التحول الديمقراطي في تونس يواجه مخاطر وجودية

الجمعة 7 أغسطس 2020 04:35 م

غالبا ما يشير مراقبو سياسات الشرق الأوسط إلى تونس باعتبارها استثناء من الفوضى التي سببتها الانتفاضات التي هزت المنطقة على مدار العقد الماضي.

وأدت الثورات في سوريا وليبيا واليمن، إلى حروب أهلية مدمرة وتدخل أجنبي واسع النطاق دون نهاية تلوح في الأفق للمعاناة، وأدت حملة بقيادة السعودية قام بها مجلس التعاون الخليجي إلى وأد انتفاضة البحرين في مهدها، في حين أنهى الجيش المصري تجربة مصر الديمقراطية الوليدة قبل أن تبدأ ملامحها في التكون.

لكن يبدو أن الجيش التونسي الصغير وموقعه على هامش الشؤون الإقليمية، بسبب افتقار البلاد إلى المحروقات، والموقع غير الاستراتيجي، كان سببا في نجاة تونس من معاناة مصير الدول الأخرى التي شهدت ثورات الربيع العربي، على الأقل حتى الآن.

ومع ذلك، فإن التفتت المستمر للسياسة التونسية، وتصاعد تدخل القوى الإقليمية في الدول الضعيفة، قد يقود تونس قريبا إلى مواجهة نفس الاضطراب الذي يعاني منه العديد من جيرانها.

  • السياسة المضطربة في الماضي والحاضر

وتأثرت السياسة في تونس الحديثة بشكل كبير بالرئيس الأول للبلاد، "الحبيب بورقيبة"، الذي يلقبه التونسيون بـ "المحارب الأعلى".

وقاد "بورقيبة" البلاد منذ استقلالها عام 1956 حتى الإطاحة به في عام 1987 على يد "زين العابدين بن علي" بعد اتهامه بالعجز العقلي، وذلك بعد شهر واحد من تعيين "بن علي" رئيسا للوزراء.

وبتأثير من "مصطفى كمال أتاتورك" في تركيا، دافع "بورقيبة" عن الدولة العلمانية وحصن البلاد من الميول العامة للتدين.

وقام "بورقيبة" بترسيخ نظام رئاسي، وأسس الحزب الاشتراكي الذي سيطر على السياسة التونسية. وبعد الانقلاب العسكري الفاشل في عام 1962، شدد "بورقيبة" الخناق على الحريات الشخصية، ودمر المجتمع المدني الناشئ، وفي عام 1975، أعلن نفسه رئيسا مدى الحياة. وفي وقت الإطاحة به، كانت تونس لا تزال دولة متخلفة ذات اقتصاد راكد.

وسار "بن علي" على خطى "بورقيبة"، بالرغم من تقديم نفسه في البداية على أنه مصلح. وحصل على دعم جميع التيارات السياسية التونسية؛ الإسلاميين والشيوعيين ونشطاء حقوق الإنسان، حتى عندما ترشح بلا منافس في عام 1989 وحصل على 99% من الأصوات.

وفي عام 2002، قام "بن علي" بمراجعة الدستور، وارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه "بورقيبة"؛ حيث أزال عدد الفترات التي يمكن أن يشغلها الرئيس.

وتمت الإطاحة بـ "بن علي" بعد انتفاضة 2011 التي أدت إلى دمقرطة البلاد. وجرت أول انتخابات عامة بعد الانتفاضة في أكتوبر/تشرين الأول 2011 بمشاركة أكثر من 20 حزبا والعديد من القوائم المستقلة المتنافسة على 217 مقعدا للجمعية التأسيسية.

وأدى وجود عدد كبير من المرشحين والبيئة السياسية المنقسمة إلى عدم تمكن أي حزب بمفرده من الفوز بأغلبية في المجلس التشريعي المكون من مجلس واحد في تونس.

ومنذ عام 2011، كان بناء التحالفات سمة رئيسية في السياسة التونسية. ومن 2011 إلى 2014، تألف الائتلاف الحاكم من 3 أحزاب، حزب "النهضة" الإسلامي، الذي حصل على 89 مقعدا واختار "حمادي جبلي" ليكون رئيسا للوزراء، وحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" اليساري، الذي شغل 29 مقعدا وأصبح مؤسسه "منصف المرزوقي" رئيسا، وحزب "التكتل" من يمين الوسط، الذي شغل 20 مقعدا وأصبح زعيمه "مصطفى بن جعفر" رئيسا لمجلس النواب.

وأظهرت التطورات الإقليمية اللاحقة أن استقرار تونس يقع خارج "الترويكا" (التشكيلة) الحاكمة. وأدت الاضطرابات في سوريا وليبيا وكذلك تورط المسلحين الإسلاميين التونسيين في الجهاد العابر للحدود والعمليات الداخلية إلى زعزعة استقرار البلاد.

كما أن اغتيال "شكري بلعيد" و"محمد البراهمي"، وهما سياسيان يساريان معارضان، عام 2013، كان بمثابة خطر كاد يدفع تونس إلى حرب أهلية.

وأجبر اغتيال "بلعيد" "الجبالي" على الاستقالة، بالرغم من أن بديله، "علي العريض"، كان سياسيا آخر من حزب "النهضة".

وأثار مقتل "البراهمي" احتجاجات وأدى في النهاية إلى استقالة "العريض"، وحل محله رئيس وزراء تكنوقراط، مع اشتداد الغضب الشعبي ضد "النهضة".

ووسط البيئة السياسية المتقلبة، أنشأت منظمات المجتمع المدني الرئيسية "اللجنة الرباعية للحوار الوطني"، التي فازت بجائزة نوبل للسلام في عام 2015، لجهودها في تجنب الصراع المفتوح، وتشجيع التسامح الأيديولوجي وتعزيز التعددية الديمقراطية. ومهد عملها الطريق لدستور جديد وانتخابات عامة في عام 2014.

وفي ذلك العام، واجه حزب "النهضة" تحالفا واسعا يهدف إلى إزاحته من السلطة. وجمع تحالف "نداء تونس"، بقيادة السياسي المخضرم الراحل "الباجي قائد السبسي"، اليساريين والعلمانيين والاشتراكيين وأعضاء النظام البائد.

وحصلت الكتلة النيابية الجديدة على 86 مقعدا، بينما فاز حزب النهضة بـ 69 مقعدا. ورشح "السبسي" "حبيب الصيد" رئيسا للوزراء، الذي شكّل حكومة وحدة من 27 وزيرا ضمت ​​عضوا واحدا فقط من "النهضة".

ومع ذلك، بعد توقيع 12 حزبا وجماعة سياسية تونسية كبرى على اتفاق الرباعية لتقاسم السلطة في عام 2016، المسمى إعلان قرطاج، عيّن "السبسي" "يوسف الشاهد" لقيادة حكومة وحدة وطنية مؤلفة من 26 عضوا يهيمن عليها المستقلون، ولكنها تضمنت جميع التشكيلات السياسية المهمة، ودخلت في تحالف مع "النهضة".

  • رياح التغيير تلوح في الأفق

ومنذ الانتخابات البرلمانية والرئاسية لعام 2019، غرقت البلاد في حالة من الشلل السياسي. وفي الشهر الماضي، أطلقت 3 كتل برلمانية علمانية، وهي "التيار الديمقراطي" و"كتلة الإصلاح الوطني" و"تحيا تونس"، خطوات لسحب الثقة من رئيس مجلس النواب "راشد الغنوشي"، متهمةً إياه بالتعدي على مهام الرئيس "قيس سعيد" وخاصة في شؤون السياسة الخارجية.

وينتقد "سعيد"، الحريص على حياد تونس في الأزمات السياسية في المنطقة، دعم "الغنوشي" لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا، وكذلك علاقاته بقطر وتركيا وجماعة "الإخوان المسلمين".

وجاء التصويت على سحب الثقة بعد أن أجبر "الغنوشي"، زعيم حزب "النهضة"، رئيس الوزراء "إلياس الفخفاخ"، وهو عضو في حزب سياسي منافس، على الاستقالة في يوليو/تموز، بدعوى الفساد وتضارب المصالح.

وفي خطوة مفاجئة، عيّن "سعيد" المحامي المستقل سياسيا ووزير الداخلية السابق "هشام المشيشي" رئيسا للوزراء.

وأصبح "المشيشي" في مسار تصادمي محتمل مع "الغنوشي"، الذي طالب بتعيين خبير اقتصادي للتعامل مع الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الملحة في البلاد.

ونجا "الغنوشي" بفارق ضئيل من التصويت على سحب الثقة، لكن "النهضة" تعتقد أن فلول نظام "بن علي" يقودون حملة الإطاحة به بدعم مالي وإعلامي من الإمارات.

وأشارت "النهضة" إلى تغريدات مناهضة لها من نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، "ضاحي خلفان"، الذي أشاد بـ "عبير موسى"، زعيمة الحزب الدستوري الحر، التي أيدت الضغط للإطاحة بـ "الغنوشي".

وتعد السياسة التونسية شديدة التعقيد بحيث لا تقتصر على الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين. وفي الواقع، ربما تكون الفصائل كلها داخل هذه التجمعات على خلاف.

على سبيل المثال، تدهورت العلاقات بين حركة "النهضة" وائتلاف "الكرامة" الإسلامي بعد تصويت "النهضة" ضد مشروع قانون "الكرامة" لمطالبة فرنسا بالاعتذار عن ماضيها الاستعماري وتقديم تعويضات للشعب التونسي.

وتعد الأحزاب العلمانية والقومية مفتتة هي الأخرى. فلم تتمكن من تطوير منصات موحدة وملموسة، وغالبا ما تكون مدفوعة بمصالح ذاتية ضيقة. وبدلا من اقتراح حلول لاقتصاد البلاد الراكد، وارتفاع معدل البطالة والفساد المستشري، انشغلوا بالخطاب المناهض للإسلاميين.

ويتعارض تعيين "المشيشي" مع إعلان قرطاج، ويشير إلى نهاية سياسة التوافق التي اتسمت بها السياسة التونسية منذ 2011. ويبدو أن "سعيد"، الذي حصل على 73% من الأصوات في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لعام 2019، يعتمد على الدعم الشعبي لتعديل الدستور وتحويل النظام البرلماني إلى رئاسي أو شبه رئاسي، وهو ما تعارضه "النهضة".

ومنذ عام 2011، هيمن على السياسة التونسية بناء الإجماع بدلا من المجازفة، لكن هذا النمط من الحوكمة أثبت فشله؛ ما أدى إلى تشكيل 12 حكومة في أقل من 10 أعوام، في حين أعاق التعاقب السريع للحكومات التصدي للأزمات الاقتصادية المعقدة.

وسئم التونسيون من المشاحنات السياسية والألعاب التكتيكية التي لا تنتهي. ويبدو أنهم على استعداد للتغيير.

لكن القوى الإقليمية التي تطمح في توسيع نفوذها خارج حدودها الوطنية، وغيرها من القوى التي تسعى جاهدة لمحاربة الإسلام السياسي، قد تستفيد من عدم الاستقرار في تونس.

المصدر | هلال خاشان/جيوبوليتيكال فيوتشرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

حزب النهضة التونسي الحكومة التونسية راشد الغنوشي

"النهضة" تتهم الإمارات بتوزيع الأموال لسحب الثقة من الغنوشي