استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

السودان والحب الأمريكي القاتل!

الخميس 26 مايو 2022 03:47 م

الحب الأمريكي القاتل!

نجحت أمريكا في تقسيم البلاد إلى دولتين ومن بعد ذلك في إسقاط "النظام الإسلامي" بحجة أنه يساند الإرهاب.

حب أمريكا الجارف للسودان وشعبه قتل مئات الآلاف منهم، بحرب مدعومة أمريكياً وحصار اقتصادي دام أكثر من ربع قرن.. آثار يصعب تداركها إلا بمزيد من الحب!

مشكلة أمريكا الأبدية في السودان هي أنها كانت وما تزال تريد أن تُنصّب على رقاب السودانيين طبقةً من الحكام يدينون لها بالولاء بأكثر مما يدينون بالولاء لشعبهم!

(1)

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ونحن نبدأ المرحلة الدراسية في جامعة الخرطوم، ونتعرف على النشاط السياسي والثقافي متعدد الألوان والمشارب، كان ممّا لفت انتباهي إصرار متحدثي "الجبهة الديمقراطية" الواجهة الطلابية للحزب الشيوعي، في أركان نقاشهم وصحفهم الحائطية، على انتقاد مَن يُطلقون اسم "أمريكا" على الولايات المتحدة الأمريكية. كانوا يقولون إن لفظ "أمريكا" هو إسم لقارتين، شمالية وجنوبية، وأنه حتى أمريكا الشمالية لا تمثل الولايات المتحدة الدولة الأكبر حجماً فيها، إنما كندا، وكأنهم يريدون القول أنه لا يجوز إطلاق هذا الإسم الكبير على تلك "الدويلة"!

ولم نكن نعرف - ونحن بعدُ طلاباً في السنة الأولى - أن ذلك كان جزءاً من ثقافة "الحرب الباردة" التي يخوضها "الإتحاد السوفيتي العظيم" زعيم الكتلة الإشتراكية، ضد الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة الكتلة الرأسمالية. ولذا لزم التنويه أن لفظة "أمريكا" التي جاءت في عنوان هذا المقال إنما نعني، الولايات المتحدة الأمريكية.

(2)

في المقولات الكلاسيكية لعلم الصحافة، وتحديداً الأخبار، يُقال إنه "إذا عضّ كلبٌ رجلاً فهذا ليس بخبر، إنما لو عضّ رجلٌ كلباً يصبح هذا هو الخبر"؛ فالخبر إذن هو حدوث الشيء غير المعتاد. وبهذا المنطق فإنه يمكننا القياس والقول لو أحبّ شعبُ بلدٍ ما أمريكا فإن هذا ليس بخبر، إنما لو أحبت أمريكا شعبَ بلدٍ ما فهذا هو الخبر. كيف لا وأمريكا ما تزال تمثل لمئات الملايين من الناس حول العالم أرض الأحلام التي يتوقون للوصول إليها ولكنها تستعصي ويتمنّع أولياؤها بشتى أشكال المنع.

وتجسيداً لهذا الحُب الذي يبدو للوهلة الأولى غريباً، ظلت الإدارات الأمريكية منذ أبريل 2019 تكرر تأكيد وقوعها في حُب السودانيين وثورتهم المجيدة، وقد حملت نهايات العام 2020 خبراً بارزاً هو تأكيد سيدة العالم الحُر، وإن شئتم الرأسمالي، ثباتها على حب شعبنا وتواصل سيد البيت الأبيض شخصياً و وزير خارجيته هاتفياً مع زعماء بلدنا لتأكيد تلك المحبّة وزارنا وزير الخارجية الأمريكي قادماً من تل أبيب مباشرة!!

(3)

وللذين لم يقرأوا التاريخ بتدبُّر نقول إن قصة الغرام الأمريكي بالسودان ليست جديدة، فالسودان الذي كان الأكبر مساحة في قارته الأفريقية وفي عالمه العربي، والسودان الغني بثرواته على ظاهر الأرض وفي باطنها، يشبه أمريكا في كثير من تفاصيله، بما في ذلك تعدد أعراقه وكونه شعبٌ تشكل بالهجرات على مدى قرون، وكان يمكن أن يكون "ولايات متحدة أفريقية" لو أحسن آباءُ استقلالنا ، قبل ستة وستين عاماً ، إدارة شأنه وكيفية حكمه!

ويبدو أن هذا الشبه، الذي بان في العيون ولم يعُد منه مهرب، هو ما يُفسر لنا جانباً من قصة الحب تلك، ويلقي الضوء على الحفاوة التي استقبل بها الرئيس كيندي نظيره السوداني إبراهيم عبود عندما زار هذا الأخير الولايات المتحدة في 1961.

وعاد محملاً بالوعود السخية، فقد التزمت الولايات المتحدة حينها بتعبيد طريق مدني الخرطوم بمسارين في كل إتجاه، وبشق طريق من الخرطوم بمحاذاة النيل شمالاً، لكن الدعاية السوفيتية وأبواقها المحليين صوّروا ذلك الكسب وكأن "أمريكا" تريد أن تقيم طرقاً عريضة لكي تستخدمها مهابط لطائراتها حينما تقرر غزو السودان، وشنوا حملة شعواء "نجحت" في وقف ذلك العون الأمريكي، الذي لم يكسب السودان منه إلا "شارع المعونة" !!

(4)

لم يتأثر حُبُ السودانيين لأمريكا، كثيراً، بطبيعة الأنظمة التي تعاقبت على حكم بلادهم، فرغم سيطرة اليسار الشيوعي عبر انقلابه العسكري في مايو 1969 على مقاليد السلطة، واجتهاده في نبذ الرأسمالية واعتماد سياسة التأميم والمصادرة، وفي شيطنة كل ما هو "رأسمالي"، وانحياز النظام الجديد إلى المعسكر الشرقي، بقيت محبة السودان والسودانيين عند أمريكا ثابتة!

وقد نجحت أمريكا - عبر أذرعها الإقليمية حينذاك - في تخليص السودان من "دكتاتورية الطبقة العاملة" في أقل من ثلاث سنوات، وبعد أن اطمأنت أمريكا لزوال الأثر اليساري من نظام مايو بدأ تدفق العون الأجنبي على السودان وشرعت شركة شيفرون في استخراج النفط من عدة حقول أبرزها أبو جابرة وحفرت أكثر من (46) بئراً منتجة.

وتكرر ذات السيناريو مع الاختلافات التي اقتضتها طبيعة المرحلة حين آلت السلطة في السودان للإسلاميين في 1989، فحاربتهم أمريكا بشتى أنواع الحروب واستخدمت وكلاءها الإقليميين في ذلك، وفشلت في عدة محاولات لكنها لم تيأس، إلى أن نجحت في تقسيم البلاد إلى دولتين ومن بعد ذلك في إسقاط "النظام الإسلامي" بحجة أنه يساند الإرهاب.

وسيجد المتأمل في جوهر السياسة الأمريكية تجاه مختلف الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان أنه لم يثبت أن أمريكا بدّلت حبها لبلادنا وشعبها، إنما كانت تتمثل مقولة زعيم الفكر الجمهوري في السودان، والتي نوردها هنا بتصرف: "بلدكم محل حبنا، وبعض أنظمتكم محل حربنا"!

(5)

"ومن الحُب ما قتل". وهذه أيضاً مقولة كلاسيكية قديمة، يسهر الخلق جرّاها ويختصمون، وما يعنينا منها هنا هو أن

حب أمريكا الجارف للسودان وشعبه، تسبب في قتل مئات الآلاف منهم، بالحرب المدعومة أمريكياً تارة، وبالآثار الجانبية للحصار الاقتصادي الذي دام لأكثر من ربع قرن تارة أخرى، وتلك آثار يصعب تداركها إلا بمزيد من الحب!

لقد أرادت أمريكا، و"المتحولون" سياسياً إلى الدوران في فلكها من حكام الفترة الانتقالية، أن يقولوا للسودانيين إن التدمير الذي لحق بطائرات خطوطكم الجوية وبناقلات سِككم الحديدة ، وحرم مرضاكم من الأجهزة الطبية التي تنتجها الشركات الأمريكية أو تساهم فيها، وحرم طلابكم وجامعاتكم من البرمجيات التي تنتجها الشركات الأمريكية، وأقعد بنظامكم المصرفي وعزله من العالم، ومنع أبناءكم في الخارج من تحويل مدخراتهم عبره .. إلخ، إنما كان من باب التمسك بحبنا لكم والسعي لإزاحة النظام الذي بسط سيطرته على بلدكم وبقي حتى بعد أن نجحنا في تخليص ثلث البلاد وثلثي ثرواتها من سيطرته.

ولأننا نحبكم فنحن على استعداد أن نعيد إليكم كل ما سلبناه منكم، بما في ذلك الجزء الذي فصلناه من بلدكم بشرط أن تكون عودتكم إلى بيت الطاعة نهائية وتوبتكم هذه المرة نصوحة!

(6)

ستبقى أمريكا تحبنا، لأننا بلد مهم لسياستها في المنطقة الأفريقية والشرق أوسطية، وسيبقى شعبنا يحبها لأنه مثل أغلبية شعوب العالم يتطلع إلى أن يصبح وطنه نموذجاً مصغراً للتعايش بين أعراقه وللتطور والتقدم الذي بلغته أمريكا.

لكن مشكلة أمريكا الأبدية في السودان هي أنها كانت وما تزال تريد أن تُنصّب على رقاب السودانيين طبقةً من الحكام الذين يدينون لها بالولاء بأكثر مما يدينون بالولاء لشعبهم، وهذا ما يجعل الحب بارداً ، ويحوّل الأحلام إلى كوابيس. ويكفي النموذج الذي فُجعت به أمريكا في جنوب السودان للاستدلال على سوء صنيعها!

كانت تلوح أمام أمريكا ومحبوبها السودان فرصة ذهبية لإعادة الحياة إلى قصة الغرام القديمة، وبعث الروح في جسدها المسجى، لكن الطبطبة على الجراح، وإرهاف السمع إلى وسوسة أنصاف الخبراء وطالبي المتعة المؤقتة لا تكفيان لذلك.

تحتاج أمريكا ألاّ تكتفي بما يأتيها عبر أعين الراضين عن سياساتها وأفعالها وإنما أيضاً، وربما الأهم، مما يأتيها من عيون الساخطين على أسلوبها في السودان وأفعالها التي يرى قطاع واسع من أهله أنها مدمّرة لبلدهم.

* العبيد أحمد مروح كاتب صحفي وشفير سوداني سابق

المصدر | السبيل

  كلمات مفتاحية

السودان، أمريكا، الحب الأمريكي، الحصار الاقتصاي، حكام الفترة الانتقالية،

بعد رفع حالة الطوارئ.. السودان يفرج عن 71 معتقلا سياسيا

انقلاب السودان يترسخ والانتقال الديمقراطي يتبخر وروسيا تستفيد