نظام إقليمي جديد.. ماذا وراء الصراع المتجدد بين تركيا وفرنسا؟

الأحد 1 نوفمبر 2020 04:37 م

شهد التدهور السريع في العلاقات بين فرنسا وتركيا تطورا جديدا تمثل في دعوة الرئيس "رجب طيب أردوغان" لمقاطعة البضائع الفرنسية بسبب دفاع الرئيس "إيمانويل ماكرون" عن عرض رسوم كاريكاتورية تهدف للإساءة للنبي "محمد صلى الله عليه وسلم".

وقبل الخلاف الدبلوماسي الأخير، واجه عضوا الناتو بعضهما البعض في شرق المتوسط. فبعد أن نشرت تركيا سفنا حربية لمرافقة سفينتها الاستكشافية التي تبحث عن موارد هيدروكربونية في شرق البحر المتوسط​​، اتهمتها فرنسا بانتهاك المياه اليونانية والقبرصية، ودعت إلى فرض عقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي. وقد رفضت أنقرة في البداية الانسحاب وهددت بالانتقام من أي دولة قد تهاجم سفنها، بينما نشرت باريس طائرات وسفنًا حربية لردع أنقرة، كما سلحت باريس أثينا من خلال مبيعات الأسلحة بطريقة انتهازية للغاية.

ولاحقا، خفت حدة التوترات حيث سحبت تركيا سفنها الاستكشافية في منتصف سبتمبر/أيلول، ورفض الاتحاد الأوروبي تمرير عقوبات ضد تركيا، وأعلنت اليونان وتركيا عن "آلية عسكرية لفض النزاع" لتجنب الاشتباكات العرضية في البحر.

ظلت تركيا مدركة لتهديد فرض عقوبات عليها في المستقبل إذا استمرت في مشاريعها. ولكن بالرغم من التهديد، أعلن "أردوغان" في منتصف أكتوبر/تشرين الأول أنه سيرسل سفينة استكشاف جديدة لاستئناف البحث في شرق المتوسط متحديًا تهديدات الاتحاد الأوروبي.

تعاملت وسائل الإعلام الفرنسية والرئيس "ماكرون" نفسه مع بحث تركيا عن موارد الطاقة شرقي المتوسط على أنه "سلوك غير مقبول واستفزازات من جانب زعيم مارق" وهو ما أصبح الآن ردا روتينيًا على كل ما يفعله "أردوغان" أو يقوله.

وفي فرنسا، أصبح الهجوم على "أردوغان" منفذًا يعبّر من خلاله مجتمع معاد للإسلام بشدة (بما في ذلك النخب الحكومية) عن خوف وكره للإسلام والمسلمين بحجة "محاربة الإسلاميين".

ومع ذلك، وعلى عكس ما يُقال، لا تنتهك تركيا القانون الدولي فهي لم توقع قط على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، والتي بموجبها يمكن للدول الموقعة أن تطالب بمساحة 200 ميل بحري كمنطقة اقتصادية خالصة لاستغلال الموارد الموجودة فيها. ولا يمكن فرض مثل هذه الاتفاقيات الدولية على الدول التي لم توقع عليها.

وبالنظر إلى أن احتياطيات الغاز في شرق البحر المتوسط ​​والتي تقدر بنحو 3.5 تريليون متر مكعب (وهي احتياطات كبيرة بما يكفي لإمداد الولايات المتحدة بالطاقة لمدة عقد)، فقد أصبحت المنطقة موضع مطالبات متداخلة ومنافسة شرسة حيث تريد كل دولة قطعة من الكعكة.

كانت تركيا -التي تستورد أكثر من 90% من احتياجاتها من النفط والغاز الطبيعي- حريصة، مثل جميع الدول، على تأمين الموارد الطبيعية التي تشتد حاجتها إليها. ومع ذلك، فقد تم استبعادها من الجولات المكثفة للمفاوضات الدبلوماسية متعددة الأطراف والثنائية، والصفقات والاتفاقات الناتجة عنها (لا سيما بين اليونان وقبرص ومصر وإيطاليا ولبنان وإسرائيل)، والتي تسعى لتقاسم هذه الموارد مباشرة بعيدا عن تركيا القريبة.

ونظرًا لتجاهل المجتمع الدولي لمطالبها واحتياجاتها، ولا سيما الاتحاد الأوروبي ودول المتوسط ​​الإقليمية، فقد اضطرت تركيا إلى محاولة إبرام اتفاقياتها الثنائية الخاصة بها -وعلى الأخص مع ليبيا- من خلال استخدام تعريفها الخاص للمنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها.

وفي وسط المطالبات المتنافسة والادعاءات المضادة، وترسيم الحدود المتنازع عليه للمناطق البحرية التي غالبًا ما تتداخل مع بعضها البعض، تتهم الدول بعضها البعض الآن بانتهاكات الحقوق والسيادة.

وبالرغم من عزلتها الكبيرة، مع وجود حكومة الوفاق الوطني الليبية وشمال قبرص فقط إلى جانبها، فإن مطالب تركيا واحتياجاتها مشروعة تمامًا، ويجب على المجتمع الدولي الاعتراف بها على أنها صحيحة. لكن هناك فرصة ضئيلة لحدوث ذلك.

وعلى وجه الخصوص، فإن الادعاء اليوناني بأن جميع جزرها التي لا تعد ولا تحصى في بحر إيجه يجب أن تكون مؤهلة لنفس الولاية القضائية البحرية مثل البر الرئيسي لليونان هو ادعاء مبالغ فيه. وبما أن اليونان تمتلك مئات الجزر، وكثير منها يقع قبالة الساحل التركي، فهذا يعني أنه سيتم تجريد تركيا من الحقوق البحرية، وسيتم محاصرتها في جرفها القاري.

ويحتاج الأمر فقط جولة جديدة من المفاوضات الدبلوماسية، ومن المحتمل أن تكون محكمة العدل الدولية هي المؤسسة الفاصلة، حول وضع بحر إيجه حيث يمكن أن تعترف بشرعية مطالب تركيا واحتياجاتها ويمكن أن توقف هذه الأزمات المتصاعدة في البحر الأبيض المتوسط.

وحتى قبل الخلافات الأخيرة، تولد العداء المتزايد باستمرار بين "أردوغان" وبين آخر 3 رؤساء فرنسيين بسبب تراكم الخلاف والتباين السياسي على مدى سنوات. وانطوى ذلك على طموحات سياسية وجيوستراتيجية متنافسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي أوروبا أيضًا، وهو أمر اتضح مؤخرًا من تدخل تركيا في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان.

وتشمل قائمة الاتهامات المتزايدة أيضا الحرب السورية، حيث هاجمت القوات التركية الميليشيات الكردية التي وقفت إلى جانب الغرب ضد "الدولة الإسلامية"، وفي الصراع الليبي، حيث تدعم فرنسا أمير الحرب "خليفة حفتر" وتدعم تركيا الحكومة المعترف بها دوليًا؛ بالإضافة إلى أزمة اللاجئين، التي استخدمها "أردوغان" كورقة مساومة مع أوروبا؛ فضلا عن شراء تركيا أنظمة أسلحة متطورة من روسيا، مما أثار اتهامات بأنها "تخون حلفاءها في الناتو".

وتشمل القضايا الأخرى تحويل تركيا لآيا صوفيا مرة أخرى إلى مسجد، وصدور انتقادات في جميع أنحاء أوروبا وخارجها باعتبار أن ذلك "استفزاز" ؛ فضلا عن الاتهامات الفرنسية المتتالية لـ"أردوغان" بمحاولة استخدام الشتات التركي "لتصدير علامته التجارية الخاصة من الإسلام التركي".

وفي كل مرة، يتم تصوير "أردوغان" على أنه "معتدي يمثل تهديدًا إسلاميًا للسلام العالمي" بينما يتم إغفال نفاق "ماكرون" في الصراع الليبي، حيث يلقي نفسه باللوم على "أردوغان" في التدخل في ليبيا، بينما يأخذ على ما يبدو شرعية تدخل فرنسا كأمر مسلم به.

وهناك لحظتان حاسمتان أخريان تساعدان في تفسير نفاد صبر "أردوغان" المتزايد حيال ما يراه سلوك تنمر فرنسي. الأولى تكمن في التخريب الذي قام به الرئيس الفرنسي السابق "نيكولا ساركوزي" لمسعى تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو أمر تأثر به الأتراك و"أردوغان" نفسه بشكل كبير.

وأصبح رفض تركيا كعضو محتمل في الاتحاد الأوروبي موضوعًا رئيسيًا لحملة "ساركوزي" الناجحة عام 2007، وهو موضوع مشبع بدلالات معادية للإسلام. وتلاشت آمال تركيا فعليًا إلى الأبد في عام 2011 عندما أعاد "ساركوزي" التأكيد بقوة على معارضته لعضوية تركيا. 

وكانت اللحظة الثانية هي محاولة الانقلاب في يوليو/تموز 2016. ففي تلك الليلة الحاسمة، كان "أردوغان" قادرًا على ملاحظة السلبية الكاملة والتواطؤ من شركائه المزعومين في الناتو، بما في ذلك فرنسا، حيث لم يحرك أي منهم ساكناً لمساعدة الحكومة والديمقراطية الشرعية في تركيا، بل أدلى بعضهم بتصريحات غامضة حول استعادة الهدوء. وفي تلك الليلة، تغيرت الكثير من الأشياء فيما يتعلق بفهم "أردوغان" لحلفائه في "الناتو" و شركاء الاتحاد الأوروبي.

لفترة طويلة، حاولت فرنسا تحويل الاتحاد الأوروبي إلى قوة رئيسية في البحر الأبيض المتوسط​​، أو على الأقل وضع حد لخسارته الدراماتيكية للنفوذ والقوة. يبدو أن "ماكرون" يعتقد الآن أن الوقت قد حان لكي يتدخل الاتحاد الأوروبي، بقيادة فرنسا، لاغتنام الفرصة التاريخية التي أتاحها انسحاب "شرطي العالم" التقليدي -الولايات المتحدة- من تلك المنطقة.

لكن مشروع "ماكرون" لاستعادة دور فرنسا التاريخي كقوة رئيسية في البحر الأبيض المتوسط ​​والعالم العربي يتعارض مع توسع تركيا (بما في ذلك في أفريقيا، الفناء الخلفي لفرنسا)، وتحولها من استخدام القوة الناعمة إلى القوة الصلبة بشكل متزايد.

ولم تكتسب جهود "ماكرون" المتكررة لدفع حلفائه في الاتحاد الأوروبي إلى تقديم جبهة موحدة ضد "أردوغان" سوى القليل من الزخم. بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تعود الولايات المتحدة إلى المنطقة في حال فوز المرشح الديمقراطي "جو بايدن" في الانتخابات الثلاثاء المقبل.

تتنافس فرنسا وتركيا بشكل مكثف على إعادة هيكلة النظام الإقليمي عبر تحالفين متضادين: أحدهما يضم تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية وقطر، والآخر -أقوى بكثير- يضم السعودية والإمارات والبحرين ومصر وإسرائيل والولايات المتحدة بدعم من فرنسا.

ومن شأن نجاح محور الهيمنة الثاني، الذي تهيمن عليه الأنظمة الأكثر وحشية وقمعًا في المنطقة، أن يقضي على الآمال في الديمقراطية وتقرير المصير الشعبي في جميع أنحاء المنطقة، كما أنه سيحدد مصير قضية فلسطين بشكل دائم أيضًا والذي يبدو أنه أحد أهدافه طويلة المدى.

المصدر | آلان غابون - ميدل إيست آي – ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

العلاقات التركية الفرنسية شرق المتوسط رجب طيب أردوغان إيمانويل ماكرون

بعد مظاهرات مناهضة لأرمينيا.. فرنسا تحظر حركة الذئاب الرمادية التركية

منتخب فرنسا للجمباز ينسحب من بطولة أوروبا.. ما علاقة تركيا؟

وزير فرنسي يتوقع تضييق أوروبا الخناق على تركيا