التباعد الاجتماعي بعد «كورونا»
أصبحت دول كثيرة اليوم تستعدّ لتكريس مبدأ التواصل والإنتاج والعمل عن بعد كمبدأ مستقرّ في المستقبل.
سيضاعف الواقع الجديد انتشار سلوك انعزالي لدى شريحة بشرية كبيرة وسيؤثر بعمق على طبيعة التواصل الرقمي.
تعكف قوى استراتيجية بدول العالم على تصوّر بدائل وطرق وحلول تستطيع عبرها التأقلم مستقبلا مع حالات شبيهة بما يحدث اليوم.
* * *
التباعد الاجتماعي هو الاسم الذي أطلق على الإجراء الوقائي الأهم الذي يفرض احترام مسافة كافية بين الناس تمنع انتقال الفيروس وانتشار العدوى.
لكن هذا الإجراء الهام لا يقتصر على المظهر اليومي في المسافة بين الأشخاص بل يتعدّاه إلى ثقافة جديدة وسلوك محدث بدأ يفرض نفسه على الأفراد والمجموعات في مختلف الدول.
التعليم عن بُعد والعمل عن بعد والتسوق عن بعد.. كلها مصطلحات بدأت تغزو المعجم اليومي للمجتمعات وصارت ممارسة تسِم السلوك الفردي والجماعي وطريقة الحياة والعمل. بل إنّ دولا كثيرة أصبحت اليوم تستعدّ إلى تكريس مبدأ التواصل والإنتاج والعمل عن بعد كمبدأ قارّ في المستقبل.
الظاهرة الجديدة هامة بل ومصيرية مع انتشار الوباء وانعدام القدرة على السيطرة عليه أو إيجاد لقاح فعال له لكنها في الوقت نفسه تطرح الكثير من التساؤلات والقضايا عن شكل المجتمع الجديد والتغيرات النفسية التي قد تطرأ على الأفراد ومستقبل الأسرة في حال تمدد وضع الحجر الصحي.
في حال ثبوت صحة الفرضية التي وضعها الكثير من المراقبين والخبراء والمتعلقة بحالة الحجر التي قد تطول وبأن البشرية مدفوعة اليوم إلى التعايش مع الوباء مدّة أطول فإنّنا أمام مشهد قد يعيد تشكيل المجتمع والفرد.
وجدت المجتمعات العربية نفسها مدفوعة إلى تطبيق مبادئ التباعد الاجتماعي رغم أنها مجتمعات شرقية تقوم فيها العلاقات الاجتماعية على التقارب والاحتكاك والتجمّع.
التباعد الاجتماعي في المدرسة وفي أماكن العمل وفي وسائل النقل وأماكن الاجتماعات والتجمعات سيؤثر كذلك على طبيعة التواصل وعلى سلوك الفرد بما هو كائن اجتماعي بالأساس.
لا شك أن الوسائط الافتراضية عبر شبكة الإنترنت سيكون لها دور نشط خلال السنوات القادمة في تعويض التواصل المباشر بين الأفراد.
هذا الواقع الجديد سيضاعف حتما من انتشار السلوك الانعزالي لدى شريحة كبيرة من البشر كما سيؤثر بشكل عميق على طبيعة التواصل الرقمي من تجارة ومعاملات وتبادل للخبرات والمعلومات.
يرى كثيرون أنه حتى في صورة انحسار الوباء وتراجع عدد المصابين أو في حال اكتشاف لقاح فعّال ضد المرض فإنّ الواقع الاجتماعي والأسري الجديد لن يعود كما كان قبل ظهور الفيروس.
تعكف القوى الاستراتيجية في كل دول العالم اليوم على تصوّر البدائل والطرق والحلول التي تستطيع عبرها في المستقبل التأقلم مع حالات شبيهة بما يحدث اليوم سواء كان مصدره طبيعيا أو صناعيا.
وهو الأمر الذي يفرض على الدول العربية الاستعداد مسبقا إلى وضعيات قد تكون أكثر تعقيدا من الوضع الذي عاشته وتعيشه هذه الأيام.
* د. محمد هنيد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة السوربون، باريس.