جيوبوليتيكال فيوتشرز: لماذا تنعطف تركيا نحو الغرب؟

الخميس 31 أغسطس 2023 04:55 م

باعتبارها جهة فاعلة جيوسياسية، فإن الميزة الأكبر التي تتمتع بها تركيا هي قدرة على اللعب على التناقضات، إلا أن نفوذها الذي بدأ في التضاؤل مع روسيا، وحاجة اقتصادها الماسة إلى الاستثمار الأجنبي، دفعها للاتجاه ناحية الغرب.

هكذا يخلص تحليل لموقع "جيوبوليتيكال فيوتشرز"، وترجمه "الخليج الجديد"، مشيرا إلى أن التطورات الإقليمية دفعت تركيا إلى إعادة ترتيب الأمور، ليس فقط على الصعيد الداخلي، بل وأيضاً في علاقاتها الدولية، وخاصة مع أوروبا والولايات المتحدة.

وتقع تركيا على مفترق طرق أوروبا وآسيا وأفريقيا، وتتحكم في مرور السفن بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، ما منحها خلال العام ونصف العام الأول من الحرب الروسية الأوكرانية، نفوذاً هائلاً.

وعلى الفور، منعت أنقرة السفن الحربية من عبور المضائق التركية في محاولة لاحتواء الصراع، وعملت كوسيط بين الأطراف المتحاربة، وبعد ذلك، كضامن لممر الحبوب في البحر الأسود الذي توسطت فيه الأمم المتحدة.

ومع تصعيد الغرب وروسيا المواجهة الاقتصادية بينهما، شعرت تركيا بوجود فرصة لتكون بمثابة نقطة عبور لتجارة السلع، وأعربت عن طموحاتها في ترسيخ نفسها كمركز لتجارة الغاز الطبيعي.

ولكن مع استمرار الحرب، فإن امتيازات تركيا تتلاشى، فعلى المدى القصير، أُغلق مجال الوساطة بالكامل تقريبًا، بينما على المدى الطويل، تواجه المزايا التي تتمتع بها تركيا تحديًا بسبب ظهور طرق تجارية بديلة.

وإذا لم يعد الحياد النسبي مربحًا، فقد يدفع ذلك أنقرة إلى البحث عن الاستقرار من خلال التوافق الوثيق مع الولايات المتحدة.

نهاية طريق

وسوف يكون تحقيق حلم تركيا في الزعامة الإقليمية أمراً صعباً إذا كانت تكافح في الوقت نفسه تقلبات أسعار الطاقة، والاقتصاد الهش، والمجتمع غير المستقر، والتهديدات التي تواجه التجارة الإقليمية نتيجة للصراع المتزايد في البحر الأسود.

ولذلك، فبعد سنوات قضاها في ترسيخ نموذجه الاقتصادي الخاص، يبدو أن الرئيس المنتخب حديثا رجب طيب أردوغان عاد ليتبنى وجهة النظر التقليدية.

ويعاني الاقتصاد التركي من عجز تجاري كبير وتضخم مرتفع للغاية، بلغ ذروته في أكتوبر/تشرين الأول 2022 عند 85.5%، ويتوقع البنك المركزي أن ينهي عام 2023 عند 58%.

وبعد حصوله على فترة ولاية أخرى مدتها 5 سنوات في مايو/أيار، قام أردوغان بتجميع فريق اقتصادي جديد مكلف بتقليص الاختلالات الخارجية الكبيرة في البلاد، واستعادة الانضباط المالي، والأهم من ذلك، الابتعاد عن السياسة النقدية غير التقليدية.

وعمل وزير المالية الجديد محمد شيمشك، وهو معتدل شغل سابقًا نفس المنصب من عام 2009 إلى عام 2015، على زيادة الضرائب وجذب المستثمرين الأجانب والمديرين التنفيذيين.

وفي الوقت نفسه، شرعت رئيسة البنك المركزي الجديدة حفيظة إركان في السير على الطريق المحفوف بالمخاطر، لإنهاء مخطط مصرفي باهظ الثمن يحمي ودائع الليرة من انخفاض قيمة العملات الأجنبية.

كما رفعت سعر الفائدة الرئيسي في تركيا لأول مرة منذ عام 2021، وبعد زيادة كبيرة غير متوقعة في الأسبوع الماضي، تبلغ الآن 25%، بعد أن كانت 8.5%.

وحتى الآن، لم تؤت السياسة الجديدة بثمارها، وتبين أن أول رفعين لأسعار الفائدة كانا ضعيفين للغاية، وبدأ التضخم في التسارع مرة أخرى.

ومقارنة بالعام الماضي، ارتفعت أسعار الاستهلاك (التضخم) بنسبة 38.2% في يونيو/حزيران و47.8% في يوليو/تموز. كما واصلت أسعار العقارات ارتفاعها، وانخفضت ثقة المستهلك في أغسطس/آب.

كما تسارعت وتيرة انخفاض الليرة التركية مقابل الدولار، حيث بلغت ذروتها عند 27.2 للدولار، وارتفعت إلى 25.5 ليرة لكل دولار، بعد رفع سعر الفائدة الأخير قبل أن تضعف مرة أخرى في اليوم التالي.

وإلى جانب الإصلاحات غير الحاسمة، فإن نفوذ أنقرة مهدد كدولة عبور، فلم يعد مضيق البوسفور المنفذ الوحيد لروسيا إلي المياه الدافئة. ففي أغسطس/آب، وصل أول قطار روسي يحمل بضائع تجارية إلى إيران عبر معبر إنتشه-بورون الحدودي مع تركمانستان في طريقه إلى ميناء بندر عباس ثم إلى السعودية.

وهذا الطريق، وهو جزء من ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، يمكّن روسيا من تصدير البضائع إلى السعودية بما يقرب من نصف التكلفة المعتادة في التعريفات الجمركية.

وبشكل منفصل، بدأت صادرات النفط والمنتجات النفطية الروسية في التحول من بحر آزوف وقزوين والبحر الأسود إلى موانئ على بحر البلطيق.

ويأتي التحدي الثاني لوضع تركيا الإقليمي، وفق تحليل "جيوبوليتيكال فيوتشرز"، بعد إنهاء صفقة الحبوب في البحر الأسود الشهر الماضي، والتي سهلت النقل الآمن للحبوب الأوكرانية عبر مياه البحر الأسود وزادت من أهمية تركيا باعتبارها دولة عبور رئيسية للحبوب.

وليس لدى أردوغان ما يظهره في جهوده لإحياء الاتفاق، لكن من المقرر أن يزور روسيا في أوائل سبتمبر/أيلول للمحاولة مرة أخرى.

وفي غضون ذلك، أعلنت كييف أن المياه المحيطة بستة موانئ روسية على البحر الأسود هي جزء من منطقة الحرب.

وأطلقت موسكو مرارا وتكرارا صواريخ وطائرات بدون طيار على الموانئ البحرية الأوكرانية وكذلك البنية التحتية للموانئ على نهر الدانوب، والتي تعتمد عليها أوكرانيا والغرب لتحل محل طرق البحر الأسود.

ووفق التحليل، فإن الجهود التي تبذلها أوكرانيا والاتحاد الأوروبي لإنشاء طرق بديلة لن تؤدي إلا إلى تراجع أهمية تركيا في تجارة الحبوب.

نداءات للمستثمرين الأجانب

وباختصار، فإن الإنجاز المؤقت الذي حققتها تركيا بفضل جسر الفجوة بين روسيا والغرب بدأ يتلاشى، كما أن عودتها التدريجية إلى السياسة الاقتصادية التقليدية لن تؤدي إلا إلى بعض الفوائد الآنية المحدودة.

وحتى لو أدى التحول في سياستها إلى خفض التضخم واستقرار الليرة، فمن غير المرجح أن تتخلص من العجز التجاري المزمن، كما أنها لن تحل ديون الحكومة التركية (حوالي 31.2% من الناتج المحلي الإجمالي) 

ولذلك، لتسريع إصلاحات الاقتصاد، ستحتاج تركيا إلى جذب الاستثمار الأجنبي، لكن دائرة المستثمرين المستعدين لوضع أموالهم في تركيا محدودة. 

وقال شيمشك، إن تركيا تريد استئناف محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن الكتلة لديها مشاكلها الخاصة مع التضخم والاقتصاد الراكد، وعلى أي حال، يتم قياس اللازم لعملية الانضمام بالسنوات ويمكن أن تواجه تحديات كبيرة.

لكن أنقرة حققت بعض النجاحات من خلال تواصلها الجديد مع دول الخليج. وفي يوليو/تموز، وقع أردوغان على صفقات بقيمة 50 مليار دولار خلال جولة استمرت 3 أيام في الخليج العربي.

كما تبنت تركيا والسعودية مؤخرًا خطة لزيادة التجارة الثنائية ووقعتا مذكرة تفاهم للتعاون في مجال استخراج المعادن المهمة.

لكن قد يصبح العداء المتزايد للأتراك تجاه المهاجرين العرب مشكلة أيضًا؛ ولا تزال البلاد تستضيف ما يقرب من 4 ملايين لاجئ سوري وأكثر من نصف مليون عراقي.

وبدأت السلطات التركية في إزالة اللغة العربية من اللافتات التجارية، وقال وزير الداخلية إنه سيتم استبدال جميع لافتات المتاجر العربية بحلول نهاية العام.

كما لا تحظى طموحات تركيا الإقليمية دائما بشعبية لدى الدول العربية، فعلى سبيل المثال، تشعر مصر والإمارات والسعودية بالقلق من المصالح الاقتصادية لتركيا في السودان ونفوذها المتزايد في منطقة القرن الأفريقي ذات الأهمية الاستراتيجية.

وربما تكون الدولة التي لديها الكثير لتقدمه هي الولايات المتحدة.

وتعد الولايات المتحدة ثاني أكبر وجهة للصادرات التركية بعد ألمانيا. وكذلك فإن الولايات المتحدة مستعدة للاستثمار، خاصة في بلد يستضيف قواعد عسكرية أمريكية مهمة ويلعب دوراً محورياً في المواجهة المستمرة مع روسيا.

وبالإضافة إلى ذلك، تتمتع تركيا بقوة عاملة متعلمة وقاعدة صناعية قوية، ولكنها يمكن أن تستفيد من المساعدة في الانتقال إلى المزيد من الصناعات المتطورة (أكثر من نصف الشركات المصنعة التركية تعمل في منتجات منخفض التقنية)، وهو الأمر الذي من شأنه أن يناسب مصالح الولايات المتحدة أيضًا.

ووفق التحليل، فإن العقبة الرئيسية أمام زيادة الاستثمارات الأمريكية في تركيا هي الحالة السيئة للعلاقات الثنائية.

وقبل شهر من الانتخابات التركية في مايو/أيار، اتهمت أنقرة واشنطن بمحاولة إنشاء دولة إرهابية كردية بالقرب من حدود تركيا، كما شعر أردوغان بالغضب عندما التقى السفير الأمريكي في البلاد بمنافسه السياسي الرئيسي ورئيس تحالف المعارضة.

ومع ذلك، يبدو أن كلا الجانبين مستعدان لطي صفحة هذا الفصل القبيح من العلاقات.

وقد أجرى الجانبان مؤخرًا أكبر مناورات عسكرية مشتركة منذ 7 سنوات، شملت سفنًا حربية وطائرات تركية من طراز "إف-16" وطائرات أمريكية من طراز "إف-18".

كما قام رئيس الشركة المصنعة للمسيرات التركية سلجوق بيرقدار، بجولة على متن السفينة "يو إس إس جيرالد آر فورد"، بدعوة من السفير الأمريكي أثناء زيارة الحاملة لميناء أنطاليا.

ولم تتخل تركيا عن طموحها في التحول إلى قوة كبيرة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ولكن أصبح من الصعب للغاية أن تستمر في مسارها السابق.

فتحت ضغط غربي مكثف، تتجه روسيا نحو آسيا ومجموعة "بريكس"، فتبني طرقاً تجارية تتجاوز تركيا وتصبح أقل تصالحية بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل صفقة الحبوب المنهارة.

ومن ناحية أخرى، ينفذ الفريق الاقتصادي الجديد في تركيا إصلاحات، ولكنه غير قادر على تحقيق المعجزات، فالبلاد تحتاج إلى الاستثمار الأجنبي، والمستثمرون ينتظرون الوضوح، بما في ذلك ما يتصل بالمواءمة الاستراتيجية لتركيا.

المصدر | جيوبوليتيكال فيوتشرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

تركيا الغرب أمريكا روسيا البحر الأسود نفوذ استثمارات