السيطرة على القمح.. حرب بين «الأسد» والمعارضة

السبت 26 ديسمبر 2015 05:12 ص

في خريف عام 2012، سيطر مقاتلون تابعون لـ«الجيش السوري الحر» على الغوطة الشرقية، وهي منطقة شبه زراعية تبعد نحو ثمانية أميال عن شمال شرق العاصمة دمشق. وردت القوات الحكومية بفرض حصار على المنطقة، وقطع إمدادات المياه والكهرباء والغاز والمساعدات الطبية والخبز عنها.

وكان هدف النظام السوري هو تجويع سكان الغوطة الشرقية لحملهم على الاستسلام، وأتت تلك السياسة أكلها بعد أن بلغت أسعار الخبز والأرز خمسين ضعفاً. وكان السكان المحليون يقتاتون على أعلاف الحيوانات وفي بعض الأوقات لا يأكلون شيئاً على الإطلاق. ويقول «ماجد الديك»، عامل المساعدات لدى إحدى المنظمات الإنسانية السورية تدعى «ربيع الحياة»: «بدؤوا يشنون الحرب ضد الناس حتى على خبزهم اليومي».

معارك على المطاحن

وبعد تسعة أشهر، شنّ «الجيش السوري الحر» عملية عسكرية على منطقة يسيطر عليها النظام اسمها «المطاحن»، خارج الغوطة الشرقية. وكان الهدف هو الحصول على الدقيق، الموجود في اثنتين من صوامع تخزين الحبوب التي تضم جزءاً من احتياطات القمح الاستراتيجية لدى الحكومة السورية، وهو سلاح فعّال في الصراع الذي دخل عامه الخامس في الوقت الراهن، الذي أدى إلى مصرع ما لا يقل عن ربع مليون إنسان. وإذا تمكنت المعارضة من الاستحواذ على المطاحن، فمن الممكن أن تحتفظ بالقمح وتكسر الحصار، ومن ثم تكسب نقطة استراتيجية على طريق المطار، وربما تجني بعض الأموال.

وتواصلت عمليات مكافحة الحريق نحو يوم ونصف اليوم. وقبل انتهاء المعركة في اليوم الثاني، أرسل المقاتلون المناهضون للحكومة رسالة إلى عمال الإغاثة المنتظرين داخل الغوطة الشرقية مفادها: «إننا نسيطر جزئياً على المطحنة.. تعالوا وساعدونا في الحصول على الدقيق»، وقاد الديك ومتطوعون آخرون سياراتهم باتجاه المطحنة، عبر طريق جانبي لتفادي القناصة التابعين للحكومة.

وعندما وصلوا، فوجئوا بوجود نحو 80 شخصاً، معظمهم مدنيون. وكان الجميع في الغوطة الشرقية سمعوا بخبر وجود دقيق، وكان بعض الناس متلهفاً بدرجة جعلتهم يركضون تحت القصف ونيران القناصة للحصول على الدقيق. وترجل سكان محليون من سياراتهم وتدفقوا على المطحنة، متحمسين للحصول على أكياس الدقيق الموجودة داخل ساحة التخزين المركزية. وحاول المقاتلون منعهم، لكنهم واصلوا التدفق.

وأفاد الديك «بأنهم برروا ذلك بأنهم جائعون، ومستعدون للموت كي يتمكنوا من تناول الطعام»، وهذا بالضبط ما فعله كثير منهم.

والخبز هو الغذاء الرئيسي في الشرق الأوسط وهو «لقمة العيش»، بحسب المصطلح الشامي. وإضافة إلى مكوناته من الكربوهيدرات المهمة، فهو أيضاً مصدر رئيسي للبروتين بالنسبة لكثير من الفقراء في المناطق الريفية. ويشير عامل إغاثة سوري من حلب: «لا يمكن تخيل الحياة من دون خبز»، مضيفاً: «إن السعرات الحرارية والطاقة التي يمنحك إياها، تساوي أي شيء آخر تأكله، باستثناء أن ثمنه زهيد جداً، ومن ثم يتيح فرصة النجاة».

حرب من أجل الحبوب

وتدرك الحكومة السورية أهمية الخبز، وكذلك تنظيم «داعش» الإرهابي، إضافة إلى جموع الجماعات المسلحة الأخرى التي تتعهد بالسيطرة على أراضي الدولة وشعبها. وعلى الصعيد الإستراتيجي، يعتبر الخبز على نفس القدر من أهمية النفط أو المياه، لا سيما أن المدنيين يعتمدون على السلطة التي توزعه، ويتلهف الباحثون عن الأرباح على إعادة بيعه بأسعار مرتفعة. ويؤكد محلل سوري من دمشق، تحدث شريطة عدم الإفصاح عن اسمه: «عندما تتحكم في الخبز والوقود، فإنك تتحكم في المجتمع بأسره».

ولهذا السبب لا يتقاتل تنظيم «داعش» والجماعات المسلحة الأخرى والحكومة في دمشق فقط على الأراضي، وإنما يتحاربون على الحبوب أيضاً. وتدور مع معارك في كل مكان توجد فيه أي حلقة ضمن سلسلة إنتاج القمح، من البذور التي تنمو في الحقول إلى مطاحن الدقيق، ومصانع الخميرة وحتى المخابز.

أرباح الجوع والتجويع

والقمح، مثل النفط، سلعة تجارية، ويضمن توزيعها ولاء، أو على الأقل طاعة المدنيين، بيد أن تنظيم داعش يبيع مخزونات القمح السوري إلى العراق، وإلى تجار في تركيا، بأسعار مبالغ فيها، حسب أشخاص مقربين من قطاع إنتاج القمح والخبز.

وسعت الجماعات المسلحة الأخرى إلى تبني استراتيجيات مماثلة. والنتيجة، وفق تقديرات برنامج الغذاء العالمي في يوليو الماضي، هي أن نحو عشرة ملايين سوري، أو ما يقدر بنحو نصف الشعب السوري قبل اندلاع الحرب، أصبحوا «غير آمنين غذائياً»، وهو ما يعني أنهم قد يجوعون على أساس يومي. ومن هؤلاء، يحتاج زهاء سبعة ملايين دولار كمساعدات لمجرد البقاء على قيد الحياة. ويتحكم في اقتصاد حرب السوق السوداء الذي يغذيه المقاتلون، الذين رفعوا الأسعار بنسبة بلغت 90 في المئة خلال العام الجاري، كي يحققوا أرباحاً من الجوع والتجويع!

وأدرك الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، والد بشار، أهمية القوة الزراعية أفضل من كثير من الأشخاص الأقوياء في جيله. وفي عام 1977، أشرف على افتتاح منظمة أبحاث علمية تعزز التطوير الزراعي أُطلق عليها اسم «المركز الدولي للأبحاث الزراعية في المناطق الجافة». وعلى مدار سنوات، مول هو ونجله المنظمة بسخاء. وعمل علماؤها على تطوير بذور جديدة لتمكين سوريا (إلى جانب دول أخرى مثل إيران وأوزباكستان) من إنتاج ما يكفي من القمح لتحقيق اكتفاء ذاتي.

وسيلة لمعاقبة المزارعين

وبالنسبة لأسرة الأسد، كانت السيطرة على القمح والخبز وسيلة ممتازة للضغط على الفلاحين والبدو، أو أي شخص آخر يمثل تهديداً على سلطة الدولة المركزية. وحتى الآن، يضطر المزارعون في الجيوب التي يسيطر عليها النظام إلى شراء البذور والأسمدة من الحكومة. ويحدد المسؤولون الأسعار ويشترون المحاصيل بعد الحصاد، ولأن الحكومة تهيمن على المراحل كافة، من السهل معاقبة المزارعين الذين يخرجون عن المألوف. فعلى سبيل المثال، قد يجد أي مزارع ثائر عزوفاً من الحكومة عن منحه قرضاً أو شراء محصوله.

وظلت سوريا على مدار عقدين منتجاً ناجحاً للقمح قبل أن تعتمد بصورة شبه كلية على الاستيراد. وحسب المدير العام للمركز الدولي للأبحاث الزراعية، محمود صلح، حقق الإنتاج الكبير للحكومة السورية أكثر من 350 مليون دولار سنوياً. وحافظت الدولة أيضاً على مخزون استراتيجي من القمح، بلغ عادة ثلاثة ملايين طن متري، وهو ما يكفي لسد الاحتياجات خلال أي عام ينقص فيه الحصاد أو ارتفاع الأسعار.

بيد أن زيادة الإنتاج كان لها ثمن باهظ، ذلك أنه في ظل إنتاج كميات كبيرة من الحبوب، «نقّب» القطاع الزراعي السوري عن المياه الجوفية لري المزارع، وتوقع الخبراء أن يفضي ذلك إلى نقص حاد في المياه. وعندما بدأ الجفاف الذي استمر أربعة أعوام في 2006، مدمراً 60 في المئة من الأراضي الزراعية السورية، كانت المياه الجوفية بدأت تنضب بالفعل في الدولة.

وأجبرت الأزمة الناتجة نحو مليون ونصف المليون مزارع ريفي على ترك أراضيهم والهجرة إلى ضواحي مدن مثل حلب ودرعة. وزادت معدلات البطالة. وبحلول بداية عام 2010، أصبح نحو 80 في المئة من الناس في المناطق التي تأثرت بشدة يعيشون فقط على الخبز والشاي.

صفقة مع المعارضة

وزاد الأوضاع سوءاً اندلاع الثورة في عام 2011. ومع تطور الحرب، حاول الجيش السوري الحر وجماعات المعارضة المسلحة السيطرة على أجزاء متنوعة في سلسلة إنتاج الخبز، مثل مصنع إنتاج الخميرة في الغوطة الشرقية، ومخبز حكومي في الزبداني، ومطحنة دقيق، وصوامع غلال في منطقة المطاحن. وفي معظم الحالات، تمكن النظام من استعادتها، ولكن عندما نجحت جماعات المعارضة في السيطرة على مواقع مثل الصوامع ومطاحن الدقيق، كان عليها أن تديرها،.

فعلى سبيل المثال، تحتاج البذور والقمح إلى تبريد ومكان جاف لكي لا تفسد، لكن المعارضة ارتكبت أخطاء كثيرة، حسبما أفاد مسؤول سابق في اتحاد عمال المخابز. وأضاف: «بدؤوا السيطرة على الصوامع من دون أدنى فكرة عن كيفية تشغيلها، ومنحوا النظام مبرراً ليلومهم على كل شيء».

وبعد فترة قصيرة، ظهر نظام جديد، ففي كثير من الأحيان عندما تمكنت جماعات مسلحة من السيطرة على بنية تحتية ذات صلة بالقمح، كانت تعقد صفقة مع النظام، تقضي بإمكانية مرور العمال من جانب إلى آخر للحفاظ على استمرار سلسلة الإنتاج. وعلى سبيل المثال، يتم السماح لخبراء زراعيين في منطقة الرقة، التي تسيطر عليها داعش، لدخول دمشق لأغراض التدريب. وأفاد «آدام فينامان ياو»، نائب ممثل منظمة الفاو في دمشق: «بأن الميليشات تهتم دائماً بالحفاظ على الخبراء، حيث يدرك الناس أنه لابد لهم من عقد اتفاقات عندما يتعلق الأمر بالغذاء، ويعرفون أنه من دون القمح لن يتمكنوا من النجاة».

تحميل التكلفة على المدنيين

وتسمح هذه الاتفاقات غير الرسمية للمزارعين بالحفاظ على إنتاج القمح، الذي يمكن شحنه عندئذ إلى خارج المناطق التي تسيطر عليها المعارضة مقابل ثمن. وتخضع الشحنات التي يتم شحنها إلى خارج الرقة لضرائب سواء نقدية أو عينية تتراوح بين 20 و25 في المئة يفرضها تنظيم «داعش» أو جماعات مسلحة أخرى. وفي نهاية المطاف يتم تمرير هذه التكاليف إلى المدنيين، وهو ما دفع أسعار الخبز إلى الصعود بنسبة 87 في المئة خلال العام الجاري.

ويتم إنتاج معظم القمح السوري في شمال شرق البلاد، بينما يتركز الطلب عليه في الغرب، وأثناء مرور القمح عبر الدولة، يأخذ كل فصيل مسلح حصته. ويشير أحد المهندسين السوريين في منطقة الرقة، إلى أنه إذا أرادت جماعة أحرار الشام على سبيل المثال شيئاً، وأرادت الحكومة 200 طن قمح من هذه المنطقة، تتفاوض الحكومة مع أبناء المنطقة، ومن ثم يذهب المال إلى جيبوهم، ولكن عندما تتعثر المفاوضات بشأن السعر أو النزاع على الأرض، مثل معركة المطاحن، فإن النتيجة تكون حصاراً وجوعاً وقتالاً.

وبدأ سعر كيلو الدقيق عند خروجه من دمشق بنحو 27 سنتاً وما إن وصل إلى وجهته الأخيرة كان قد بلغ 4.5 دولار، وهو مبلغ باهظ جداً بالنسبة لكثير من العاطلين عن العمل، والمدنيين المحاصرين، الذين يكافحون لإطعام أبنائهم.

وتشير منظمة الفاو إلى أن النظام السوري يعتمد بدرجة كبيرة على القمح المستورد من إيران وروسيا، لأنه بسبب ضرائب المعارضة، من الأرخص بالنسبة لدمشق استيراد الحبوب من هاتين الدولتين على شرائه من شمال سوريا. وفي هذه الأثناء يزيد ارتفاع الأسعار الأعباء على الفقراء، الذين عانى كثير منهم من سوء التغذية حتى قبل اندلاع الحرب.

وتظل سلسلة إنتاج القمح رهينة لأمراء الحرب والمتربحين في سوريا!

* آنيا سيزادلو كاتبة متخصصة في تغطية معاناة السكان في مناطق النزاعات

  كلمات مفتاحية

سوريا القمح الأسد المعارضة السورية الجيش السوري الحر الثورة السورية روسيا

كيف يمكن للنفوذ الروسي أن يدعم الحل السياسي للأزمة في سوريا؟

مصادر: روسيا تمنح نظام «الأسد» 100 ألف طن من القمح

مجموعة السبع ودول خليجية تتعهد بتقديم 1.8 مليار دولار للاجئين السوريين

الأمم المتحدة: 800 ألف طن عجز القمح في سوريا خلال 2015

في مناطق «الدولة الإسلامية» .. موسم القمح يبذر بذور الاستياء

انقلاب على «بشار الأسد»

فيديو .. المعارضة السورية تحرر اللواء 82 بدرعا وتقتل 40 من قوات النظام