فورين أفيرز: حانت لحظة النهاية لهيمنة الدولار

الثلاثاء 11 أغسطس 2020 06:35 ص

في الستينات، اشتكى وزير المالية الفرنسي "فاليري جيسكار ديستان" من أن هيمنة الدولار الأمريكي أعطت الولايات المتحدة "امتيازا هائلا" للاقتراض بسعر رخيص من بقية العالم والعيش بما يتجاوز إمكانياتها.

وغالبا ما ردد حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حد سواء مثل ذلك الحديث، لكن الامتياز الهائل ينطوي أيضا على أعباء باهظة تلقي بظلالها على القدرة التنافسية التجارية والتوظيف داخل الولايات المتحدة، والتي من المرجح أن تتفاقم مع تقلص حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي.

وتعود فوائد هيمنة الدولار بشكل أساسي على المؤسسات المالية والشركات الكبرى، ولكن يتحمل العمال التكاليف بشكل عام، لذلك فإن استمرار الهيمنة يهدد بتعميق عدم المساواة وكذلك الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة.

ولأعوام، حذر المحللون من أن الصين وقوى أخرى قد تقرر التخلي عن الدولار وتنويع احتياطياتها من العملات لأسباب اقتصادية أو استراتيجية.

حتى الآن، لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن الطلب العالمي على الدولار في طريقة للأفول، ولكن هناك طريقة أخرى يمكن أن تفقد بها الولايات المتحدة مكانتها كمصدر للعملة الاحتياطية المهيمنة في العالم.

ويمكن أن تتخلى الولايات المتحدة طواعية عن هيمنة الدولار لأن التكاليف الاقتصادية والسياسية المحلية أصبحت باهظة بشكل كبير.

وقد تخلت الولايات المتحدة بالفعل عن كثير من التزاماتها الأمنية خلال إدارة الرئيس "دونالد ترامب"، ما دفع خبراء العلاقات الدولية إلى مناقشة ما إذا كانت البلاد ستتخلى عن الهيمنة بالمعنى الاستراتيجي الأوسع.

ويمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عن التزامها بهيمنة الدولار بطريقة مماثلة، حتى لو أراد الكثير من العالم أن تحافظ الولايات المتحدة على دور الدولار كعملة احتياطية، تماما كما تريد الكثير من دول العالم أن تستمر الولايات المتحدة في توفير الأمن، لكن يمكن لواشنطن أن تقرر أنها لم تعد قادرة على القيام بذلك.

وقد حظيت هذه الفكرة بقليل من النقاش بشكل مفاجئ في دوائر السياسة، لكنها قد تفيد الولايات المتحدة، وفي النهاية، بقية العالم.

ثمن هيمنة الدولار

وتنبع هيمنة الدولار من الطلب عليه في جميع أنحاء العالم، ويتدفق رأس المال الأجنبي إلى الولايات المتحدة لأنها مكان آمن لوضع الأموال، ولأن هناك القليل من البدائل الأخرى.

ولكن تدفقات رأس المال غير كافية لتمويل التجارة، ما تتسبب في عجز كبير في الحساب الجاري للولايات المتحدة.

بعبارة أخرى، لا تعيش الولايات المتحدة بما يتجاوز إمكانياتها بقدر ما تستوعب رأس المال الفائض في العالم.

وللهيمنة الدولارية أيضا عواقب محلية، حيث تخلق رابحين وخاسرين داخل الولايات المتحدة، ويعتبر الرابحون الرئيسيون هم البنوك التي تعمل كوسطاء وأماكن لتلقي تدفقات رأس المال، وتمارس تأثيرا مفرطا على السياسة الاقتصادية الأمريكية.

أما الخاسرون فهم أصحاب المصانع والعمال الذين يوظفونهم، ويرفع الطلب على الدولار قيمته، ما يجعل الصادرات الأمريكية أكثر تكلفة، ويحد من الطلب عليها في الخارج، ما يؤدي إلى خسارة الأرباح وفقدان الوظائف في التصنيع.

وقد تحملت ولايات معينة التكاليف بشكل غير متناسب، وهي نتيجة أدت بدورها إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية وغذت الاستقطاب السياسي.

وتم نقل وظائف التصنيع التي كانت ذات يوم مركزية لاقتصادات هذه المناطق إلى الخارج، تاركة الفقر والاستياء في أعقابها، وليس من المفاجئ أن تصوت العديد من الولايات الأكثر تضررا لصالح "ترامب" في عام 2016.

ومن المرجح أن تزداد التكاليف المحلية لاستيعاب التدفقات الرأسمالية الكبيرة وتصبح أكثر زعزعة لاستقرار الولايات المتحدة في المستقبل.

ومع استمرار الصين والاقتصادات الناشئة الأخرى في النمو، واستمرار تقلص حصة الولايات المتحدة من الاقتصاد العالمي، ستنمو تدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة مقارنة بحجم الاقتصاد الأمريكي.

وسيؤدي هذا إلى تضخيم عواقب هيمنة الدولار، ما سيفيد الوسطاء الماليين الأمريكيين على حساب القاعدة الصناعية للبلاد، ومن المرجح أيضا أن يجعل السياسة الأمريكية أكثر خطورة.

وبالنظر إلى هذه الضغوط الاقتصادية والسياسية المتصاعدة، سيصبح من الصعب على الولايات المتحدة بشكل متزايد تحقيق نمو أكثر توازنا وإنصافا والحفاظ على بقائها الوجهة المفضلة لرأس المال الفائض في العالم، مع ارتفاع قيمة العملة وتراجع التصنيع.

وفي مرحلة ما، قد لا يكون لدى الولايات المتحدة بديلا غير الحد من واردات رأس المال لصالح الاقتصاد الأوسع حتى لو كان ذلك يعني التخلي طواعية عن دور الدولار باعتباره العملة الاحتياطية المهيمنة في العالم.

سابقة بريطانية

ولن تكون الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تتنازل عن الهيمنة المالية، ومن منتصف القرن الـ19 حتى الحرب العالمية الأولى، كانت المملكة المتحدة هي الدائن المهيمن في العالم، وكان الجنيه الإسترليني هو الوسيلة المهيمنة لتمويل التجارة الدولية.

وخلال هذه الفترة، استندت قيمة النقود إلى قابليتها للاسترداد مقابل الذهب بموجب ما يسمى بمعيار الذهب.

واحتفظت المملكة المتحدة بأكبر احتياطي من الذهب في العالم، واحتفظت دول أخرى باحتياطياتها من الذهب أو الجنيه.

وفي النصف الأول من القرن الـ20، تراجع الاقتصاد البريطاني، وأصبحت صادراته أقل تنافسية، ولكن نظرا لالتزام المملكة المتحدة بمعيار الذهب، فإن العجز التجاري كان يعني نقل الذهب إلى الخارج، ما يقلل من كمية الأموال المتداولة ودفع الأسعار المحلية إلى الانخفاض.

وعلقت المملكة المتحدة المعيار الذهبي خلال الحرب العالمية الأولى، إلى جانب عدة دول أخرى، ولكن بنهاية الحرب أصبحت بريطانيا دولة مدينة، وحلت الولايات المتحدة التي تراكمت لديها احتياطيات ضخمة من الذهب، محلها باعتبارها الدائن الرئيسي للعالم.

وعادت المملكة المتحدة إلى معيار الذهب في عام 1925، لكنها فعلت ذلك بسعر الصرف ما قبل الحرب، ما كان يعني أن الجنيه الإسترليني كان مبالغا في تقدير قيمته، مع استنزاف احتياطيات الذهب.

واستمرت الصادرات البريطانية في المعاناة، وتضاءلت حيازات الذهب المتبقية في البلاد، ما أجبرها على خفض الأجور والأسعار.

وتراجعت القدرة التنافسية الصناعية للبلاد، وارتفعت معدلات البطالة، ما تسبب في اضطرابات اجتماعية، وفي عام 1931، تخلت المملكة المتحدة عن معيار الذهب، ما يعني في الواقع التخلي عن هيمنة الإسترليني.

وفي عام 1902، وصف "جوزيف تشامبرلين"، وزير الدولة لشؤون المستعمرات آنذاك، المملكة المتحدة بأنها "عملاق مرهق".

واليوم، يناسب المصطلح الولايات المتحدة، التي ترى قدرتها الاقتصادية تتضاءل مقارنة بالقوى الأخرى، ولا سيما الصين.

ويناقش منظرو العلاقات الدولية ومحللو السياسة الخارجية درجة ومدى التدهور في الولايات المتحدة وحتى التوقعات لعالم "ما بعد أمريكا".

ويجادل البعض بأنه في عهد "ترامب"، تخلت الولايات المتحدة عمدا عن مشروع "الهيمنة الليبرالية"، من خلال خلق حالة من عدم اليقين بشأن الالتزامات الأمنية الأمريكية.

ويصف آخرون تراجع الولايات المتحدة عن الهيمنة على أنه جزء من تراجع هيكلي طويل المدى، ما يعني أن الولايات المتحدة قد تتبع التجربة البريطانية السابقة وتتخلى طواعية عن الهيمنة النقدية. 

فرض ضرائب

وفي الوقت الحالي، يبدو الدولار أكثر هيمنة من أي وقت مضى، وحتى في الوقت الذي انغمس فيه الاقتصاد الأمريكي في الركود وخسر ملايين الوظائف، زاد الطلب على الدولار، تماما كما حدث بعد الأزمة المالية لعام 2008.

وباع الأجانب أعدادا كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية في مارس/آذار، لكنهم استبدلوها بالدولار الأمريكي.

وضخ الاحتياطي الفيدرالي تريليونات الدولارات في الاقتصاد العالمي من أجل منع الأسواق المالية الدولية من الانهيار، ما أدى إلى توسيع نظام خطوط المقايضة مع البنوك المركزية الأخرى التي استخدمها في عام 2008.

وفي حين عزز سوء إدارة "ترامب" للوباء وجهة النظر بأن الولايات المتحدة هي قوة متراجعة، فإن تصرفات مجلس الاحتياطي الفيدرالي والمستثمرين حول العالم قد أكدت على مركزية الدولار في الاقتصاد العالمي.

لكن هذا لا ينبغي أن يطمئن الولايات المتحدة، وسوف يستمر تدفق رأس المال في إلحاق الضرر بالمصنعين الأمريكيين، ولن يؤدي الانكماش الناجم عن الوباء إلا إلى تفاقم الألم الذي يشعر به العمال.

ومن أجل تخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية المتصاعدة في بعض الولايات، يجب على الولايات المتحدة التفكير في اتخاذ خطوات للحد من واردات رأس المال.

وقد يكون أحد الخيارات هو توفير عدد أقل من الدولارات للاقتصاد العالمي، ما يؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة إلى درجة تدفع الأجانب إلى رفض شرائها.

ومع ذلك، فإن هذه الخطوة من شأنها أن تجعل التجارة الأمريكية أقل قدرة على المنافسة، وتثقل كاهل التضخم المثقل للغاية بالفعل.

ولا يوجد وريث واضح للولايات المتحدة كمزود للعملة الاحتياطية المهيمنة في العالم، وللسماح لرأس المال بالتدفق بحرية داخل الصين وخارجها، على سبيل المثال، سيتطلب إعادة هيكلة أساسية، وصعبة سياسيا، لاقتصاد ذلك البلد.

ولا يمكن لمنطقة اليورو أن تتولى زمام الأمور طالما أنها تعتمد على النمو الذي تقوده الصادرات وما يقابله من تصدير رأس المال.

لكن عدم وجود خليفة واضح لا ينبغي بالضرورة أن يمنع الولايات المتحدة من التخلي عن هيمنة الدولار.

ويمكن للولايات المتحدة أن تفرض ضريبة على الاستثمارات الأجنبية قصيرة الأجل والمضاربة وتستثني الاستثمارات طويلة الأجل.

وسوف تصل مثل هذه السياسة إلى أصل الاختلالات التجارية عن طريق تقليل تدفقات رأس المال، حيث تصطدم الحواجز التجارية بالأعراض وليس السبب.

كما أنها تخفف من رد الفعل الحالي ضد التجارة الحرة وتقلل من الأرباح غير المنتجة اقتصاديا للمؤسسات المالية.

وفي سيناريو متفائل، ستوافق المحاور الاقتصادية الثلاثة في العالم، الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على إنشاء سلة عملات على غرار حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي، وسيتم تمكين صندوق النقد الدولي من تنظيمها أو يتم إنشاء مؤسسة نقدية دولية جديدة للقيام بذلك.

أما النتيجة المتشائمة، ولكن الأكثر احتمالا، هي أن التوترات، خاصة بين الصين والولايات المتحدة، ستجعل التعاون مستحيلا وتزيد من احتمالية نشوب صراع بينهما حول القضايا الاقتصادية.

وحتى لو كان من المستحيل إيجاد حل تعاوني، فقد يكون من المنطقي للولايات المتحدة أن تتخلى من جانب واحد عن هيمنة الدولار.

وسيؤدي القيام بذلك إلى إجبار الصين ومنطقة اليورو على نشر مدخراتهما الفائضة في الداخل، الأمر الذي سيتطلب منهما إجراء تعديلات كبيرة على نماذجهما الاقتصادية بحيث تنتج نموا أكثر توازنا وإنصافا.

كما أن ذلك سيحد من الأرباح المفرطة للوسطاء الماليين الأمريكيين ويفيد العمال الأمريكيين من خلال خفض قيمة الدولار وجعل الصادرات الأمريكية أكثر تنافسية.

باختصار، قد يفتح التخلي عن هيمنة الدولار الطريق أمام اقتصاد أمريكي واقتصاد عالمي أكثر استقرارا وإنصافا.

المصدر | فورين أفيرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الدولار الأمريكي الهيمنة الأمريكية الاقتصاد العالمي

صفقة إس-400 الروسية لتركيا بعيدا عن هيمنة الدولار

فورين أفيرز: عصر الهيمنة الأمريكية انتهى.. والعالم أصبح بلا قيادة موحدة