استراتيجية «بوتين» في سوريا .. ماذا بعد الضربات الجوية؟

الجمعة 1 يناير 2016 12:01 ص

كما تنبأ البعض سلفا، فقد تدخلت روسيا في سوريا ي أواخر سبتمبر/أيلول الماضي. في عيون موسكو، فإن هذه الخطوة قد أعادت مكانة روسيا كقوة لا غنى عنها وأخرجتها من عزلتها الدولية عبر تحويل الانتباه عن أوكرانيا، والحصول على بعض التصفيق من قبل الاتحاد الأوروبي، وربما تسهم قريبا في تخفيف العقوبات. الأهم من ذلك، فقد خففت الولايات المتحدة موقفها تجاه الرئيس السوري «بشار الأسد»، حيث لم تعد استقالته شرطا مسبقا لأي تسوية.

ومن أجل دراسة نظرية النصر الروسية هذه وكيف يمكن أن تعمل، علينا في البداية أن نضع بعض الافتراضات. أولا، فإن الجدال حول الحصافة السياسية للرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» وأهلية الكريملين بوضع سياسة أمنية وطنية سليمة هو أمر لا محل له. ولكن الأدلة التجريبية تشير إلى أن «بوتين»، وإن لم يكن بالضرورة لاعب الشطرنج الأكثر مهارة، فإن لديه أسلوبا منهجيا في إدارة الأزمات والتفاعلات الاستراتيجية. وأهم ما يؤهله لذلك هو فهمه الجيد لماضي روسيا ورؤيته الراسخة لمستقبلها. بالطبع فإنه غير معصوم، ولكنه يدرس خياراته بشكل جيد ويغير مساراته تفاعلا مع الأحداث كما أنه يمتلك قدرة لاعب الجودو على الارتجال والاستفادة من أخطاء خصومه.

ثانيا، فإن النهاية المأمولة للعبة موسكو في سوريا هي الحصول على سوريا مستقرة يمكن من خلالها لموسكو الحفاظ على وجودها الإقليمي. في البداية، فإن أولوية موسكو تكمن في تأمين وتعزيز معقلها على الساحل في منشآت اللاذقية وطرطوس، حيث حافظت طويلا على وجودها. يمكن لروسيا بعد ذلك أن توسع من تواجدها عبر زيادة قواتها الجوية وتوسيع أحواضها من أجل استيعاب عدد أكبر من السفن الحربية وسفن النقل. كما يمكن لروسيا استخدام منصات إطلاق الصواريخ من أجل تزويد «الأسد» وقواته الخاصة في معركتهم لحماية معاقل النظام الحالية. وفي ذات الوقت، فإن موسكو سوف تبدأ بالتطلع نحو تسوية سياسية. سوف يدفع الكريملين أولا نحو استعادة السيطرة على حدود سوريا ما قبل الحرب. إذا كان هذا الخيار غير قابل للتطبيق فسوف تقنع بحدود لسوريا مصغرة. وعلى الرغم من أن موسكو تفضل إبقاء «الأسد» في كلا الحالتين، فإنه ليس من المرجح أنها ستقف في طريق استبدال له طالما أن الحكومة الجديدة من شأنها أن تحمي مصالح موسكو وتمكن توقعاتها القوى الإقليمية.

ثالثا، ربما تدرك موسكو أن موقفها في سوريا ليس حقا بهذه القوة وأن تدخلها يمكن أن يكون عرضة للفشل. هي تعي جيدا مغامرات التدخل الأمريكية وكذا مغامراتها الخاصة في أفغانستان وشمال القوقاز وأوكرانيا. إذا أردنا أن نحكم على الأمر من خلال الدراسات العسكرية الروسية ودوريات الأعوام الأخيرة، فإن الخبراء والاستراتيجيين الروس لديهم صورة واضحة عن أفضل وأسوأ الممارسات الممكنة خلال التدخلات العسكرية والحملات الجوية، على الرغم من أنه من غير الواضح إلى أي مدى سوف تترجم هذه المعرفة إلى سياسات واضحة.

استراتيجيا، فقد ركزت تعليقات أحد الخبراء الروس على حدود القدرة العسكرية لموسكو في مواجهة عدو أيدولوجي. القوة الغاشمة يمكن أن تلحق ضربات قوية بالمقاتلين الجهاديين وليس بالأفكار السلفية ذاتها. ولذا فقد ناقش الخبراء الاستراتيجيون فقط كيفية خوض المعركة في سوريا واحتمالات المخاطر والتكاليف التي يمكن دفعها. كانت موسكو تدرك بوضوح صعوبة الحصول على الدعم الشعبي للحرب في بلد بعيد، وخصوصا تواصل تراجع الاقتصاد الروسي والقتال في دونباس. وأخيرا فإن الكريملين كان حساسا لمخاوف النخبة من رجال الأعمال في موسكو حول الحكمة من هذه الخطوة، خصوصا مع أوجه التشابه المحتملة مع الحرب السوفييتية في أفغانستان.

مع كل هذه المحاذير فإن قرار التدخل الروسي كان محفوفا بالمخاطر. وكان على الكريملين أن يجد صيغة مناسبة لإيجاد التوازن الصحيح بين الإفراط والتفريط في إطلاق النار. هنا يبدو من المرجح أن الكريملين قد اختار النهج الذي يتوافق مع المبدأ السوفييتي الخاص بـ«الاكتفاء المعقول». تم تصميم هذا المبدأ من قبل الزعيم السوفييتي السابق «ميخائيل جورباتشوف» ويعني هذا المبدأ في الأصل إيفاد الحد الأدنى من القوة العسكرية اللازمة للحماية ضد التهديدات الخارجية. بتطبيق هذا المبدأ على السياق السوري، فإنه يعني الحد من حجم التدخل إلى الحد الأدنى الذي لا يزال يسمح لروسيا بممارسة نفوذها في سوريا. في أوكرانيا، تعلمت موسكو دروسا صعبة حول حدود التدخل العسكري، حيث إن القوة العسكرية الإضافية لم يمكنها من تسوية الوضع في دونباس مرة واحدة وإلى الأبد كما كان متخيلا. على النقيض من ذلك فقد جرت روسيا إلى المزيد من المعارك غير المتوقعة. هذه المرة، فإن سياسة الاكتفاء المعقول قد تمنع موسكو من عبور النقطة الحرجة للتدخل والذي قد يأتي دفع المزيد من القوة بعدها بنتائج عكسية.

تكتيكات التدخل

في حساب الحرب، فإن موسكو من المرجح أن تفوض جميع المهام البرية لحلفائها. سعت موسكو أن يكون تدخلها في سوريا تحت أوسع غطاء ممكن من التحالفات، رغم أن الجوهر العسكري لهذا الائتلاف ربما لا يكون بذات السعة، حيث يشمل قوات «الأسد» المتبقية، والحرس الثوري الإيراني وقوات الباسيج وحزب الله والحكومة العراقية.

في هذه الحملة، فإن موسكو على الأرجح ترغب في أن تلعب الدور الأكبر في تصميم عمليات التحالف والإشراف عليها والعمل كمضاعف للقوة على الخطوط الأمامية. بالإضافة إلى الدعم الدبلوماسي، فإن روسيا سوف توفر التخطيط والمساعدات اللوجستية، بما يشمل القيادة والاتصالات، والاستخبارات؛ والدعم الجوي. المكون الجوية للبعثة ربما يمكن أن يشمل طائرات مقاتلة وطائرات الدعم والمروحيات القتالية ومروحيات النقل والطائرات بدون طيار. ربما تلجأ روسيا أيضا لاستخدام طائرات الاعتراض لردع الغارات الجوية المحتملة على الأراضي التي يسيطر عليها «الأسد»، إضافة إلى أنظمة الصواريخ أرض جو والطائرات المتقدمة من أجل حماية قوات التدخل السريع.

في الوقت نفسه، وتمشيا مع مبدأ الاكتفاء المعقول، فإن موسكو من المرجح أن تفوض معظم مهام الحرب البرية لحلفائها. في حين سوف تكتفي هي بالمشاركة في التخطيط التشغيلي وتبادل المعلومات والإشارات الاستخباراتية وتحديد الأهداف. ولكن يبدو من غير المحتمل أن كتائب من القوات الروسية سوف يكون لها مواقع تمركز في دمشق. بدلا من ذلك، من المرجح أن تعزز برامجها لتدريب وتقديم المشورة لوحدات «الأسد».

ربما تكون موسكو على ثقة حول قدرتها على تصميم حملة ائتلاف فعالة، بناء على خبراتها من عشرات من التدريبات التي أجريت في معاهدة الأمن الجماعي ومنظمات تعاون شنغهاي. وحتى مع ذلك، فمن المرجح أن تكون قلقة حول التعارض المحتمل للعمليات داخل التحالف. على المستوى الاستراتيجي، فإن إيران، روسيا، وسوريا، وربما حزب الله والعراق، ينسقون الجهود العسكرية منذ الصيف. اعتادت موسكو التعامل مع القوات السورية التي دربتها وجهزتها على مدى عقود، في حين أن «الأسد» لديه خبرة عميقة في التعاون مع حزب الله. وقد تعاون كلا البلدين مع إيران. ولكن الجميع ليس لديهم ما يكفي من الخبرة للعمل معا كمجموعة، ومعظم هذه المجموعات لم تدخل في تحالفات واسعة النطاق من قبل.

تعد قدرة روسيا على تنسيق أنشطة شركائها عاملا حاسما في نجاح خطتها. وفقا للمحللين الروس، فإن معظم نجاحات «الدولة الإسلامية» ترجع إلى عجز «الأسد» عن تركيز جهوده العسكرية ضد المجموعة. من خلال جلب بعض التركيز والعقلانية لحملة مكافحة «الدولة الإسلامية»، فإن التحالف الذي تقوده روسيا يسعى إلى عكس مسار الحرب. تقوم النظرية العسكرية الروسية على أن الحملة الجوية سوف تتخذ شكل ضربات تستهدف الأنظمة الثلاثة التي تربط «الدولة الإسلامية»: سلسلة القيادة والتحكم، وسلاسل التوريد، والمراكز الاقتصادية ذات الثقل. سوف تحاول الضربات الجوية تفتيت «الدولة الإسلامية»، بينما ستركز العمليات البرية على تفكيك المجموعات المحلية الصغيرة من المقاتلين. لا تحتاج روسيا إلى حملة موسعة، ولكنها تحتاج فقط إلى عكس الاتجاهات الحالية وإظهار قوة النظام، وتسهيل الظروف لعملية سياسية.

في بعض الجوانب، فإن تصميم الحملة ربما ينبع أيضا من الجيل الجديد للحروب الروسية، وهي مجموعة من الأفكار حول الطبيعة المتغيرة للحرب التي تم تداولها في المجتمع الاستراتيجي الروسي. وقد شكلت هذه الفكرة بالفعل العقيدة العسكرية لروسيا منذ العام 2014 والعمليات التابعة في أوكرانيا. هذا المفهوم يقلل من دور العمليات العسكرية واسعة النطاق في حقبة ما بعد الحروب الصناعية، كما يجمع بين القوة الصلبة والقوة الناعمة عبر الجمع بين المسار العسكري، والمسار الدبلوماسي والاقتصادي. تستثمر هذه الفكرة أكثر في العمل غير المباشر، عبر العمليات الإعلامية والقوات شبه العسكرية، وقوات العمليات الخاصة المدعومة من قدرات عسكرية متطورة. وهو مبدأ يبدو أن يتواكب بشكل جيد مع خطة «الاكتفاء المعقول».

ولكن صناعة الموجات أسهل من السيطرة عليها. بالنسبة لموسكو، فإن الخطر الرئيسي في سوريا هو زيادة التمدد. في هذه الحالة، فإن موسكو تعمد إلى تقليل وجودها المرئي، وتحاول الحفاظ على حد الفاصل ما بين المشاركة والتدخل. هذا لا يعني، بالطبع، أن روسيا لن ترسل أي عناصر للمشاركة في العمليات البرية. في واقع الأمر، فإن القوات المسلحة الروسية جنبا إلى جنب مع القادة الميدانيين في دونباس والمقاتلين الشيشان الموالين لروسيا سوف يبدؤون في الظهور في ساحات المعارك السورية، وينبغي ألا يمثل هذا الأمر أي مفاجأة. ولكن هذا الانتشار سوف يظل رهينا بمبدأ «الاكتفاء المعقول» على أمل تجنب مستنقع سوريا وتكرار أخطاء دونباس وتحقيق شيء أقرب ما يكون إلى الحملة الروسية الفعالة في شبه جزيرة القرم.

مخاطر التعارض

مرة أخرى، فإن صناعة الأمواج أسهل من السيطرة عليها. خلال الضربات الأولى ضد «الدولة الإسلامية»، فمن المرجح أن الائتلاف سوف يركز على الأهداف المشتركة. ولكن مع تقدم الحملة، وبخاصة إذا استقرت الأوضاع في المناطق التي يسيطر عليها «الأسد»، فإن مصالح أعضاء الائتلاف قد تتباعد. ربما تسعى كل من إيران وسوريا إلى نقل المعركة أبعد شرقا وشمالا، على أمل استعادة كامل السيطرة على سوريا لصالح «الأسد». موسكو ربما يكون لديها أهداف أكثر محدودية وتسعى إلى تسوية وتحقيق الاستقرار في أقرب وقت ممكن. إذا كانت موسكو غير قادرة على تسهيل التوصل إلى حل سياسي، ولا يمكنها فرض إرادتها على حلفائها، فإنها قد تسحب إلى عمق القتال. قد يحدث نفس الشيء إذا لم تسر الحملة، لأي سبب من الأسباب، على النحو المخطط له، وتطلبت المزيد من الاستثمارات. يدرك الكريملين أن التحالف الشيعي مع «الأسد» وإيران وحزب الله والعراق قد يحفز السنة ضدهم، وربما تدفع إلى تحالف بين «الدولة الإسلامية» وسائر الجماعات المسلحة الأخرى. الخطر الأكبر هو أن موسكو لا تفرق بين المتطرفين والمعتدلين من المتمردين، وتتعامل مع جميع المجموعات المناهضة للأسد بوصفهم إرهابيين، وفق ما تشير إليه ضرباتها الجوية حتى الآن.

ويرتبط الخطر الثاني بـ(إسرائيل). من المرجح أن تقف تل أبيب بحسب أمام أي نقل الأسلحة يهدف إلى تغيير قواعد اللعبة لصالح حزب الله كما أنها لن تتسامح مع امتداد القتال إلى حدودها. هذا مع العلم أن حزب الله، وإيران، والأسد قد يكونون يخططون للعمل في المناطق الخاضعة للمسؤولية الروسية وأقرب ما يكون إلى القوات الروسية من أجل تحويلها إلى دروع بشرية. اعتادت (إسرائيل) شن غارات جوية على ذات المناطق التي يوسع الروس تواجدهم فيها في الوقت الراهن. المحادثات الأخيرة بين «بوتين» ورئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» حول تفادي الصراع قد تعالج جزئيا هذه النقطة، وقد أبدت (إسرائيل) حيادها تجاه الصراع، ولكن تبقى مخاطر اشتعال الصراع موجودة رغم كل شيء.

وأخيرا، تدرك موسكو أنها سوف تكون تحت تهديد مستمر من قبل التطرف المحلي. هي تدرك بوضوح أن أنشطتها في سوريا قد تحرض على الكراهية بين عدد كبير من السنة وكذلك تحفز الجهاديين لجلب معركتهم إلى قلب روسيا، وشمال القوقاز، وآسيا الوسطى. إمكانية وصول التطرف إلى المجندين المسلمين في الجيش الروسي هو بالفعل مصدر قلق كبير بالنسبة لموسكو.

وحتى لو كانت موسكو مدركة للمخاطر وترغب في تجنب المزيد من التوغل، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت الحملة الحالية في سوريا سوف تمر بسلاسة كما تعتقد روسيا. ومع ذلك، فإنه ينبغي الأخذ في الاعتبار القول المأثور: «روسيا ليست أبدا قوية كما تبدو عليه كما أنها لا تكون بذات الضعف الذي ربما تبدو عليه كذلك».

 

 

  كلمات مفتاحية

روسيا سوريا بشار الأسد بوتين إيران

«الصبر الاستراتيجي»: لا تطاردوا «بوتين» في سوريا .. دعوه يفشل من تلقاء نفسه

(إسرائيل) وروسيا .. تقاطع انتهازي في سورية

التدخل الروسي في سوريا (2-2): التداعيات العسكرية

التدخل الروسي في سوريا (1-2): تراجع القدرات العسكرية لن يردع موسكو

«بروكنغز»: كيف ترتكب كل من روسيا والولايات المتحدة نفس الأخطاء في سوريا؟

«بوتين»: سوريا بحاجة إلى دستور جديد وبحث منح اللجوء لـ«الأسد» سابق لأوانه

حرب «بوتين» في سوريا تكرار لحربه في الشيشان