حماية كل من الصحة العامة والاقتصاد، والسعي في أحدهما يمكن أن يعرض الآخر لخطر أكبر، ويرافق كل هذا أجندة سياسية تتمحور حول إعادة الانتخاب.

ومع ذلك، قرر المجتمع الطبي، الذي تقوده إلى حد كبير الأوساط الأكاديمية، أن الصحة العامة تستحق إعطاء الأولوية على الاقتصاد.

هذا ليس مفاجئًا نظرًا لأن المؤسسات الطبية تعتمد على البيانات ولا تشعر بالحاجة للاستجابة للرأي العام.

يطبق هذا المجتمع قسم "أبقراط"، والذي يتضمن "أولاً، لا تسبب الأذى"، مما يعني الضغط من أجل اتخاذ إجراءات تتمحور حول الصحة (مثل عمليات الإغلاق الأكثر تحفظًا) في محاولة لتقليل الإصابات والوفيات قدر الإمكان.

في الوقت الحاضر، تتماشى المشاعر العامة الأمريكية مع المجتمع الطبي بناءً على أسس أخلاقية وتدعم القيود الاجتماعية والمادية الواسعة التي تساعد على تقليل عدد الوفيات. يمكن تلخيص الاعتقاد السائد بين الجمهور في أنه "يمكن إحياء الاقتصادات، بينما الجثث لا".

ومع ذلك، فبينما كانت الولايات المتحدة في حالة إغلاق، قدم أكثر من 16 مليون شخص طلبات إعانات البطالة في الأسابيع الثلاثة الماضية فقط، وأصبح الركود أمرًا محتومًا.

هذه هي القوى المتعارضة التي تضغط على "فاوتشي"، ومع ذلك، لديه اعتبار ثالث: الحقيقة العلمية؛ والحقيقة حاليًا مشوشة.

على سبيل المثال، خلصت مراجعة حديثة نُشرت في مجلة "ذا لانسيت" الطبية إلى أن إغلاق المدارس ليس فعالًا جدًا في إبطاء انتشار فيروس "كورونا"، لكن سيكون من الانتحار السياسي أن يعلن "فاوتشي" أن المدارس يجب أن يُعاد فتحها -سوف يثور المجتمع الطبي ضده- والإنسان السياسي ليس انتحاريًا.

لذلك، دعم "فاوتشي" طلب المجتمع الطبي بالإغلاق الوطني لمدة غير محددة.

ولكن ما سيكتشفه "فاوتشي" والمجتمع الطبي على الأرجح، هو الانقسام المتزايد في الرأي العام حول الإجراءات التي تم سنها لأنها لا تؤثر على الناس بالطريقة ذاتها.

دعم الجمهور لن يستمر

فقد البعض وظائفهم بينما يعمل الآخرون ساعات إضافية، وبالمثل، يعاني الناس من عزلة مادية بدرجات متفاوتة في جميع أنحاء البلاد.

البشر حيوانات اجتماعية، ولا يمكننا تحمل العيش في عزلة طويلة، وقد بدأت تظهر علامات على العصيان المدني ورفض إجراءات الإغلاق.

ومع فراغ الحسابات المصرفية للناس، سيجد "فاوتشي" والمجتمع الطبي أنفسهم بين خيارين صعبين بالقدر ذاته. إن سياسة "فعل أي شيء لوقف الفيروس" سيقابلها الواقع القاسي للمواطن الغاضب.

ومع وجود حوالي ثلاثة أرباع الأمريكيين تحت الإغلاق، ستكون العواقب غير المقصودة كبيرة. كان هناك انخفاض ملحوظ في عدد مرضى النوبات القلبية والسكتة الدماغية الذين يصلون إلى المستشفيات، ربما بسبب خوفهم من الإصابة بفيروس "كورونا" أو عدم العثور على سرير في المستشفى، وبينما يتدهور الاقتصاد، يمكننا أن نتوقع أيضًا زيادة في أزمات الصحة النفسية والعنف المنزلي والانتحار.

فيما يقول مؤيدو الإغلاق أنه من أجل الحصول على اقتصاد فعال، يجب أن نحصل على صحة عامة جيدة، فإن العكس صحيح أيضًا؛ للحصول على صحة عامة جيدة، يجب أن يكون لدينا اقتصاد فعال.

يعتبر الأبطال الحقيقيون هم الأطباء والممرضات والطاقم الطبي في الخطوط الأمامية لمواجهة الجائحة، ويؤمن الجمهور إلى حد كبير بالشئ ذاته فيما يتعلق بقادة المجتمع الطبي أيضًا.

لكن الآثار الاجتماعية والاقتصادية للوباء أقحمت "تيدروس" و"فاوتشي" والمجتمع الطبي في التحدي السياسي المتمثل في الحفاظ على المصداقية أثناء الاستجابة للمطالب المتنافسة.

ولا يمتلك الشخصان خبرة كافية يعتمدون عليها، بينما يراهنان على أن عاطفة الناس وثقتهم بالأطباء ستعطيهم السلطة لتحديد السياسات التي ستقلب المجتمع في المستقبل المنظور.

ومع ذلك، عندما ينهار الاقتصاد -خاصة إذا استمر الفيروس في الانتشار على أي حال- فإن المشاعر العامة ستتغير بسرعة وبشكل كبير، وقد تتزعزع ثقة الأمريكيين في المؤسسة الطبية.

المصدر | أليكس بيريزو - جيوبوليتيكال فيوتشرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

فيروس كورونا تداعيات كورونا الاقتصاد الأمريكي دونالد ترامب

رايتس ووتش تتهم مصر والصين باستغلال كورونا للتضييق على الحريات

الأنظمة العربية واستثمار كورونا في السياسة

فورين أفيرز: العالم سيتجه لتقليد النموذج السويدي في مواجهة كورونا