شبح الانهيار.. هكذا وصل لبنان إلى طريق مسدود

الأربعاء 17 فبراير 2021 01:07 ص

عانى لبنان ومواطنوه الكثير من المصاعب في السنوات الأخيرة، وشهدت الأشهر الـ12 الماضية آلامًا تراكمية مع الانهيار الاقتصادي، والمأزق السياسي، وانفجار ميناء بيروت، والاحتجاجات المستمرة ضد النخبة الحاكمة، وتأثير الوباء.

لكن هناك ما ينذر بأوقات أكثر صعوبة في المستقبل.

فقد أصبح لبنان مجرد دولة عربية أخرى تعاني من الفقر والعسكرة بشكل متزايد، وفي الوقت نفسه، تبدو القوى الإقليمية والدولية أقل اهتمامًا بإنقاذ لبنان من الانهيار الذاتي.

ونتيجة لذلك فقد لبنان مكانته المتميزة كمجتمع منفصل عن البلدان العربية الأخرى التي تعاني في الغالب من أنظمة استبدادية مركزية.

ومنذ ولادته قبل قرن من الزمان، كان لبنان رائدا في المنطقة في الأنشطة التي تتطلب حرية مثل الصحافة والتعليم والبحث والمصارف والمسرح والنشر والإعلان والسينما والفن وغيرها.

لقد ازدهرت هذه المجالات لأن التعددية الثقافية والدينية في البلاد سمحت بما لم توفره أي دولة عربية أخرى بما في ذلك مساحة كافية للبنانيين لتنمية مواهبهم في مجال عام حر وديناميكي يستوعب مجموعة متنوعة من الآراء، وكان ذلك موضع تقدير من مواطني الدول الأخرى في المنطقة.

ولكن هذا الإرث أصابه ضعف تدريجي في السنوات الأخيرة، وانهار خلال العام الماضي، ما أوصل لبنان إلى وضع مزدوج به أوجه تشابه مع مجموعتين رئيسيتين من البلدان العربية.

أحدهما هو وضع اقتصادي متدهور وبنية مزقتها الحرب (مثل ليبيا أو العراق أو اليمن أو سوريا)، والآخر هو الدول الأمنية الاستبدادية الخاضعة للرقابة الشديدة حيث يخشى الأفراد التعبير علنًا عن آراء تتعارض مع الخط الرسمي (مثل مصر والبحرين والسعودية والإمارات).

وفي الواقع، تعكس آراء المواطنين اللبنانيين اليوم تقريبًا آراء المواطنين في العراق والجزائر والسودان الذين يواصلون الانتفاض احتجاجًا على حكوماتهم.

وأظهر الاستطلاع السنوي لمؤشر الرأي العربي 2019-2020 الذي أجراه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ومقره الدوحة، أن ما متوسطه 70-80% من جميع المواطنين في لبنان والعراق والسودان والجزائر يدعمون الانتفاضات الخافتة مؤقتًا بسبب الوباء لاقتلاع قادة الأنظمة والحكومات الحالية.

ومع ذلك، لا يبدو أن هذا الدعم الواسع يتجسد في الممارسة العملية لأن حوالي 20% فقط من المواطنين قد شاركوا بالفعل في مظاهرات الشوارع.

ومن الناحية الاجتماعية والاقتصادية، يظهر الاستطلاع أيضًا أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الأسر في لبنان وهذه البلدان لا تملك الموارد الكافية لتغطية احتياجاتها الأساسية مثل الغذاء والمأوى والرعاية الصحية والتعليم، فيما يرغب ربع المواطنين في الهجرة، وينظر نصفهم أو أكثر إلى أداء حكومتهم بشكل سلبي، ويرى أكثر من 90% من المراطنين أن الفساد منتشر في مجتمعاتهم.

ويرى المواطنون في هذه الدول الأربع المضطربة وكذلك في البلدان الأخرى التي شملها الاستطلاع، أن الدوافع الرئيسية للانتفاضات هي إنهاء القمع والفساد، وتحسين الظروف المعيشية السيئة وجودة الخدمات العامة.وقد دخل لبنان نادي الدول العربية المنكوبة التي يصطدم فيها المواطنون اليائسون مع الحكومات ذات العقلية الأمنية.

كانت "الانتفاضة الثورية" في أكتوبر/تشرين الأول 2019 علامة فارقة في الانهيار الداخلي المستمر الذي كان يتراكم منذ عقود في لبنان.

وبالرغم من الاضطرابات الاقتصادية، ووباء "كورونا"، وانفجار الميناء، فإن حركة الاحتجاج لا تزال مجرد عرَض أكثر من كونها سببًا للإشكال التراكمي الذي دام عقودًا والذي أغرق غالبية اللبنانيين في الفقر والضعف والتهميش و اليأس.

ومثل العديد من البلدان العربية الأخرى المنهكة أو التي مزقتها الحروب، يجب فهم تدهور لبنان في سياق 4 مساحات تاريخية رئيسية، والتي تختلف حسب البلد لكنها تتبع نمطًا مشابهًا.

كانت فترة العشرينات هي الخط الأول لتشكيل الدولة وسياستها والتي أوصلت في النهاية العديد من الدول العربية إلى وضعها الحالي.

في ذلك الوقت، تم إنشاء معظم الدول العربية الحديثة من قبل مجموعة من القوى الاستعمارية الأوروبية والنخب المحلية دون مساهمة مواطنيها في شكل أو طبيعة أو قيم أو سياسات بلدانهم الجديدة.

وكانت الحقبة الثانية التي أنذرت بمشاكل اليوم في لبنان ومعظم الدول العربية هي الفترة 1975-1985، التي تميزت بمزيج من الدخل النفطي الهائل لبعض الدول مع سيطرة الضباط العسكريين على الحكومات في العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا والصومال وتونس، ما أدخل المنطقة في حقبة جديدة من الاستبداد المركزي.

بحلول التسعينات، أنتج هذا الاستبداد ركودا اجتماعيا واقتصاديا كان له تداعيات خطيرة على المواطنين الذين أصبحوا يعانون من الفقر على نحو متزايد في الوقت الذي لا يتمتعون فيه بأي حقوق سياسية للتعبير عن معاناتهم.

ولعل الحقبة التاريخية الثالثة هي تلك التي بدأت منذ عام 2005 عندما سحبت الحكومة السورية قواتها ومسؤوليها الذين كانوا يديرون لبنان فعليًا لمدة 30 عامًا، وتُرك السياسيون اللبنانيون وأمراء الحرب السابقون (الذين تحولوا إلى زعماء سياسيين طائفيين) وحدهم ما أدى إلى احتكاكات نتيجة الخلافات المزمنة بينهم.

في موازاة ذلك احتكر هؤلاء الزعماء القطاع العام وحققوا مكاسب مالية كبيرة لهم ولأتباعهم بينما تدهورت معظم الخدمات العامة بشكل مطرد.

ويعتبر المساحة التاريخية الأخيرة هي الأشهر الثمانية عشر الأخيرة من الاضطرابات الناجمة عن انتفاضة المواطنين التي أدت إلى شلل حكومي، وقد تزامن ذلك مع فترة من الاهتراء الاقتصادي وانهيار قيمة العملة الوطنية بسبب السياسات المالية والنقدية غير المستدامة.

وتجدر الإشارة إلى أن لبنان قاوم طويلاً الوصول إلى حالة الاقتصاد المتداعي والاستبداد السياسي الظاهر الذي ميّز العديد من البلدان الأخرى في المنطقة خلال نصف قرن أو نحو ذلك.

ولكن اليوم، فإن المشاهد المتكررة لمواطنين فقراء يتظاهرون في الشوارع من أجل حقوقهم وحياتهم الكريمة تقابل من قبل دولة أكثر عسكرة لا تتردد في استخدام أسلحتها وقنابلها المسيلة للدموع ضد مواطنيها.

ومن المثير للقلق أيضًا بالنسبة للبنان هو الارتفاع المطرد في وتيرة الإجراءات التي تتخذها المحاكم أو الوزارات أو الأجهزة الأمنية التي تحتجز الأفراد وتعتقلهم وتوجه إليهم الاتهامات بسبب أفعال مثل منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي التي لطالما كانت السمة المميزة لإرث حرية التعبير القوي في لبنان.

يتحد هذان الاتجاهان السلبيان مع الاتجاه الثالث وربما الأكثر تدميراً الذي يبدو أنه أساس العلل الحالية في البلاد وهو حكومة لا يبدو أن أفرعها التنفيذية والبرلمانية والقضائية تهتم بما يكفي بمعاناة غالبية المواطنين الفقراء لاتخاذ إجراءات إصلاحية جادة من شأنها أن تطلق مليارات الدولارات من المساعدات التي تمس الحاجة إليها.

ويبدو أن المحصلة النهائية في لبنان ترسم صورة حزينة لدولة تخلت عن مواطنيها وأهملتهم في العقود الأخيرة.

في المقابل، يحاول المواطنون البحث عن أساليب الاحتجاج التي من شأنها أن تطيح بجميع النخبة الحاكمة وتخلق نظام حكم أكثر مشاركة وخضوعا للمساءلة على أساس سيادة القانون والعدالة الاجتماعية.

ومع ذلك، وصل المتظاهرون والسلطات اللبنانية إلى طريق مسدود، ولا يبدو أن أيًا منهما قادر على خنق الآخر.

وهذا هو بالضبط نفس الموقف في السودان ومصر وليبيا واليمن والعراق وسوريا والجزائر وفلسطين والصومال وغيرها من الدول العربية المضطربة التي يبدو أنها فشلت في اختبارات القرن الماضي الخاصة بالدولة والسيادة والمواطنة.

لكن الفارق الكبير بين لبنان والدول العربية الأخرى هو وجود "حزب الله" الذي لن يسمح أبدًا بالانهيار الكامل للبلاد، ومع ذلك، لن يتم قبول سياسات "حزب الله" بالكامل من قبل غالبية اللبنانيين، بسبب عسكرة الجماعة، واتخاذ القرار خارج نظام الدولة، والعلاقات الوثيقة مع إيران وسوريا.

ومع استمرار مؤسسات الدولة والنخبة السياسية في التدهور وفقدان نفوذها، تبدو القوى الأجنبية مثل السعودية وفرنسا والولايات المتحدة أقل اهتمامًا بالتدخل لحماية لبنان كما فعلت منذ قرن.

ويرجع ذلك إلى أولوياتهم الاستراتيجية الأكثر إلحاحًا في أماكن أخرى في إيران والعراق وسوريا وليبيا والقرن الأفريقي، فضلاً عن تعقيدات النخبة الحاكمة في لبنان التي لا تهتم بأي شيء بخلاف مصلحتهم الذاتية، حتى لوذلك يعني التآكل البطيء لوحدة بلادهم.

ويترك ذلك لبنان مع لاعبين سياسيين رئيسيين هما "حزب الله" وحركة الاحتجاج غير المتماسكة ولكن المستمرة والتي تتمتع بدعم شعبي واسع.

وتتمثل إحدى الديناميكيات الرئيسية التي يجب مراقبتها في الأشهر والسنوات المقبلة في كيفية تفاعل هاتين القوتين مع بعضهما البعض ومع رعاتهما ومؤيديهما في الخارج، وما إذا كان بإمكانهما التصرف في الوقت المناسب لإجبار النخبة الحاكمة المتعثرة على التصرف بحكمة وإنقاذ الاقتصاد المنهار.

المصدر | رامي خوري | معهد الشرق الأوسط - ترجمة وتحرير الخليح الجديد

  كلمات مفتاحية

الاحتجاجات اللبنانية حزب الله انهيار لبنان المأزق السياسي اللبناني الأزمة الاقتصادية في لبنان

لليوم الرابع.. احتجاجات في لبنان رفضا لإغلاقات كورونا

تشكيل الحكومة اللبنانية.. التعقيدات سيدة الموقف

حذر من حالة انقلاب.. البطريرك الماروني يدعو لمؤتمر دولي ينقذ لبنان