مستقبل العلاقات الخليجية الأمريكية: ما الذي ينبغي على الإدارة الأمريكية المقبلة أن تفعله؟

الجمعة 12 فبراير 2016 06:02 ص

نحن نعيش الآن تلك الفترة التي ستحدد ملامح المستقبل بشأن العلاقات بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي. حتى نكون قادرين على تكوين فكرة حول أفضل السبل التي يمكن أن تتشكل بها العلاقات من وجهة نظر كلا الطرفين، ينبغي أن نلقي نظرة سريعة على أبرز مشاكل الماضي والحاضر ونحن نتعامل مع مسارات محتملة في المستقبل.

كثيرا ما عانت الولايات المتحدة من فقدان الاتجاه الاستراتيجي في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي بشكل مفاجئ. تم أخذ دول مجلس التعاون الخليجي على حين غرة بعد قرار واشنطن مؤخرا بالتقارب مع طهران. حقيقة أن إيران قد كان بمقدورها إنهاء عزلتها دون الاضطرار إلى التخلي عن أي من سياساتها الإقليمية أو العالمية، هو أمر فاجأ كثيرين، حتى في داخل الولايات المتحدة نفسها.

ظهور أحد القوى الإقليمية أو انهيار أحد القوى العالمية هو أمر يشكل تحولا نوعيا له مقاييس وتأثيرات مختلفة، ولكن أهمها ربما يكون الانهيار العنيف للقواعد الراسخة إقليميا أو عالميا. في المراحل المبكرة، يشكل هذا الرحيل محاولات تجريبية تهدف إلى اختبار حدود ما ينظر إليه على أنه توازن جديد للقوى. في نهاية المطاف، فإن الأطراف المعنية تصل إلى «نموذج عمل» بإمكانه استيعاب هذا الواقع الجديد.

عادة، فإن طول هذه الفترة التجريبية يعتمد على عدد من العوامل المعقدة. واحد من هذه العوامل هو هامش حرية الحركة داخل السلطة السياسية في الدول المعنية. في الحالات التي يكون فيها هذا الهامش كبير نسبيا، بسبب نمط الحكم، فإننا نرى أن الخيارات الذاتية تلعب دورا أكبر. عامل آخر مهم هو درجة السيولة في البيئة المحيطة بالوضع.

في الولايات المتحدة على سبيل المثال، فإننا قد شهدنا الكثير من التذبذب في غضون أقل من عقدين، وهو التذبذب الذي بدا واضحا بشكل خاص في حالة إيران بين الحروب والمفاوضات والمواجهة والتنسيق والتهديدات والتنازلات ومجموعة متنوعة غنية من التكتيكات المتناقضة وحتى تغيير الاستراتيجيات. في الخليج، فإننا نشهد حاليا عملية خروج عن النهج الحذر السابق في التعامل مع الأزمات الإقليمية. صحيح أن ذلك لم يحدث سوى تحت تأثير انتهاء عزلة إيران واستمرار السياسة الإقليمية العدوانية الخاصة بها، فإن الربيع العربي قد لعب دورا كذلك عندما خلق فراغا في تكوين الأمن الإقليمي. ومع ذلك، فإن الشعور بأن الولايات المتحدة ليست مستعدة لمواصلة دورها السابق في الترتيبات الأمنية الإقليمية إذا حدث اختبار جدي، والتغير في دوافع واشنطن من الاشتباك في المنطقة، بالإضافة إلى التدخل الإيراني المتزايد، جميعها تمثل الأسباب الرئيسية في نهج التحول في سياسات دول مجلس التعاون الخليجي تجاه محيطها الإقليمي.

تغير موازين القوى

دراسة تغير الموقف الإقليمي للولايات المتحدة وداخل دول المنطقة نفسها سوف يؤدي إلى استنتاج رئيسي واحد، وهو أن الطبيعة السابقة لميزان القوى تشهد تغيرا وبالتالي فإنها تتطلب تغييرا موازيا في مقاربات الأمن في المنطقة. وبعبارة أخرى فإن هناك اثنين من الأمور التي تحدث معا: أولهما نشوء إيران أكثر عدوانية كما يتضح في العراق، سوريا، لبنان، واليمن. أما الثاني فهو تغيير الولايات المتحدة لوجهة نظرها حول كيفية التعامل مع موازين القوى. كل هذا يحدث في واحدة من أكثر اللحظات الحرجة في تاريخ المنطقة الحديث.

وأصبحت هذه الديناميكية أكثر تعقيدا بسبب حقيقة أن الولايات المتحدة كانت، على الأقل بصورة غير مباشرة، عاملا مساعدا في جعل إيران أكثر عدوانية إما عن طريق الغزو الأميركي للعراق أو من خلال رفع العقوبات على إيران دون أي إشارة إلى كبح جماح تدخلها في المنطقة في وقت قريب. سرعان ما أدى هذا الوضع من غياب الولايات المتحدة عن الأحداث الإقليمية إلى توسيع إيران من تدخلها في كل من العراق وسوريا، ثم الانحياز إلى روسيا من قبل الإيرانيين، وتوسيع دورهم في المنطقة لملء الفراغ.

هناك حقيقتان تطلان بوضوح حول تلك السياسة الأمريكية الجديدة. الأولى هي أنه يجري إعادة تعريف قيام الولايات المتحدة بدور الموازن في المنطقة. وثانيهما هو أن دول مجلس التعاون الخليجي سوف تتبع نهجا أكثر عسكرية في الحفاظ على أمنها الإقليمي في ظل وجود مهددات أمنية كبيرة بسبب الربيع العربي وانسحاب الولايات المتحدة والدور العدائي الإيراني المتزايد.

الدور الموازن، والذي تم تحديده سلفا بأنه احتواء إيران وتحمل العبء الرئيسي للأمن الإقليمي هو أحد حقائق السنوات الفائتة. بنيت هذه الحقيقية على أساس من الخبرات المتراكمة، وعقود من المأسسة السابقة. ويبدو الآن أن الأمور قد تغيرت، بينما يبرز سؤال رئيسي في كل أنحاء المنطقة: كيف يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دورا موازنا بين جانبين يشتبكان في صراع مكثف مع بعضهما البعض. وقد كان هناك مجموعة من الأدوات الخاصة التي تستخدم من أجل احتواء إيران، وقد خلقت أرضية لعلاقات وثيقة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون، أما الآن، فإن كل ذلك يذهب إلى ضباب.

من الناحية النظرية، فإن الدور الموازن لا يعني الحياد بالضرورة. إذا جرى فهم الأمور على نطاق أوسع، فإنه يعني الاتفاق على مجموعة من القواعد التي تحدد موازين القوى في المنطقة. حينما لا تقوم الولايات المتحدة بوضع أي قواعد محل اتفاق مع القوى الإقليمية بشأن موازين القوى في المنطقة، فإن ذلك من شأنه أن يعني أن الولايات المتحدة قد قررت أن تستقيل طوعا من دورها كقوة عالمية وأن تسمح للدول الإقليمية والقوى العالمية الأخرى مثل روسيا بمحاولة تشكيل المنطقة وفق مصالحهم مثلما تفعل إيران في سوريا أو العراق.

التأكيدات الشفهية ومبيعات الأسلحة لا تساعد بشكل كبير في ذلك. وقد أصبح من الواضح أن الأمور في جوهرها لن تحتمل أن يكون هناك توازن بحت بين الجانبين في صراع لا بد أن يصنف فيه الجميع كحليف أو حليف محتمل. فهم العرب بسرعة أن الضمانات الأمنية الأميركية قد أصبح مشكوكا فيها في أحسن الأحوال. الولايات المتحدة لم تظهر أي حساسية للديناميات جديدة وذلك بفعل العديد من العوامل بما في ذلك الإجراءات الخاصة بها (غزو مثل العراق والاتفاق النووي). وكانت الولايات المتحدة تظهر مرارا وتكرارا أنها تركز على التفسيرات القهرية قصيرة المدى ليس فقط فيما يتعلق بالوضع الإقليمي، ولكن حتى في تعاملها مع مصالحها طويلة الأمد.

سياسات جديدة

لا يتم إنشاء السياسات في فراغ من خلال العمل الذهني لشخص عبقري أو حتى مجموعة من العباقرة. ولكن يتم إنشاؤها للتعامل مع مجموعة من الأوضاع القائمة المحددة والنظر في المصالح والأهداف الوطنية لواضعي السياسات. وفي حالة دول مجلس التعاون الخليجي، فإن هناك حاجة ماسة إلى وضع سياسة تضع بالاعتبار تغير دور الولايات المتحدة، إضافة إلى طموحات إيران الإقليمية العدوانية، والعلاقات التي تأسست حديثا بين أمريكا وإيران، والتأثير العميق للربيع العربي على بنية الأمن الإقليمي.

ما نراه الآن هو في الواقع الفترة الانتقالية، لكلا الطرفين، حيث يقوم كل طرف بتجربة مجموعة متنوعة من الأدوات والتكتيكات الجديدة.

لا عجب إذا أن هناك المئات من الأوراق الثمينة التي تقدم مقاربات مختلفة لإعادة بناء العلاقات الخليجية الأمريكية عبر استيعاب التغيرات في المنطقة إضافة إلى الدور الإيراني. إنها مسألة صعبة، ونحن بحاجة إلى إعادة تعريف دور الموازن. في عصر ما بعد الربيع العربي، والذي لا يزال يحمل صور الثورات الأخيرة، لا بد أن تؤخذ مثل هذه الأمور بعين الاعتبار. الطبيعة التجريبية لهذه اللحظة في كلا الجانبين يجب أن يتم التفكير فيها بعناية فائقة حيث يبدو أن هامش الخطأ المحتمل قد تقلص إلى حد كبير.

ولكن هناك شيء واحد واضح رغم كل شيء: وهو أن الشفافية في مثل هذه الأمور تعد أمرا بالغ الأهمية. عندما يكون المشهد ضبابيا فإن المرء لا يعرف على وجه التحديد ما يمكن توقعه. نحن في وقت نواجه فيه بشكل يومي مزيجا من سوء الفهم، وخيبات الأمل والشكوك. ولعل ذلك يفسر أسباب ارتفاع الطلب على نظريات المؤامرة في الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة.

بعض الآراء المتداولة الآن في هذا الصدد تدعو إلى تخفيض العلاقات ين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي. وهم يستندون في ذلك إلى أنه في عهد النفط الوفير، حيث صارت الولايات المتحدة أحد أبرز المنتجين للنفط عالميا ومع وجود نشط لإيران، فما الذي يجعل الولايات المتحدة بحاجة إلى العرب الذين يقدمون على الإرهاب العالمي، والأصولية الدينية، والحروب، والعديد من المشاكل الأخرى؟

يمكنك أن تنظر إلى الأمر من أي زاوية شئت، ولكن في كل حال، ستبقى العلاقات ما بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي مهمة جدا للمصلحة الوطنية لكلا الطرفين. بسبب هيمنة الإرهاب والطائفية والأصولية على الشرق الأوسط، فإن المنطقة تحتاج إلى دور الولايات المتحدة كموازن للقوى عبر وضع مجموعة من القواعد الأساسية المتفق عليها بين القوى الإقليمية.

يمكن أن يظهر الدبلوماسيون في الولايات المتحدة ودول الخليج معا بالقدر الذي يريدون ويقومون بالتصافح بالأيدي ويكررون الشعارات المعتادة حول الشراكة المتينة أو الصداقة التي لا تتزعزع. ومع ذلك فإن أي جولة في المنطقة تكشف على الفور أن فقدان مصداقية الولايات المتحدة، والتي تفاقمت بسبب سياسات الرئيس «أوباما»، تبدو في أعلى مستوياتها.

التحليل الواضح والشفاف لأسباب النقص في هذه الثقة هو الطريقة الصحيحة الوحيدة لاستعادة الثقة المفقودة بين الجانبين. وينبغي أن تستند أي سياسة جديدة على درجة من المرونة لاستيعاب الحقائق الجديدة في المنطقة، وعلى مجموعة من القواعد الواضحة لتنظيم العلاقات الإقليمية والإدارة الجماعية للأزمات الإقليمية.

وهذه ستكون واحدة من أولى مهام الإدارة الجديدة في واشنطن.

ومن المضحك كيف أن التغيير في الإدارات في أوروبا على سبيل المثال لا يترتب عليه أي تغيير عميق في ترتيب الأولويات والاستراتيجيات الخاصة بمصالحنا الوطنية. فقط في الولايات المتحدة، هناك هذا المفهوم الخاطئ حول الفصل بين الوسائل والأهداف بطريقة هندسية تقريبا. بالنظر إلى عمق الأمور، يمكن للمرء أن يرى بسهولة أن الوسائل والأهداف لا يمكن فصلها بهذا الشكل الرياضي. غزو العراق، باعتباره وسيلة، قد أحدث تغييرا عميقا في منظومة الوسائل والاستراتجيات لا يزال صداه قائما إلى الآن.

لقد حان الوقت لدول مجلس التعاون الخليجي أن تضع على جداول واشنطن مجموعة واضحة من القواعد المقترحة بناء على المعايير الدولية لعدم التدخل، كما حان الوقت للولايات المتحدة لتدرس عن كثب ما ارتكبته من أخطاء في خلال السنوات الـ 16 الماضية الطويلة.

  كلمات مفتاحية

الولايات المتحدة السعودية إيران دول الخليج العلاقات الخليجية الأمريكية

«فورين بوليسي»: لماذا ينبغي على واشنطن أن تكف عن العبث بالشرق الأوسط؟

«ستراتفور»: لماذا لا تستطيع الولايات المتحدة مغادرة الشرق الأوسط؟

«الاحتواء الجديد»: استراتيجية أمريكية للأمن الإقليمي بعد الاتفاق النووي

مخاوف الخليج التي لا يفهمها «أوباما» .. لماذا قررت السعودية الاعتماد على نفسها؟

الإدارة الأمريكية تبحث كيفية تهدئة مخاوف الخليج من اتفاق نووي مع إيران

مشكلـة واشنطن في الردع الذاتي في سوريا

«أردوغان»: طريقة تعامل إدارة «أوباما» مع الأزمة السورية أزعجنا