كيف تسبب ارتفاع الديون في التهميش الجيوسياسي لمصر وتونس؟

الجمعة 16 يونيو 2023 05:39 م

فيما تبذل كلٌّ من مصر وتونس مساعٍ حثيثة لإرساء الاستقرار في البلدَين، فإن تهميشهما المتزايد قد يُدخلهما في حلقة مفرغة، خاصة في ظل اعتمادهما الجيوسياسي على الجهات المموّلة الإقليمية، ما يحرمهما من هامش المناورة، على وقع تراجع أهميتهما في السياق الجيوسياسي الإقليمي والعالمي المتغيّر.

هكذا يخلص تقرير لمركز "كارنيجي"، الذي يلفت إلى أنه في ظل التحولات العميقة التي تخوضها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تبدو مصر وتونس غائبتَين عن عملية صنع النتائج.

ويضرب التقرير مثالا عن هذا التهميش، بغياب مصر عن المصالحة بين السعودية وإيران، وعرض الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، أن يؤدّي دورًا لحلحلة الأزمة السياسية التي تشهدها تونس، وكأن القادة التونسيين عاجزون عن حل الأزمة بأنفسهم.

ويشير التقرير إلى أنه على الرغم من تباين مسارات مصر وتونس السياسية والاقتصادية منذ العام 2011، فكلتاهما تسعيان إلى الحصول على الدعم المالي الخارجي، بعد معاناتهما من صدمات متتالية نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة وزيادة معدّلات الفائدة".

وبعد سنوات من التقشّف، تتخبّط مصر، وهي أكبر مستورد للقمح في العالم، في مواجهة التداعيات الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، وبالمثل، واجهت تونس بدورها أوضاعًا مالية متدهورة باطّراد، ودينًا عامًّا تكاد تعجز عن تحمّله.

وعلى الرغم من أن مصر أبرمت اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر/كانون الأول 2022 جنّب البلاد أضرارًا محتّمة بعدتدفّق كبير للديون القصيرة الأجل إلى الخارج، فإنها لا تزال تعتمد بصورة أساسية على سخاء دول الخليج، مع أن هذه الدول متردّدة حيال دعمها نظرًا إلى حاجاتها المالية الضخمة.

أما في تونس، عمد الرئيس قيس سعيّد إلى عزل البلاد عن شُركائها الغربيين وتقويض العملية الديمقراطية التي شهدتها تونس طوال عقد من الزمن، بعد الانقلاب الذي نفّذه في يوليو/تموز 2021، وقد عوّل نظامه السلطوي الشعبوي بصورة أساسية على الدعم المالي الضئيل الذي تقدّمه الجزائر المجاورة.

وحسب التقرير، فـ"مثلما اضطُرَّت مصر إلى إبداء المزيد من الاصطفاف إلى جانب دول الخليج بسبب حاجاتها المالية، كان على تونس أن تفعل الأمر نفسه مع الجزائر، متخلّيةً عن النهج الأكثر استقلالية الذي اتّبعته في السابق".

ويضيف: "ولّد هذا الاعتماد المزمن على التمويل الخارجي حالة تهميش على مستويَين طالت مصر وتونس، فقد أصبحتا هامشيتَين على مستوى الاقتصاد العالمي، إذ باتت سياساتهما الاقتصادية مطبوعةً إلى حدٍّ بعيد بالحاجة إلى الحصول على التمويل الخارجي والقبول بتفضيلات الدائنين لملء فجواتهما التمويلية الآخذة في الاتّساع".

وفي غضون ذلك، عبّر اعتمادهما حسب القترير، على البلدان المصدِّرة للمواد الهيدروكربونية عن المزيد من تهميشهما أيضًا على المستوى الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما أسهم في تقويض الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها مصر وتونس لفترة طويلة في مجال السياسة الخارجية.

ومنذ العام 2013، أصبحت مصر وتونس أكثر اعتمادًا بكثير على الموارد المالية الخارجية نتيجة الصدمات التي تعرّضت لها أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة ومعدّلات الفائدة.

وفي ذلك العام، أقرّت تونس برنامجها الأول مع صندوق النقد الدولي بعد ثورة 2011، فيما اعتمدت مصر على الودائع الطويلة الأجل والقروض ذات الفوائد المنخفضة من دول الخليج لمحاولة تحقيق استقرارها الاقتصادي.

وأبرمت تونس مجددًا اتّفاقًا مع صندوق النقد الدولي في العام 2016، وأقدمت مصر على هذه الخطوة أيضًا.

وكان هذان البرنامجان أساسيَّين من أجل وصول البلدَين إلى الأسواق المالية الدولية، لكنهما جعلا مصر وتونس خاضعتَين للشروط التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، ما زاد من إمكانية تأثّرهما بالصدمات الخارجية، ولا سيما التغييرات في معدلات الفائدة على الدولار الأمريكي.

وألقت هذه الصدمات ضغوطًا إضافية على السلطة الحاكمة في مصر، ما زاد من مخاطر حدوث توترات اجتماعية، فيما لا تزال تقوّض على نحو خطير قدرة سعيّد على ترسيخ قيادته السلطوية في تونس.

وحسب تقرير "كارنيجي"، فإنه أمام ذلك تعيّن على مصر وتونس، في إطار مساعيهما لتلبية حاجاتهما المالية، مراجعة سياساتهما الخارجية والاصطفاف إلى جانب دول ساعدت في تمويلهما أو تستطيع ذلك.

ودفع هذا الواقع مصر إلى الاقتراب أكثر من المواقف السياسية لدول مجلس التعاون الخليجي، مقارنةً مع دورها السابق كدولة رسمت معالم توجهاتٍ سياسية كبرى في العالم العربي.

أما تونس فلم تحصل على دعم ملحوظ إلّا من الجزائر، وتخلّت عن سياسة الاعتدال التقليدية التي كانت تنتهجها حيال شؤون منطقة شمال أفريقيا.

وفاقمت هذه التحولات عملية التهميش الإقليمي لدولتَين اضطلعتا في السابق بدورٍ رائدٍ في التاريخ العربي خلال مرحلة ما بعد الاستعمار.

لكن موقف دول الخليج حيال مصر تبدّل اليوم، إذ لم يعد التركيز يقتصر على الاعتبارات السياسية والأمنية وحسب، بل بات المستثمرون الخليجيون يتطلّعون على نحو متزايد إلى تحقيق عائدات أكبر على استثماراتهم من خلال زيادة حصصهم في أصول مملوكة للدولة، يتمتّع بعضها بأهمية استراتيجية، على غرار المرافئ والمرافق العامة.

وفي موازاة ذلك، تتزايد المخاوف المرتبطة بالاقتصاد المصري، فنظرًا إلى اعتماد القاهرة على حزم إنقاذ مالي أكبر وبصورة أكثر تواترًا، باتت حكومات الخليج مهتمّة بسياسات الاقتصاد الكلّي في مصر.

تاريخيًا، استخدمت مصر علاقاتها الوثيقة مع دول الخليج كبديل عن الحصول على تمويل من صندوق النقد، لكن يبدو أن هذه الصفحة قد طويت الآن.

ففي ديسمبر/كانون الأول 2022، وافق صندوق النقد على إتاحة المزيد من التمويل لصالح مصر من دول مجلس التعاون الخليجي، في خطوة هي الأولى من نوعها.

علاوةً على ذلك، تريد دول الخليج، بالتماشي مع شروط صندوق النقد، أن تعمد مصر إلى خفض دور الدولة في الاقتصاد، وإبداء شفافية أكبر حيال الأوضاع المالية للشركات المملوكة للدولة.

أما تونس فتواجه أيضًا مأزقًا، فبعد عقدٍ من الدعم المالي والحصول على الأموال بشكل مُيسَّر، باتت البلاد عالقة في ظل حكومة سعيّد، الذي عزل تونس عن محيطها الدولي من دون امتلاك أي خطة احتياطية.

وبحسب الاتفاق على مستوى الخبراء الذي تمّ التوصل إليه في العام 2022، وافق صندوق النقد على منح تونس 1.9 مليار دولار، لكنه توقّع أن تعمد دول أخرى إلى سدّ الفجوة التمويلية.

وكان من المرجّح أن السعودية والكويت والإمارات ستفعل ذلك في بادئ الأمر، إلا أنها تركت هذه المهمة في نهاية المطاف للدول الأوروبية.

ويعلق التقرير على كل ذلك بالقول: "أدّى اعتماد مصر وتونس المتزايد على التمويل الخارجي إلى تهميشهما على مستوى الاقتصاد العالمي وفي المشهد الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".

وبدأ التهميش النسبي لموقف مصر مقارنةً مع شُركائها الخليجيين قبل سنوات عدة، ويبدو أن وتيرته تتسارع.

ويشير إلى أنه "في العام 2017، تنازلت مصر عن جزيرتَين غير مأهولتَين ولكنهما تتمتعان بأهمية استراتيجية في البحر الأحمر، وهما تيران وصنافير، إلى السعودية، الأمر الذي أثار جدلاً في أوساط المعارضة في مصر. كانت للمملكة أسباب عدّة وراء رغبتها في السيطرة على الجزيرتَين، مثل اعتبارها أنهما كانتا أساسًا ملكًا لها قبل تسليمهما إلى مصر في العام 1950 لتجنّب استيلاء إسرائيل عليهما".

ويضيف: "لكن صُوّرت هذه الخطوة في مصر بأنها تنازل عن أراضٍ ذات سيادة لقاء الحصول على مساعدات مالية سعودية".

ويتابع: "كذلك، تراجعت أهمية مصر الجيواستراتيجية كوسيط محتمل بين العالم العربي وإسرائيل".

ويزيد: "قد كان هذا الدور حجر الأساس في علاقات مصر مع الولايات المتحدة بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي أُبرمت في العام 1979، لكن اليوم، وبفضل ما عُرف بالاتفاقيات الإبراهيمية، باتت دولتان في مجلس التعاون الخليجي، هما الإمارات والبحرين، تقيمان علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، إلى جانب المغرب والسودان، ما أنهى احتكار مصر والأردن للعلاقات مع إسرائيل".

ويتسطرد التقرير: "لهذا السبب ربما رحّبت مصر بالاتفاقيات الإبراهيمية مع تحفّظات ضمنية، من خلال تركيزها على ضرورة التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، وليس فقط مع الدول العربية".

ولكن، وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية المصرية في أوائل العام 2022، ولجوء مصر بشكل طارئ إلى تمويل مجلس التعاون الخليجي، شارك وزير الخارجية المصري في قمة النقب التي استضافتها إسرائيل في مارس/آذار، وحضرتها كذلك دول عربية وقّعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل.

وتشير هذه الخطوة إلى أن مصر ستحافظ على دور نشط في عمليات التطبيع العربية مع إسرائيل، والتي لعبت دولة خليجية بارزة هي الإمارات دورًا أساسيًا فيها، على الرغم من أنها أفضت إلى تراجع نسبي في مكانة مصر الإقليمية.

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

مصر تونس ديون أزمة اقتصادية تهميش التهميش الجيوسياسي صندوق النقد

تونس.. منع وسائل الإعلام من تغطية قضيتين لشخصيات معارضة بارزة

كابيتال إنتليجنس تخفض تصنيف ديون مصر طويلة الأجل.. لماذا؟

تونس تسدد 74% من خدمة ديونها الخارجية لعام 2023