أنقذها من هيمنة أمريكا.. هكذا أصبح العراقي فاروق القاسم أبوالنفط النرويجي

الخميس 25 أغسطس 2022 01:23 م

نشرت هيئة الإذاعة الكندية "CBC" تقريرا عن رجل عراقي ساعد النرويج في بناء كل شيء بمجال صناعة النفط قبل عقود وأنقذها من الهيمنة الأمريكية، كاشفة عن كواليس الوصول إلى ذلك الإنجاز.

وقالت الهيئة عبر موقعها: "في عام 1952، وافقت شركة نفط العراق التي يسيطر على مناصبها العليا البريطانيون، على مضض، على تدريب الشباب العراقي للعمل جنبا إلى جنب مع نظرائهم البريطانيين في الشركة".

وأضافت: "كان العراقي فاروق القاسم أحد هؤلاء الشباب، قبل أن يقع عليه الاختيار لدراسة جيولوجيا البترول في إمبريال كوليدج في لندن، وعاد إلى العراق في عام 1957، وقد تزوج من سيدة نرويجية تدعى سولفريد، كانت تعمل في لندن مربية لدى عائلة إنجليزية".

وبعد عودته إلى العراق، بدأ "القاسم" حياته العملية في صفوف شركة النفط الحكومية العراقية "شركة نفط العراق (IPC)"، وانتقلت العائلة إلى مدينة البصرة في جنوب العراق.

وحسب التقرير، سرعان ما ارتقى "فاروق القاسم" في السلم الوظيفي، وأشرف على كميات هائلة من النفط والمال، ثم أصبح مسؤولا تنفيذيا رفيع المستوى في الشركة، التي كان يسيطر البريطانيون على المناصب العليا داخلها آنذاك.

في عام 1968، كان "فاروق القاسم" أمام قرار مهم من شأنه أن يغير حياته وحياة أسرته الصغيرة. ما لم يكن يعرفه في ذلك الوقت ربما، هو أن هذا القرار سيكون له مثل هذا التأثير العميق على مستقبل النرويج أيضا.

بداية الحكاية

في مقابلة مع التلفزيون الكندي، يروي "فاروق القاسم" كيف بدأت الحكاية قائلا: "ولد ابننا الأصغر مصابا بالشلل الدماغي، ما جعله معاقا، واتضح أن النرويج كانت من أفضل الدول في العالم لعلاج الشلل الدماغي".

أراد "فاروق" وزوجته رعاية أفضل لابنهما المريض، لذلك انتقلا إلى النرويج. كان ذلك في مايو/أيار 1968 وكان "القاسم" قد استقال لتوه من منصبه في شركة نفط العراق.

وللقيام بذلك، كان عليه أن يذهب إلى المملكة المتحدة، حيث المقر الرئيسي لاتحاد الشركات الغربية التي لا تزال تسيطر على معظم إنتاج النفط في بلاده.

يروي "القاسم" تفاصيل اللقاء الأخير بينه وبين الإدارة التنفيذية في لندن في حوار مع صحيفة أكسبريسن المسائية في السويد: "عندما أخبرت رئيسي في لندن بقرار الاستقالة، قال: اللعنة عليك يا فاروق. كنا نعتمد عليك. الآن أنت تخذلنا".

ضغط المدير على "القاسم" من أجل البقاء، لكنه تشبث بقراره، موضحا أن النرويج هي الوحيدة التي قدمت الرعاية التي يحتاجها ابنه. في النهاية، رضخ رؤساؤه.

وفي نفس الوقت، كان العراق يقترب من تأميم الأصول النفطية، ولم يرغب النظام بقيادة "عبدالكريم القاسم" في خسارة شخصية رئيسية في مستقبل النفط العراقي. في النهاية، تمكن "القاسم" من الوصول إلى أوسلو بعد أن أكد للسلطات العراقية أن الرحلة مؤقتة وأيضا لأسباب طبية. ربما ليست كذبة كاملة، ولكنها ليست الحقيقة الكاملة أيضا.

عندما غادر "فاروق" العراق في سن الحادية والثلاثين، لم يترك وراءه وطنه الأم فحسب، بل ترك أيضا وسائل الراحة الفاخرة في البصرة، حيث منحته المهنة الناجحة أسلوب حياة مزدهرا للطبقة الوسطى العليا في البصرة. كان الرقم خمسة في ترتيب المديرين في الشركة وأعلى رتبة بين العراقيين، وكان لديه سائق خاص ومنزل مع بستاني.

لكنه في النرويج، سيضطر للعيش مع عائلة زوجته "سولفريد" حتى يتمكن من العثور على عمل.

كان "فاروق" يشك في أنه سيحظى بفرصة عمل جيدة في مجال اختصاصه، نظرا لأن النرويج لا تملك النفط.

ربما لم يكن "القاسم" يعرف في ذلك الوقت أن التنقيب عن النفط كان جاريا على الجرف القاري النرويجي في بحر الشمال، وحتى لو كان يعلم، فما كان ذلك سببا كبيرا للأمل، فبعد 5 سنوات من البحث، لم يتم العثور على النفط، وفق ما جاء في التقرير.

البداية الثانية

في 28 مايو/أيار 1968، كانت مشكلة "القاسم" الأكثر إلحاحا في ذلك صباح ذلك اليوم، هي كيفية قضاء يومه في العاصمة أوسلو. قطاره المتجه إلى مسقط رأس "سولفريد" خارج العاصمة لن يغادر حتى الساعة 6:30 مساءً.

يروي "فاروق" في كتاب "فاروق القاسم.. السر وراء مغامرة النفط النرويجية"، الصادر عن دار نشر تون عام 2010، قائلا: "فكرت في ما سأفعله في هذه الساعات؟ لذلك قررت أن أذهب إلى وزارة الصناعة وأسألهم عما إذا كانوا على علم بأي شركات نفط قادمة إلى النرويج، وليسأل عما إذا كان لديها قائمة بشركات النفط العاملة في البلاد".

بعد وصوله، كان "القاسم" في مقابلة عمل غير متوقعة، واتضح أن هيئة النفط النرويجية، حديثة التكوين نسبيًا والتي تتألف من 3 موظفين بيروقراطيين في مُقتبل العمر، كانت تغرق في فيض من البيانات المعقدة التي بالكاد كان لدى أي شخص في النرويج المهارات والمعرفة اللازمة للتعامل معها.

 لذلك كان هؤلاء الموظفون بحاجة إلى جيولوجي نفط لتفسير نتائج اختبارات الحفر الجديدة في بحر الشمال. تم توظيفه على الفور، براتب أعلى من راتب رئيس مجلس الوزراء حينها بقليل.

خلال الأشهر الثلاثة التالية، تم تكليفه بتحليل البيانات الواردة من مختلف آبار الاستكشاف البحرية، وما وجده كان واعدا للغاية. فحص "القاسم" الدراسات والبيانات من 13 بئراً، وجدول النتائج ورسم الخرائط باليد. بحلول الوقت الذي انتهى فيه الأمر، كان مقتنعا بأن النرويج تمتلك الكثير من حقول النفط.

 

 

يقول "القاسم":" كان التحدي الرئيسي الأول هو إقناع الحكومة النرويجية بأن الأمر أصبح الآن عاجلاً. إذا لم تجهز النرويج طريقة تعاملها بشكل صحيح، لكانت لعبة سهلة لشركات النفط لتتغلب على الدولة الاسكندنافية الصغيرة، التي تفتقر إلى الخبرة العملية والمعرفة النظرية في الصناعة".

كانت ردود الفعل التي تلقاها "القاسم"، كما يصفها بنفسه، "تقريبًا ما يتوقعه المرء من السلطات النرويجية"! تقدمت له السلطات بالشكر على النتائج المثيرة للاهتمام، لكنها استمرت في التأكيد على أن الحذر هو الأفضل وأنه ربما يتعين الانتظار والترقب.

تساءل "القاسم" عن سبب تعيينه بالفعل، إن لم يكن للتحذير في الوقت المناسب من الاكتشافات المحتملة، حتى جاء الرد أن المسؤولين في النرويج لا يريدون التسرع!

اتضح أن توجسات "القاسم" كانت صحيحة. في عام 1971، اكتشفت شركة فيليبس بتروليوم الأمريكية حقل" إيكو فيسك"(Ekofisk)، أحد أكبر الحقول البحرية في العالم. ومن المتوقع أن يستمر إنتاج النفط فيه حتى عام 2050.

رغم أن نهج الحكومة خالف حينها رغبات "القاسم"، لكنه يعتبر أن  التزام النرويج بالحذر التام، سواء مع نتائج الاكتشافات ولاحقا في التعامل مع العائدات المالية النفطية، هو بالضبط ما يفسر غالبًا إدارة النرويج الناجحة بشكل فريد لنفطها.

وتابع "القاسم": "عند العودة إلى الماضي، ربما يكون هذا هو الشيء الأكثر حكمة الذي فعلته النرويج على الإطلاق".

"أبوالنفط في النرويج"

في عام 1972، أصبح "القاسم" رئيس إدارة الموارد في هيئة النفط النرويجية، واعتبر أن من أهم مهامه تحفيز الشركات النفطية على زيادة معدل الانتفاع بالحقول النفطية.

أدرك "القاسم" أن الأمر يتطلب استراتيجية واضحة وتخطيطًا دقيقًا لتجنب وضع مماثل في النرويج، ليقوم بإرسال تقريره الأول إلى البرلمان النرويجي بشأن تنظيم الدولة لإدارة النفط، وأكد فيه أن النرويج يجب أن يكون لها سيطرة وإدارة كاملة على جميع الأنشطة في الجرف القاري النرويجي.

لقد كان لتقرير "فاروق" قوة فعالة وراء قرار الحكومة النرويجية بتأسيس شركة نفط وطنية،"StatOil"، بالإضافة إلى إنشاء هيئة تنظيمية مستقلة للصناعة. وصياغة البرلمان النرويجي مشروع قانون أصبح يعرف باسم "الوصايا العشر للنفط" في البلاد.

هذه الوصايا النفطية العشر تشكل السياسة الأساسية التي تدير بها النرويج مواردها البترولية منذ ذلك الحين. لم يتفق السياسيون على هذه الوثيقة فحسب، بل اتفقوا على عدم مناقشتها في الانتخابات والمعجزة الثالثة... أنهم أوفوا بوعدهم.

أقرت الحكومة النرويجية أيضا أن مشاركة النرويج، من خلال شركة StatOil، في جميع الاكتشافات المستقبلية يجب ألا تقل عن 50%.

يقول "القاسم" "إن هذا الشرط لقي ترحيبًا فعليًا من قبل شركات النفط العالمية، التي ظلت حريصة على الشراكة مع Statoil، حيث لم يكن هناك أي مخاطرة على الإطلاق، لذلك كانت شركات النفط سعيدة للغاية بالتوافق مع هذه الصيغة".

وخلال العقدين الأولين، تم توجيه حصة النرويج من عائدات النفط إلى تطوير البنية التحتية اللازمة، ولكن بحلول عام 1990 حان الوقت لإنشاء صندوق نفط وطني. وبحلول عام 1996، كان كل سنت من عائدات النفط يتدفق إلى الصندوق.

مثل أجزاء من الشرق الأوسط، تمتلك النرويج صناعة نفط وغاز مربحة للغاية. ولكن على عكس معظم الدول المُصدرة للنفط، اختارت النرويج عدم استخدام مواردها على الفور لدعم التخفيضات الضريبية أو تمويل البرامج الاجتماعية.

بدلاً من ذلك، وضعت الحكومة مبادئ توجيهية صارمة للغاية لمنع استخدام عائدات النفط إيرادات عامة للحكومة. خففت النرويج منذ ذلك الحين هذه القيود، لكنها لا تزال حذرة للغاية، مما يسمح باستخدام ما يصل إلى 4%  فقط من صندوق النفط إيرادات عامة في الاستثمارات الحكيمة التي تعمل على تحسين إنتاجية الدولة ككل.

اليوم، بعد أقل من 25 عامًا على إنشاء الصندوق، نمت سلة البيض هذه ليصبح الصندوق أغلى صندوق ثروة سيادي في العالم، بقيمة 1.4 تريليون دولار تقريباً، وفقًا لتقرير معهد صندوق الثروة السيادية (SWFI).

واختتم التقرير بالقول: "على مدار الـ 22 عامًا الماضية، عمل فاروق القاسم مستشارا مستقلا في قطاع البترول، حيث إن معرفته العميقة بصناعة البترول ومهارات الاتصال الممتازة جعلته محاضرًا مطلوبًا للغاية، وأكسبته عضوية عدد من المنظمات المهنية النرويجية والدولية".

المصدر | الخليج الجديد + الحرة

  كلمات مفتاحية

النرويج فاروق القاسم من هو فاروق القاسم العراق النفط النرويجي