جيوبوليتيكال: كيف خسرت مصر قيادتها للعالم العربي؟

السبت 31 أكتوبر 2020 05:51 م

على مدى قرون، نصبّت مصر نفسها كقائدة للعالم العربي. وحتى قبل صعود "جمال عبدالناصر"، الرئيس الثاني للجمهورية المصرية وأحد المناصرين الرئيسيين للعروبة، سعى القادة المصريون إلى توحيد العرب في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لكن في السنوات الأخيرة، فقدت البلاد مكانتها كرائدة للقومية العربية مع تزايد تركيزها على الداخل.

صعود مصر

بدأ صعود مصر كقائد للعالم العربي في أوائل القرن التاسع عشر مع العسكري والحاكم العثماني "محمد علي". بعد أن طرد البريطانيون "نابليون" من مصر عام 1801، أرسلت الإمبراطورية العثمانية "محمد علي"، الذي كان قائدا عسكريا في البلقان، إلى مصر لكبح المماليك، الذين سيطروا على مصر قبل عدة قرون. وبعد 4 سنوات، أعلن "محمد علي" نفسه حاكما لمصر وأمر ابنه "إبراهيم باشا" بالعمل على إنشاء حكم وراثي له. ولم يكن "محمد علي" وأبناؤه عربًا من الناحية العرقية، ولكنهم اعتقدوا أن اللغة العربية ستحدد حدود دولتهم الجديدة.

هزم "إبراهيم باشا" الجيش العثماني عام 1832 في معركة حمص بوسط سوريا، ومرة ​​أخرى عام 1839 في معركة نيزيب في جنوب شرق تركيا حاليًا. ومع ذلك، فإن تدخل القوى الأوروبية أوقف تقدمه حيث تم إقناعه في اتفاقية لندن لعام 1840، بالتخلي عن طموحاته الإقليمية مع الاعتراف بحكم "الأسرة العلوية" على مصر والذي استمر حتى أطاح انقلاب عسكري في عام 1952 بحفيد "إبراهيم"، الملك "فاروق"، الذي اعتلى العرش في عام 1937.

فكّر "فاروق" في فكرة قيادة العرب، خاصة بعد إنشاء جامعة الدول العربية في القاهرة عام 1945، لكن خصومه الرئيسيين، الملك الأردني "عبدالله الأول" ورئيس الوزراء العراقي "نوري السعيد"، أرادوا أيضًا إنشاء دولة عربية تشمل سوريا والأردن والعراق ولذلك أدرك "فاروق" أن المسعى لن ينجح ما لم يحقق انتصاراً عسكرياً على (إسرائيل). وقد جاءت الفرصة في 14 مايو/أيار 1948، عندما أعلن "دافيد بن جوريون" عن قيام دولة (إسرائيل)، حيث شن "فاروق" في وقت لاحق من نفس اليوم، هجومًا على الدولة الوليدة مخالفا بذلك نصيحة قادة جيشه. لكن الهزيمة في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى شوهت صورة "فاروق"، وأبرزت الفساد المتفشي والاضطرابات الداخلية، مما مهد الطريق للإطاحة به في انقلاب عام 1952 الذي نظمته حركة "الضباط الأحرار".

أدى الانقلاب إلى ظهور أول رئيس لمصر، "محمد نجيب"، الذي أطيح به بعد عامين فقط من قبل زعيم آخر في حركة "الضباط الأحرار" وهو "جمال عبدالناصر".

اعتبر "عبدالناصر" أن الدفاع عن القومية العربية واتخاذ موقف صارم ضد (إسرائيل) هما جزءان أساسيان في عملية تحديث مصر ولهذا دعم حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا وانضم إلى حركة عدم الانحياز كعضو مؤسس في عام 1961. وقد تبنى "عبدالناصر" في البداية بناء علاقات مع الولايات المتحدة من خلال تعاملاته مع ضابط وكالة المخابرات الأمريكية "كيرميت روزفلت جونيور"، الذي رأى في العروبة البديل الحميد للشيوعية التي كانت محط اهتمام إدارة الرئيس "دوايت أيزنهاور."

ومع ذلك، فإن عدم القدرة على توقع أفعال "عبدالناصر" والخطاب الناري المناهض للغرب أثار قلق واشنطن مما دفع الولايات المتحدة لرفض طلباته للحصول على أسلحة، وجاء ذلك أيضا لاسترضاء بريطانيا التي اعتبرت "عبدالناصر" تهديدًا لها. كما رفض "عبدالناصر" الانضمام إلى منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط المدعومة من الولايات المتحدة والمناهضة للسوفييت، وهو تحالف عسكري تشكل في عام 1955 من قبل إيران والعراق وباكستان وتركيا والمملكة المتحدة باسم "حلف بغداد".

 فشلت الولايات المتحدة في النهاية في تلطيف نظرة "عبدالناصر" للعالم، خلال فترة مضطربة من الحرب الباردة. كما سحبت الولايات المتحدة تمويلها لمشروع السد العالي في أسوان بعد إحباطها جراء قراره توقيع صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا في عام 1955.

وأصبح الضرر الذي لحق بالعلاقات الأمريكية المصرية غير قابل للإصلاح. ورغم معارضة "أيزنهاور" لغزو مصر عام 1956 من قبل (إسرائيل) وفرنسا والمملكة المتحدة، فقد كان لذلك تأثير ضئيل على "عبدالناصر" الذي قام بتأميم قناة السويس، وسعى بعد ذلك إلى الاستفادة من المكاسب السياسية، بالرغم من خسائره العسكرية. وقد رسم لنفسه صورة باعتباره بطلا للقومية العربية بلا منازع. وفي عام 1958، أنشأ الجمهورية العربية المتحدة، وهي اتحاد سياسي بين مصر وسوريا.

ومع ذلك، انهار الاتحاد بعد الانقلاب العسكري في دمشق عام 1961. وبعد إرسال المظليين في البداية لقمع التمرد، قرر "عبدالناصر" إلغاء العملية. وأدى إحجامه عن استخدام القوة ضد الانقلاب إلى إضعاف مصداقيته العربية. وللتعويض عن فشله في إنقاذ الاتحاد مع سوريا، قرر "عبدالناصر" نشر قوات في اليمن لتحقيق الاستقرار في نظامها الجمهوري الجديد بعد انقلاب عام 1962. ولكن مشروع "عبدالناصر" في اليمن كان كارثيا على مصر بكل المقاييس. فقد استنزفت الحرب التي استمرت 5 سنوات الموارد المالية الهزيلة لمصر، وأوقفت تنميتها الاقتصادية، ووترت علاقاتها مع الولايات المتحدة، وقسمت العرب.

وقد تبعت فترة التعاون القصيرة بين "عبد الناصر" وإدارة الرئيس "جون كينيدي" فترة من العداء والشك عندما أصبح "ليندون جونسون" رئيسًا في عام 1963. حيث اعتبر "عبدالناصر" قرار مجلس الشيوخ الأمريكي بوقف المساعدة عن الدول المعادية لأمريكا موجهًا ضده، بالرغم أنه لم يكن كذلك. كما اعتبر عرض "جونسون" في عام 1967 بمنح مصر حزمة مساعدات قمح مخفضة بقيمة 55 مليون دولار أمرًا عدائيًا.

ولم يتراجع "عبدالناصر" أمام انتكاساته في سوريا واليمن، حيث أقنع الملك الليبي "إدريس السنوسي" بعدم تجديد عقد قاعدة "ويلوس" الجوية الأمريكية، وأدان ما أسماه سياسة الولايات المتحدة الاستعمارية في الكونجو، ودعم  "الفيت كونج" في حرب فيتنام. ومما زاد الطين بلة، قيام بعض مثيري الشغب بإحراق مكتبة "كينيدي" في القاهرة في عام 1964، وبعد أيام قليلة، أسقطت القوات المصرية طائرة مملوكة لرجل أعمال أمريكي مقرب من "جونسون".

تراجع القيادة المصرية

أدى صعود حركة "فتح" وتصاعد هجماتها على (إسرائيل) في بداية يناير/كانون الثاني 1965 إلى تهديد صورة "عبدالناصر" كزعيم قومي عربي. ورغم إعلانه الالتزام بإعادة اللاجئين إلى فلسطين، فقد عارض "عبدالناصر" خوض الحرب ضد (إسرائيل) لأنه كان يعلم أنه سيخسر.

في الذكرى الخامسة والعشرين لمعركة العلمين، قام المشير البريطاني "برنارد مونتجمري" بزيارة مصر قبل أيام قليلة من حرب الأيام الستة وأخبر كبار الضباط المصريين أنهم لا يملكون أي فرصة لخوض حرب ضد (إسرائيل). وبعد أن زود السوفييت "عبدالناصر" بمعلومات استخبارية كاذبة تشير إلى أن (إسرائيل) تحشد قواتها على الحدود السورية، تجاهل "عبدالناصر" تحذيرات ضباطه بشأن تضليل التقارير وأرسل قوات إلى الحدود الإسرائيلية. وعندما ذكّر ضابط كبير رئيس أركان القوات المسلحة المصرية بأن الجيش ليس جاهزًا للحرب، أجاب بأن الانتشار كان مجرد استعراض للقوة.

ارتكب "عبدالناصر" خطأ فادحا في التقدير عام 1967 بإرساله الجيش إلى سيناء دون توقع الحرب. ولهذا حاول استعادة ثقة الجمهور به من خلال إغلاق مضيق تيران أمام الشحن الإسرائيلي، على افتراض أن "جونسون" لن يرغب في المخاطرة بحرب إقليمية وسيعمل على نزع فتيل الموقف، كما فعل "أيزنهاور" عام 1960 بعد حشد "عبد الناصر" لفرقتين في سيناء لردع (إسرائيل) عن مهاجمة سوريا. لكن في عام 1960، كانت العلاقات المصرية السوفيتية متوترة بسبب حظر "عبد الناصر" للحزب الشيوعي السوري بعد تشكيل الجمهورية العربية المتحدة، وهو ما كان موضع ترحيب في واشنطن. أما في عام 1967، فقد كانت التوترات متزايدة بين "عبدالناصر" و"جونسون"، لذلك اختار "جونسون" عدم منع (إسرائيل) من شن الضربة الأولى.

التحول إلى القومية المصرية

شوه انتصار(إسرائيل) عام 1967 صورة "عبدالناصر"، وبعد أن وافقت مصر على وقف إطلاق النار في 8 يونيو/حزيران 1967، توقفت محطات الإذاعة المصرية عن تشغيل الموسيقى العربية وبدلاً من ذلك عزفت الأغاني الوطنية المصرية، وهو تحول تبين أنه دائم ويعكس تحولًا جوهريًا في السياسة.

بعد وفاة "عبدالناصر" في عام 1970 بنوبة قلبية عن عمر يناهز 52 عامًا، واجه خليفته، "أنور السادات"، معارضة من اليساريين المصريين الذين أرادوا السيطرة عليه، والإسلاميين الذين حاولوا إسقاط النظام، والسوفييت، الذين كانوا مترددين في تقديم المساعدة بمعدات عسكرية هجومية لعبور قناة السويس. لقد دفع "السادات" القوتين العظميين إلى معالجة الاحتلال الإسرائيلي لسيناء بجدية أكبر، لكنه خلص إلى أن أياً منهما لن يأتي للدفاع عن مصر. ولاحقا، انفصل "السادات" عن بقية العالم العربي بتوقيعه اتفاقيات "كامب ديفيد" مع (إسرائيل) عام 1978. وفي العام التالي، علّقت جامعة الدول العربية عضوية مصر ونقلت مقرها الرئيسي إلى تونس.

وبعد اغتيال "السادات" خلال عرض عسكري في عام 1981، وجد نائبه "حسني مبارك"، نفسه مشغولاً بالحركات الراديكالية التي سعت لإسقاط النظام. وأعاد "مبارك" هيكلة الاقتصاد بناء على المحسوبية وخلق طبقة جديدة من رجال الأعمال النيوليبراليين. وكان تركيز "مبارك" منصبا على الأمن الداخلي وعلاقات مصر مع الولايات المتحدة لتجنب الأزمات. وبالرغم أن مصر فقدت موقعها كزعيم للعالم العربي، فقد حافظ "مبارك" على استقلاليته في النظام الإقليمي.

تغير هذا الوضع في عهد "عبدالفتاح السيسي"، الذي أصبح رئيسًا بعد الإطاحة بـ"محمد مرسي" في عام 2013. حيث أجبره الانهيار الاقتصادي على التوافق مع الإمارات والسعودية حتى أن "السيسي" تنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، اللتين تتحكمان في الوصول إلى البحر الأحمر من خليج العقبة، إلى السعودية. وفي عام 2017، انضم "السيسي" إلى الرياض وأبوظبي في فرض حصار مستمر على قطر. لقد انحرفت مصر انحرافا كبيرا، من زعيم رائد للعرب إلى تابع لزعماء دول خليجية تحت سطوة المال.

المصدر | هلال خاشان - جيوبولتيكال فيوتشرز – ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

القومية العربية جمال عبدالناصر العلاقات المصرية الخليجية عبدالفتاح السيسي

مصر ترفض إنتاج فيلمين جديدين عن «عبدالناصر» و«السادات»