تناقضات مثيرة وافتراضات خيالية.. استراتيجية بايدن الجديدة للأمن القومي

الثلاثاء 18 أكتوبر 2022 02:35 م

طرح الرئيس الأمريكي "جو بايدن" مؤخرا استراتيجية الأمن القومي لبلاده والتي تعد بمثابة مزيج من رؤى الرؤساء السابقين، حيث تركز الاستراتيجية على دور القيادة العالمي الذي لا غنى عنه مثلما ركز "جورج بوش الأب" فيما تتبنى وجهة نظر للعالم قائمة على الثنائيات - الديمقراطية مقابل الاستبداد، الخير مقابل الشر - مثلما طرح "رونالد ريجان" و"جورج دبليو بوش".

كما تروج الاستراتيجية للأسواق المفتوحة مثل "بيل كلينتون"، وتشير إلى أن "بايدن" مستعد مثل "باراك أوباما" للتعاون والتفاوض مع "الأنظمة المارقة"، حتى إنها تؤكد على نهج "أمريكا أولًا" الذي يعطي الأولوية للإنفاق والاستثمار المحليين، مثل "ترامب" الذي يشير إليه "بايدن" بلقب "الرجل السابق" لبغضه له.

ولم يكن إصدار هذه الوثيقة خطوة سهلة، خاصة أنه يأتي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ما أدى إلى تعقيد المسودة النهائية لاستراتيجية الأمن القومي وتأخر نشرها لعدة أشهر، فيما يشبه مقولة "مايك تايسون"، التي يمكن إعادة صياغتها كالآتي: "الجميع يكون لديهم استراتيجية حتى يتعرضوا للكمة في الوجه".

 وبالتالي، عندما تتعرض هذه الاستراتيجية لضربة، يجري تعويض هذا القصور عبر الكليشيهات السهلة حول دور البلاد الذي لا غنى عنه في إنشاء عالم "مزدهر ومتكامل".

خيالات القيادة الأمريكية

منذ البداية، يقدم "بايدن" عددًا من الافتراضات الخيالية - وحتى الوهمية - حول القيادة العالمية لأمريكا، وتزعم الوثيقة: "في جميع أنحاء العالم، الحاجة إلى القيادة الأمريكية كبيرة مثلما كانت دائمًا، لأنه لا توجد أمة في وضع أفضل من الولايات المتحدة للقيادة".

ربما كانت هذه الافتراضات صحيحة في فترة ما بعد الحرب الباردة، لكن لم يعد من الممكن تبريرها؛ خاصة بعد 3 عقود من الإخفاقات والتراجع بل الانحسار عن المسرح العالمي.

ومع ذلك، فإن استراتيجية الأمن القومي تقول بشكل واضح إنه "يجب علينا تشكيل النظام الدولي بشكل استباقي بما يتماشى مع مصالحنا وقيمنا".

وفي قلب الاستراتيجية التي تم الكشف عنها حديثًا، هناك نوعان من التهديد للأمن القومي الأمريكي تم التعبير عنهما بوضوح: وهو التهديد الجيوسياسي (من الصين وروسيا) والتهديدات العالمية مثل تغير المناخ والإرهاب والأوبئة الجديدة وانعدام الأمن الغذائي.

تناقضات الاستراتيجية

على المدى الطويل، فإن إدارة "بايدن" منشغلة بشكل أساسي بصعود الصين، أما على المدى القريب، فهي تركز أيضًا على التهديد الروسي للأمن الأوروبي، وتعتقد الإدارة الأمريكية أن هذه الأوتوقراطيات تعمل على "تقويض الديمقراطية وتصدير نموذج من الحكم يتميز بالقمع في الداخل والإكراه في الخارج". وبطبيعة الحال، يعيق ذلك التعاون متعدد الأطراف الذي لا غنى عنه واللازم لمعالجة الأخطار العابرة للحدود الوطنية والتي لا تعرف الجغرافيا.

ولحل هذه الإشكالية، تقترح استراتيجية الأمن القومي "الحفاظ على التعاون الدولي وزيادته في عصر المنافسة ضمن النظام الدولي القائم على القواعد مع العمل على تعزيز المؤسسات الدولية". وبالتالي، يدعي "بايدن" عدم السعي إلى "حرب باردة جديدة" مع الصين، وإنما يؤكد من جديد على "سياسة الصين الواحدة"، ويوضح أن واشنطن لا تدعم استقلال تايوان.

لكن الصين وروسيا تنظران إلى "النظام الدولي القائم على القواعد" الذي تسعى له الولايات المتحدة باعتباره تجسيدًا للإمبريالية الأمريكية، وتركز بكين وموسكو علي ما تفعله الولايات المتحدة وليس لما يقوله "بايدن".

وترى روسيا والصين الاحتواء الإستراتيجي والحشد العسكري وتكوين التحالفات والتوسع باعتبارها مصدر عدائيات يقوض التعاون والتنسيق اللازمين لمواجهة التحديات العالمية.

هناك مشكلة أخرى تكمن في اختيار استراتيجية الأمن القومي للموارد والأدوات اللازمة لتحقيق أهدافها، فهي تتحدث عن الرغبة في بناء "نظام دولي حر ومفتوح ومزدهر وآمن يمكن للناس فيه الاستمتاع بحقوقهم وحرياتهم".

ولتحقيق مثل هذا الهدف "القيّم والنبيل" تخطط الولايات المتحدة لتنمية قوتها وتطوير قدرات جيشها وتعزيز نفوذها من خلال التحالفات الدولية. ويأتي هذا رغم أن الإنفاق العسكري الأمريكي يفوق البلدان التسعة الأكثر إنفاقًا، وكلهم حلفاؤها باستثناء الصين وروسيا.

بعبارة أخرى، تتحدث إدارة "بايدن" كعنصر تهدئة للصراعات لكنها تتصرف مثل المطرقة، معتقدة أن عليها أن تعمل كشرطيّ للعالم.

هناك أيضًا تناقضات بين التحديث النووي الأمريكي وسياسة عدم الانتشار، حيث تلتزم استراتيجية الأمن القومي الأمريكي بتحديث الثالوث النووي للبلاد والبنية التحتية ذات الصلة، وفي الوقت نفسه، تتحدث عن السيطرة على الأسلحة والتحقق من نظام عدم الانتشار العالمي.

بمعنى آخر، فإن الولايات المتحدة، مثل الصين وروسيا، لا تزال مصرة على انتهاكها لمعاهدة عدم الانتشار. كما تصر الولايات المتحدة على أنه يجب على إيران الامتثال لالتزامات معاهدة عدم الانتشار النووي فيما لا تفعل هي ذلك.

استراتيجية الشرق الأوسط

ينطبق الشيء نفسه على القيم والمصالح التي لا تتماشى عادة مع السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة في الشرق الأوسط، حيث عملت إدارة "بايدن" على تعزيز الأنظمة الاستبدادية وحشدها ضد روسيا، وكل ذلك باسم الديمقراطية.

وتلزم استراتيجية الأمن القومي أيضًا الولايات المتحدة بدمج إسرائيل في المنطقة، وإن كان ذلك على حساب حقوق الفلسطينيين والعرب، وتذكر الاستراتيجية أن حل الدولتين هو الخيار الأفضل، لكنها في الممارسة العملية ترضخ لإسرائيل.

ويُحسب لـ"بايدن" أنه لا ينمط المسلمين - على عكس "ترامب" - كما لا يربط الإسلام والمسلمين بتنظيم "القاعدة" أو "الدولة الإسلامية". ومثل استراتيجية "القيادة من الخلف" لـ"باراك أوباما"، يقترح "بايدن" التعاون ودعم الشركاء الموثوق بهم، والتحول من استراتيجية "قيادة الولايات المتحدة، وتمكين الشريك" إلى استراتيجية "قيادة الشريك، وتمكين الولايات المتحدة". 

وتعد هذه الاستراتيجية طموحة بشكل مفرط مع خيالات كبيرة، وسيرحب بها أصدقاء أمريكا الذين يبحثون عن الحماية والدعم من القوة العظمى، لكنها ستمنح زخمًا لمنتقدي أمريكا فيما يتعلق بأجندتها الإمبريالية العدوانية.

وإذا كانت الإستراتيجية فنًا لكسب نقاط أكثر مما يشير إليه توازن القوة، فإن استراتيجية الأمن القومي هذه رائعة لكن من الناحية النظرية فقط. وفي الممارسة العملية، يشير التاريخ إلى أنه عندما تتحدى قوة صاعدة قوة مهيمنة، فإننا سنشهد كثيرا من المخاطر.

المصدر | مروان بشارة | الجزيرة - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

استراتيجية الأمن القومي بايدن منافسة القوى العظمى الصين روسيا حرب أوكرانيا