أزمات متصاعدة.. العراق أمام مفترق طرق

الأحد 13 ديسمبر 2020 01:18 ص

بعد استقالة حكومة "عادل عبدالمهدي" في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، صوت مجلس النواب العراقي في مايو/أيار الماضي على منح الثقة لحكومة جديدة بقيادة "مصطفى الكاظمي".

والآن، تواجه الحكومة العراقية العديد من التحديات، بما في ذلك جائحة "كورونا"، وعودة تنظيم "الدولة الإسلامية"، واستياء السكان على نطاق واسع وما يرتبط به من احتجاجات.

وتبقى العقبة الأكبر في مواجهة هذه التحديات، ناهيك عن حلها، هي العجز الحكومي، الذي يصل حدّ الشلل.

وينبع هذا الشلل من الروايات المتضاربة بشأن مسؤولية الحكومة عن إعادة بناء البلاد وإدارة العواقب المزمنة لغزو الولايات المتحدة للبلاد عام 2003.

وبدون سيادة قوية، لن تكون أي حكومة قادرة على وضع وتنفيذ استراتيجية تخدم المصالح الوطنية، التي يستمر تحديدها حتى الآن، على المستويين الرسمي وغير الرسمي، وفقا لمصالح واشنطن وطهران.

وهكذا يبقى السؤال حول هل ينبغي للعراق أن يطالب بطرد جميع القوات الأجنبية من البلاد؟

لن يكفي انسحاب القوات الأمريكية في حد ذاته لاستعادة السيادة العراقية.

فقد أدى وجود القوات الأمريكية وما يرتبط به من ظواهر عكسية، مثل ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية"، والضعف الواضح للقوى السياسية السنية، إلى مستوى غير مسبوق من التدخل الإيراني في الشؤون العراقية.

ولم تشهد بغداد مثل هذا التأثير الفارسي القوي منذ عهد "البرمكيين" خلال الخلافة العباسية.

وفي الوقت نفسه، فإن العداء بين طهران وواشنطن يضمن أنه لن يفكر أي من الجانبين في مغادرة العراق.

وقد يحاول الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته "دونالد ترامب" سحب جزء من القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، لكن ليس لديه سوى أقل من شهر لتنفيذ هذا الانسحاب.

ووافق البرلمان العراقي على اقتراح يطالب برحيل القوات الأجنبية، باستثناء القوات الإيرانية، بعد مقتل الجنرال "قاسم سليماني" في يناير/كانون الثاني الماضي.

ومع ذلك فإن لدى العديد من البرلمانيين العراقيين سبب للقلق بشأن قرار "ترامب".

  • مخاوف مركبة

ويمكن للانسحاب السريع للقوات الأمريكية أن يؤدي إلى تعريض أمن العراق للخطر بشكل أكبر، وكذلك عودة ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية".

وفي عام 2020، شنت الميليشيات التابعة لإيران عدة هجمات ضد أهداف عسكرية ودبلوماسية أمريكية، ردا على اغتيال "سليماني".

وحتى على المستوى الرسمي وبعيدا عن الشارع، عانت العلاقات الأمريكية العراقية أكثر لأن "أبو مهدي المهندس"، زعيم قوات الحشد الشعبي الذي لقي حتفه إلى جوار "سليماني"، كان يتحدى باستمرار القوات العسكرية الأمريكية.

وفي المقابل، إذا قرر الرئيس الأمريكي المنتخب "جو بايدن" التراجع عن خطط "ترامب" للانسحاب، كما هو مرجح بالنظر إلى تعيين "أنطوني بلينكن"، أحد صقور حرب العراق، وزيرا للخارجية، فسوف تضطر بغداد إلى تحمل العبء المستمر المتمثل في كونها مجرد "دمية" أمريكية.

وأعرب "ترامب" عن استعداده لسحب قواته، وأصبح "الكاظمي" مدركا أنه لم يعد من الممكن تجاهل أولئك الذين يطالبون بانسحاب فوري للقوات الأمريكية.

ويمثل هذا الانسحاب الطريقة الأقرب للحكومة العراقية لتوضيح نيتها في استعادة السيادة الوطنية العراقية وسلامة أراضيها.

ولكن، لكي يحدث هذا، سيتعين على إدارة "بايدن" التخلي عن طموحات محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق، وهو المبرر الذي يعتبره السكان المحليون ذريعة لمزيد من الاحتلال.

ويخنق هذا الوجود الأجنبي تطور النظام السياسي العراقي، ويكرس الطائفية التي تولد التوترات بين المجتمعات المختلفة، مع السماح بالتلاعب الخارجي.

وتعتبر ظاهرة تنظيم "الدولة الإسلامية" بمثابة تذكير بنوع التقلب الذي يمكن أن ينتج عن مزيج هذه العناصر.

ويبدو أن "الكاظمي"، الرئيس السابق للمخابرات العراقية، قوي على الورق فقط، ولم تتغير الظروف العامة التي أدت إلى تعيينه، ما يشير إلى الضغوط الشعبية غير المسبوقة التي يتحملها رئيس وزراء من خارج الطبقة السياسية.

  • المحاصصة الطائفية في قلب الاحتجاجات

وحققت الاحتجاجات ما لم تستطع العديد من الحكومات العراقية فعله، حتى خلال العقود التي حكم فيها حزب البعث، ألا وهو توحيد البلاد.

وقرر السنة والشيعة على حدٍ سواء أن نظام "المحاصصة الطائفية" لم يعد يجدي.

وفي 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، احتل المتظاهرون ساحة التحرير في بغداد لإحياء الذكرى الأولى للاحتجاجات التي بدأت هناك بالقرب من المنطقة الخضراء المحصنة.

وامتدت الاحتجاجات إلى مدن مختلفة، بما في ذلك بابل والبصرة.

وكما في عام 2019، تدخلت القوات الأمنية لتفريق الحشود الغاضبة، التي ظهرت كثورة حقيقية.

ونجحت احتجاجات 2019 في إجبار الحكومة على الاستقالة، ما أدى إلى تعيين "الكاظمي" في 6 مايو/أيار، لكن هذا لم يكن كافيا.

وبالفعل استمرت المظاهرات في الانتشار على المستوى الوطني.

وبعد عام، مع عدم رضاهم عن جهود الحكومة الجديدة لاستعادة الثقة الشعبية، لم تتغير مطالبهم، وهي إصلاح الطبقة السياسية بأكملها، التي ثبت أنها فاسدة وأكثر ولاء لإيران أو الولايات المتحدة من ولائها للعراق.

ورغم الاحتجاجات وعدم الاستقرار، توجت المفاوضات بتشكيل حكومة، لكن هذا لم يمنع الشعب، الذي سئم من المسكّنات، من المطالبة بإسقاط النظام.

وتشمل المشاكل التي يعاني منها العراق البطالة التي لا يمكن تحملها، ونقص العمالة، والخدمات العامة غير الفعالة، وتضرر البنية التحتية بسبب عقود من الحرب ثم الإهمال، والإحساس العام واسع النطاق بالظلم، نظرا لفشل الحكومة في مقاضاة المسؤولين عن قتل نحو 500 متظاهر في أكتوبر/تشرين الأول 2019.

  • أزمات الصحة والاقتصاد والعدالة

ولم توقف جائحة فيروس كورونا الاحتجاجات. بل أضافت إلى سلسلة المشاكل التي يجب على العراق مواجهتها.

وأثر الوباء على السكان على طول خطوط الصدع الطائفية.

ولا يتبع معظم الناس الاحتياطات التي تفرضها الحكومة، غير الموثوق بها من الشعب، ولم يكن النظام الصحي في البلاد غير مستعد فحسب، بل لا يزال يتعافى من عقود من الحرب والإدارة العشوائية.

وعلى هذا النحو، فإن المناطق الريفية، حيث تنتشر الأسواق المفتوحة والتجمعات الدينية، عانت من انعكاسات أخطر بكثير من المناطق الحضرية.

ومع ذلك، من وجهة نظر حكومية، أدى التأثير النسبي للفيروس إلى حدوث حالة طوارئ اقتصادية وصحية.

وفي الواقع، تسبب الوباء في انهيار أسعار النفط. وبالنظر إلى أن العراق لا يزال ثاني أكبر منتج للنفط في "أوبك"، فقد انهار الاقتصاد تقريبا.

ولا تملك الحكومة العراقية الكثير من الموارد للمساعدة في تخفيف الصعوبات المالية الناجمة عن إغلاق الخدمات التجارية بسبب تدابير مواجهة الوباء، ناهيك عن مستويات البطالة المزمنة بالفعل.

وأدى فشل الحكومة في توفير وحماية شعبها في مواجهة الوباء إلى زيادة حدة السخط العام.

وتمثل البصرة، أفقر مدن العراق، نموذجا مثاليا للأزمة.

وتنتج المدينة الشيعية نحو ثلث إنتاج النفط العراقي، ولكن نحو 40% من سكانها يعيشون بالفعل تحت خط الفقر.

ولا تعد البصرة سوى مثال واحد لمدينة تعاني بشكل غير متناسب بسبب تفشي فيروس "كورونا"، الأمر الذي أدى إلى خفض كبير في الإنتاج، وبالتالي زيادة مستويات البطالة.

  • لا تفاؤل حول احتمالات التغيير

وكان الفراغ الناجم عن انهيار حكومة البعث بفعل الغزو الأمريكي هو الذي سمح للضعف الطائفي المتأصل في العراق بالظهور، وهي ثمرة متعفنة أخرى لاتفاقيات "سايكس بيكو".

وتم تبني المحاصصة الطائفية رسميا منذ عام 2003.

وتؤسس المحاصصة في العراق تمثيلا حكوميا على أساس عرقي طائفي، ما يعني تخصيص السلطة وفق نسبة الطوائف من الشعب، وبالتالي تؤدي إلى الهيمنة السياسية للشيعة وتهميش السنة.

ويروج هذا النظام لحالة من المحسوبية والفساد مع زيادة الانقسامات العرقية والطائفية في العراق.

وتفضل كل من الولايات المتحدة وإيران هذا النظام لأن أسلوب "فرق تسد" هنا يميل إلى إفادة طهران وواشنطن، لأنه يعيق على ما يبدو إنشاء هوية وطنية حقيقية في العراق.

وقد تمثل هذه الهوية جوهر مطالب المتظاهرين، الذين رغم معاناتهم الفقر والبطالة، عبروا في صراخهم الشعبي عن مطلب واحد: "نريد وطن".

وإذا ظل العراق يفتقر إلى السيادة الكاملة والمساحة للتطور بشكل مستقل عن طهران وواشنطن، فلن تتحقق تطلعات شعبه ومصالحه الوطنية الكبرى.

وعليه، في عام 2019 وعام 2020، أكدت الحركة الاحتجاجية طبيعتها الوطنية، وليس الطائفية.

وفي الواقع، يمثل المحتجون الجزء الأكبر من المجتمع العراقي، الذي يتألف إلى حد كبير من الشيعة.

وحقيقة أن المحتجين يعبرون عن مطالب مماثلة في شوارع جميع المدن العراقية الكبرى من الشمال إلى الجنوب تعتبر دليلا إضافيا على أنهم لم يخرجوا بدافع من الطائفية.

وبالأحرى، في هذه الاحتجاجات، تتحدى المجتمعات ذات الأغلبية الشيعية الأحزاب السياسية والميليشيات الشيعية.

وللمرة الأولى أكثر من أي وقت مضى منذ سقوط "صدام حسين"، تبنت المجتمعات المحرومة في العراق منطقا ثوريا حقيقيا بالمعنى "الماركسي"، متجذرا في منطق الصراع الطبقي بدلا من الطائفية.

ومن غير المحتمل أن تمتلك أي حكومة مبنية على "المحاصصة" الاتساع والتجانس الكافي لتنفيذ أنواع التغييرات التي تلبي بشكل مناسب مطالب الجماهير، والتي لن تتطلب أقل من تحول ثقافي.

وبالنظر إلى الطريقة التي تعاملت بها الدولة العراقية، مع رد فعلها العنيف كدليل على ضعفها المؤسسي، يبدو أن العراق يقترب من ثورة.

ويجب على حكومة "الكاظمي" معالجة أسباب الثورات والتأكد بجدية من حدوث تغيير جذري. وإلا فإن الاحتجاجات في طريقها للاستمرار أو التصعيد.

وبينما نجحت المظاهرات في إسقاط رئيسي وزراء متعاقبين منذ عام 2018، لم تتبن الحكومة أو حتى تقترح إصلاحات لمعالجة المظالم المشروعة للسكان، التي تشمل التنمية الاقتصادية وتوفير الخدمات الأساسية والبنية التحتية التي تضررت خلال عقود من الحرب، وتوفير المزيد من فرص العمل.

وصاغت الحكومة قانون انتخابي جديد ومراجعة للدستور، وهو مطلب آخر للمحتجين، لكن البرلمان لم يوافق عليه بعد.

ومع ذلك، من غير المرجح أن يرضي المحتجون بأي شيء أقل من الإصلاح الجذري للنظام السياسي، بشكل يعالج المحاصصة والفساد والمحسوبية، فضلا عن تحقيق العدالة لمن قُتلوا خلال القمع الحكومي للمتظاهرين.

المصدر | أليساندرو برونو/منتدى الخليج الدولي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

احتجاجات العراق مصطفى الكاظمي حكومة العراق المحاصصة الطائفية الحشد الشعبي الغزو الأمريكي

العراق وبايدن ونبوءة التقسيم