الخرطوم وأساطير السياسة الخارجية

الثلاثاء 29 سبتمبر 2015 06:09 ص

يوشك البعض أن يصف السياسة الخارجية لحكومة الإنقاذ السودانية برئاسة عمر البشير خلال 26 عاما، بالأساطير أو الميثولوجيا باعتبارها نوعا من الحكايات الخرافية.. فالمتتبع لمسار علاقات السودان الخارجية يلحظ أن الجهود التي تبذلها الخرطوم لأجل تحسين علاقاتها الخارجية المأزومة سرعان ما تنتهي إلى لا شيء وتغدو كمن يحرث في البحر.

التذبذب في المواقف واضطرابها تجاه الحلفاء والأصدقاء سمة بارزة؛ فكان على سبيل المثال أول موقف سياسي له تداعياته السياسية والاقتصادية الخطيرة في أول عهد الإنقاذ التي جاءت إلى السلطة بانقلاب عسكري في يونيو/حزيران 1989، إعلان الخرطوم انحيازها -أو هكذا بدا موقفها- لجانب العراق حين اجتاحت قواته الكويت في الثاني من أغسطس/آب 1990، ودخلت البلاد في عزلة عربية شبه كاملة ولم تفلح بعد ذلك محاولات تبرير الموقف أو تفسيره.

وفي العام الماضي تحولت الخرطوم بشكل دراماتيكي من التأييد المطلق لإيران وسياساتها إلى النقيض تماما؛ فقامت في الثاني من سبتمبر/أيلول من العام الماضي بإغلاق جميع المراكز الثقافية الإيرانية في السودان، وأمهلت الملحق الثقافي الإيراني ودبلوماسيين آخرين 72 ساعة لمغادرة البلاد.

وظلت الخرطوم تكابر وتتجاهل كل النصائح بشأن علاقتها بإيران وضرورة الاقتصاد فيها وعدم التعويل عليها لا اقتصاديا أو حتى سياسيا. وأضاعت الخرطوم سنين عددا وهي سادرة في علاقاتها مع طهران وهي تحصد هشيما تذروه رياح سوء التقدير.

ولعل علاقة الخرطوم بالولايات المتحدة الأميركية شكلت أكبر التحديات التي واجهت نظام الرئيس عمر البشير على مر سنوات عمره.. وبلغت ذروة سوء العلاقات بالقصف الأميركي لمصنع الشفاء في أغسطس/آب 1998، بتهمة ضلوع السودان في حادث تفجير السفارتين الأميركتين في كل من نيروبي ودار السلام.

وبدأ تصاعد حجم التوتر بين البلدين في فترة رئاسة الرئيس الأسبق بيل كلينتون حين وضع اسم السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1993، وتلت ذلك قرارات المقاطعة الاقتصادية في 1997، وتأثرت علاقات الخرطوم مع الدول الأوروبية سلبا بتدهور العلاقة مع واشنطن مما ضاعف آثار المقاطعة والعزلة.

وبذلت الخرطوم جهودا حثيثة لتحسين علاقاتها مع واشنطن لكنها كانت دائما تجد سرابا حسبته ماءً. وحاولت استغلال أحداث سبتمبر/أيلول 2001 مبدية تعاونا استخباراتيا كبيرا فيما أسمته واشنطن بالحرب على الإرهاب، ولكن واشنطن لم تدفع ثمن ذلك للخرطوم وظلت تراوغ تحت تأثير جماعات الضغط واليمين المتشدد.

ولا يستقيم ظل العلاقات الخارجية وعود الأوضاع الداخلية أعوج؛ فرئيس البلاد ملاحق من قبل المحكمة الجنائية الدولية، فيما تواجه البلاد 62 قرارًا من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع، مع استمرار الحروب الداخلية في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، فضلا عن انعدام الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة واستشراء الفساد الحكومي.

التباس وتأرجح مستمر

لم تألُ الخرطوم جهدا في تعكير علاقاتها مع جوارها الإقليمي والمنظمات الدولية والإقليمية بسبب التباس وتأرجح سياستها الخارجية. وخسر السودان كثيرا بسبب سوء علاقته مع دول الخليج بما يقارب عقدين من الزمان؛ من خلال ازدواجية الموقف الرسمي الرافض للغزو العراقي للكويت.

ونتيجة لهذه السياسة العرجاء بات السودان محسوبا على المحور المساند للعراق، وتبعا لذلك فقد تدهورت علاقاته مع مصر وعدد مقدر من دول شمال أفريقيا بجانب كل الدول الخليجية، وهو الأمر الذي انعكس سلبا على المواطن السوداني مباشرة.

وكان وقوف السودان بجانب إيران خصما لعلاقته بالسعودية أكبر دول الخليج، ولعل حادثة منع عبور طائرة الرئيس البشير الأجواء السعودية في طريقها إلى إيران وعودتها للخرطوم، كانت تطورا خطيرا عكس عمق الأزمة بين البلدين وغضب الرياض من علاقة الخرطوم بطهران، وكان البشير ينوي حضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني حسن روحاني في أغسطس/آب 2013، ومن السهل تفسير المنع باعتباره قرارا سعوديا قائم على حيثيات سياسية وصادرا عن أعلى المستويات.

رغم أن هيئة الطيران المدني السعودي بادرت بعد مضي عدة أيام من الحادثة بإصدار بيان بصبغة فنية بحتة عزت فيه المنع لأربعة أسباب تتعلق بأنظمة الطيران المحلية والدولية، والبروتوكولات الدبلوماسية.

ولم تكن العلاقة مع مصر -أكثر الدول التي ترتبط بعلاقات تاريخية مع السودان وكثيرا ما توصف بأنها علاقات إستراتيجية- بأفضل حالا. ورغم أن للسودان عواطف حقيقية تجاه حركة الإخوان المسلمين التي يناصبها الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي العداء، فإن الخرطوم -وهي تلهث وراء كسر طوق الحصار الخارجي- سعت لخطب ود القاهرة بقيادتها الجديدة، وقال الرئيس البشير: "إننا نقف مع مصر في مكافحة الإرهاب".

ومن ناحية أخلاقية، لم يستحسن الكثيرون تلك الهرولة وقول وزير الخارجية السوداني حينها في سياق هذه الهرولة: "إن علاقة بلاده بمصر توترت في عهد مرسي أكثر مما توترت في عهد حسني مبارك، لأن كثيرا من الملفّات التي كان متوقعا أن تنهيها الثورة لم تستطع حكومة مرسي أن تفعل فيها شيئا على الإطلاق".

بيد أنه لم تكن القاهرة بنفس الحماس رغم عزلتها داخليا وخارجيا؛ وعكست زيارة البشير إلى القاهرة في 18 أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي ذلك البرود، فكانت نتائجها محبطة وفقا لكثير من المراقبين من سياسيين وإعلاميين.

فالبشير قال عن الزيارة: "لقد اتفقنا على تأجيل القضايا الخلافية وعدم مناقشاتها، لأننا قد لا نتفق إذا ما بدأنا بها، وقضية حلايب ليست جديدة، والخلاف حولها مستمر منذ عام 1958، لذلك فضلنا عدم مناقشتها"، وهذا أمر خصم على الموقف السوداني من تلك القطعة المتنازع عليها، إذ إن مصر تضع يدها بالكامل على المثلث منذ عام 1995 وقد قطعت خطوات متسارعة نحو "التمصير" وفرض الأمر الواقع، فحتى إذا ما تنازلت مصر مستقبلا قليلا واقترحت استفتاءً على أهالي المثلث ستكون النتيجة حتما لصالحها.

وعلى وجه العموم هناك تناقضات كثيرة في مواقف البلدين، فبينما تقف القاهرة في الصراع الليبي مع طبرق، تقف الخرطوم مع حكومة طرابلس فجر ليبيا، وفيما يتعلق بجنوب السودان تتعاطف القاهرة مع الرئيس سلفاكير بينما تدعم الخرطوم زعيم المتمردين رياك مشار، أما فيما يتعلق بسد النهضة فالخرطوم أقرب إلى إثيوبيا من مصر.

العلاقات مع واشنطن

يجدر بنا هنا أن نسلط الضوء أكثر على علاقات الخرطوم بواشنطن، باعتبار أن قوة هذه العلاقة أو ضعفها ينسحب بالضرورة -إيجابا أو سلبا- على علاقات الخرطوم بالدول الأخرى لما تتمتع به واشنطن من تأثير على دول العالم.

ومما لا شك فيه أن  السودان يحتل مكانة محورية في الفكرِ الإستراتيجي الأميركي، نظرا للعديد من العوامل الإستراتيجية والاقتصادية، من بينها موقعه الجغرافي في أفريقيا، هذا بالإضافة لموارده الاقتصادية المتعددة. ولهذا فإن مصالح الولايات المتحدة في السودان أكثر من مصالح جيوسياسية، أو جيوستراتيجية، ولا حتى مصالح آنية، بل هي مصالح على المدى البعيد.

وتنبهت الولايات المتحدة إلى أن نفط السودان قد يضيع منها وإلى الأبد، وأن محاولتها لتعطيل استغلال نفط السودان باءت بالفشل بعد دخول الصين، فقد لجأت إلى احتواء حركة متَمرِدي الحركة الشعبية في جنوب السودان، وساندتها في كل مطالبها أمام حكومة الخرطوم.

لقد كان ديدن واشنطن دائما أن تأخذ من الخرطوم دون أن تعطيها مقابلا مع ثبات سياستها القائمة على هدف إسقاط النظام، وقد تبنى الرئيس باراك أوباما إستراتيجية المحافظين الجدد في عهد الرئيس السابق بوش الابن الهادفة إلى تغيير طبيعة الدولة السودانية وليس التَعاطي معها بِمعادلاتها الراهنة.

وكان فصل جنوب السودان أبرز الخدمات التي قدمتها الخرطوم دون مقابل، وتحت ضغط الحصار وفشل إخماد الإضرابات الداخلية، وقعت الخرطوم في أحابيل الوعود الأميركية ولم تتحسس مواقع أقدامها وهي تبني سياستها الخارجية تجاه واشنطن.

وسبق أن قدمت واشنطن عرضا للخرطوم في يناير/كانون الثاني 2011 برفع العقوبات إذا ما وافقت على نتائج الاستفتاء الذي أدى إلى فصل جنوب البلاد، وذكر حينها برنستون ليمان المبعوث الأميركي للسودان، أن السودان قد يُسحب اعتبارا من يوليو/تموز من نفس العام من لائحة الدول التي تعتبرها واشنطن راعية للإرهاب، في حال احترام نتائج استفتاء الجنوب، ووافقت الخرطوم على نتائج ذلك الاستفتاء الكارثي بيد أن واشنطن نكصت عن وعدها.

بل أعلن أوباما في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 تمديده العمل بقانون الطوارئ الوطني المفروض على السودان منذ 1997، وأشار في رسالته إلى الكونغرس الأميركي أن هذا التمديد يشمل توسعة نطاق القانون المعني ليشمل تجميد ممتلكات بعض المسؤولين السودانيين المتورطين في الصراع بدارفور، وأوضح أن الوضع في دارفور يشكل تهديدا غير عادي أو استثنائيا للأمن القومي والسياسة الخارجية الأميركية.

ولا يمكن قراءة إعلان الحكومة الأميركية في 18 شباط/فبراير الماضي تخفيف العقوبات في مجال الأجهزة والبرمجيات ذات العلاقة بالإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، في إطار تغيير وشيك في سياسة واشنطن تجاه الخرطوم.

وهذا يعضده استياء كل من رئيس البرلمان السوداني ووزير الخارجية؛ وقد تساءل الأخير عقب مساعي واشنطن لإعادة السودان لبند الوصاية في مجلس حقوق الإنسان قائلا: "السؤال الأهم ماذا تريد أميركا من السودان، لأنها لم تقل في يوم من الأيام ماذا تريد من السودان". فيما أقر رئيس البرلمان بعدم حدوث اختراق في أي من الملفات العالقة بين الخرطوم وواشنطن، وقال: "لم نقنعهم ولم يقنعونا".

خسائر اقتصادية فادحة

لعل أبرز التداعيات المباشرة لفشل السياسة الخارجية السودانية، الخسائر الاقتصادية التي يصعب حصرها وتقدير آثارها الكارثية؛ وحدها تكبد العقوبات الأميركية السودان أربعين مليار دولار سنويا. ومثل ذلك أكبر مهدد للأمن الاجتماعي وإبقاء السودان في دائرة الفقر والتخلف، مع حرمان الشعب السوداني من الحصول على حقوقه في التنمية، وإجباره على دفع فاتورة باهظة الثمن أدت لمزيد من الدماء، واستدامة النزاعات والصراعات.

وظل البنك المركزي يعاني من قلة العائد، بجانب إحجام كثير من شركات النفط والاتصالات والبنوك التجارية عن التعامل مع السودان، إضافة للأضرار التي لحقت بصغار المستوردين، والقطاع الزراعي، وقطاع السكر، بجانب التأثير الكبير الواضح في منع البلاد الاستفادة من عوائد النفط سواء إن كان المستخرج من السودان أو ذلك الذي يمر عبر أراضيه من دولة جنوب السودان، بسبب العقوبات الأميركية، الأمر الذي أوجد تدنيا في النمو وفي سعر الصرف فضلا عن منع إعفاء البلاد من الديون البالغة 43 مليار دولار، بالرغم من مبادرة إعفاء الدول المثقلة بالديون، بجانب تأخر انضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية.

وامتدت المقاطعة لإغلاق حسابات 123 شركة سودانية، فضلا عن حسابات أفراد ليس لهم أية علاقة بالسياسة أو الحرب في دارفور، وأدت العقوبات إلى حجز كل الأصول السودانية بجانب تجميدها 65 معاملة بأكثر من مليار دولار، علاوة على رفض 576 إجراء بشكل كامل، الأمر الذي دعا إلى إحجام كثير من الشركات العالمية في مجالات النفط والاتصالات والبنوك التجارية، عن التعامل مع السودان.

في نفس الوقت تجاوزت ديون السودان الخارجية 43 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم جدا في ظل إحجام المجتمع الدولي عن مساعدة السودان وإمكانية إعفائه من ديونه أو تخفيضها.

  كلمات مفتاحية

السودان حكومة الإنقاذ السودانية عمر البشير المراكز الثقافية الإيرانية العلاقات السودانية الإيرانية

أمريكا تسمح بإجراء تحويلات مالية محدودة للسودانيين