الإنفاق الرشيد وكيف يكون الترشيد

الخميس 31 مارس 2016 07:03 ص

بقدرة قادر صار مصطلح ترشيد الإنفاق يعني التخفيض، والتخفيض فقط. وساد الاعتقاد بأن الحاجة إلى هذا الترشيد أو التخفيض مطلوب عند وقوع الأزمات أو عند انخفاض الإيرادات. أما في فترات الرواج والانتعاش فلا مانع من إنفاق المزيد ولا داعي لما يسمى بالإنفاق الرشيد.

هذا الفهم الخطأ للعلاقة بين النفقات والإيرادات يترك آثاراً غير محمودة على الاقتصاد. أولها الربط غير المقبول بين أحجام وتدفقات الإيرادات، وفيها ما فيها من تذبذب وتقلبات حسب طبيعة مكوناتها. وبين النفقات التي تتجه دائماً إلى الزيادة بنسب يمكن بل يجب أن تكون محددة ومدروسة في ظل سياسة مالية رزينة تنعكس على تخطيط الموازنة في بنودها الجارية ومشاريعها.

إذا تركنا الإيرادات تقود عنان الإنفاق فترفعه عالياً حين تزيد، وتطيح به أرضاً حين تنخفض، فلا تستغرب ما ستشاهده من تقلبات وحركات بهلوانية في مؤشرات النمو والتضخم ونسب السيولة والاقتراض. أما العلاقة السوية بين الإيرادات والنفقات فهي تخطيط الإنفاق استناداً إلى معايير علمية تتسم بالكفاءة والفاعلية وترتبط بمقاييس كمية في جانبي المدخلات والمخرجات سواء في البنود الحتمية المتعلقة بالأجور والتعاقدات والتزامات الدين وما إليها. أو بنود المشاريع والنفقات الرأسمالية التي تتطلب، إضافة إلى ما سبق، الـتأكد من جدواها الاقتصادية. 

هذا التخطيط للإنفاق ينتج عنه المنحنى المتصاعد الذي يتزايد بنسب محسوبة ومستهدفة، فإذا توفر حجم من الإيرادات يزيد على ذلك فهو فائض يجب توجيهه إلى الاستثمار وبناء الاحتياطيات الاستراتيجية في الصناديق السيادية وهو، أي الفائض، ليس مبرراً لزيادة الإنفاق بما يخالف المعايير التي ذكرناها مهما قيل عن فوائد ومنافع زيادة الإنفاق الحكومي وتأثيره الإيجابي في النشاط الاقتصادي طالما أنه مدفوع بارتفاع الإيرادات وغير محكومٍ بمعايير الإنفاق الرشيد. وعندما تأتي الأوقات الصعبة التي تنخفض فيها الإيرادات إلى مستوى يقل عن حجم الإنفاق المطلوب، يتم الاستعانة بما تم بناؤه من احتياطيات استراتيجية مستثمرة إما بالسحب منها أو بالاقتراض إذا كانت كلفته أقل من عائد الاستثمار في الصناديق السيادية، لكن حين لا يكون الإنفاق رشيداً وفق معايير مدروسة فإنه سوف يبقى تابعاً للإيرادات يزيد بارتفاعها فنستبشر بالانتعاش والنمو والرواج، وينخفض بانخفاضها مسبباً ضرراً بالغاً لمتطلبات النمو الاقتصادي اللازم لمواكبة النمو السكاني وللمحافظة على المكتسبات التي تم تحقيقها في السابق في مجال البنية التحتية وغيرها من القطاعات الأساسية كالتعليم والصحة والأمن والدفاع وغيرها. وفي هذه الحالة لا يكون للترشيد سوى معنى واحد هو التخفيض.

هكذا يبدو جلياً أن الإنفاق الرشيد هو كلمة السر في الإدارة الحكومية الناجحة للاقتصاد فما هو الإنفاق الرشيد، وكيف يكون الترشيد؟

المدلول اللغوي لكلمة الرشد أي الحكمة والنضج ووضع الأمور في نصابها في كل التصرفات ومنها الإنفاق، الذي يعني إنفاق المال العام بالقدر الصحيح للغرض الصحيح لتحقيق المردود المناسب، الذي يمكن أن يكون على شكل عائد مادي أو منفعة اجتماعية. أي أن الأولوية في الإنفاق الرشيد للكيف وليس للكم، وعلى هذا الأساس يمكن أن يكون الإنفاق رشيداً ليس فقط عند وجود الفائض أو في حالة التوازن بل حتى في حالة العجز عندما يزيد حجم النفقات عن حجم الإيرادات طالما أن اعتمادات الإنفاق تم تخصيصها وفق معايير الإنفاق الرشيد، التي تتلخص في ما يلي:

أولاً: إنتاجية النفقة العامة أو الجدوى الاقتصادية للنفقة العامة، التي تتحقق عندما يكون العائد المادي أو الاجتماعي لأي درهم يتم إنفاقه لا يقل عن درهم. والتحدي هنا يكمن في ضرورة إعداد الدراسة الجادة لجدوى الإنفاق والقدرة على قياس القيمة المادية للمنفعة الاجتماعية علماً بأن الأدوات العلمية اللازمة لهذه الدراسة، وذلك القياس موجودة ومعروفة لأصحاب الاختصاص.

ثانياً: تطوير معايير تخصيص النفقات بغض النظر عن نوع أو اسم الموازنة سواء أكانت الموازنة للبنود أو البرامج أو الأداء أو غيرها فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء. المعايير الجيدة هي التي تؤدي إلى تقدير الحد المناسب للنفقة، بحيث ينطبق عليها المفهوم الذي ذكرناه للنفقة الرشيدة. هذه المعايير يمكن تطويرها من خلال مداخل عدة أهمها مدخل ضبط التكاليف وفق الأسس والمعايير العلمية في المالية والمحاسبة. في هذا الصدد فإن محاسبة التكاليف إذا أمكن تطبيقها ضمن المحاسبة الحكومية، تسهم في تحقيق هذا الغرض إضافة إلى المقارنة بالتكاليف المعيارية المستندة إلى معايير تاريخية وفنية. 

والمدخل الثاني هو مدخل القيمة ويتمثل في التأكد من تحقيق القيمة العادلة أو القيمة الأفضل للنقود، وذلك من خلال حساب نسبة القيمة إلى الكلفة، بحيث تكون النسبة أكبر من أو تساوي واحداً صحيحاً وهذا المدخل يتطلب إتقان مهارة حساب القيمة خاصة في الحالات التي تكون المنفعة المقصودة منفعة اجتماعية أو معنوية ليس لها أي سعر في السوق.

أما المدخل الثالث فهو مدخل تحليل المخاطر، حيث إن الهدف من النفقة تحقيق عائد مادي أو اجتماعي و لا يوجد عائد دون مخاطر. والمخاطر هنا إما أن تكون الإخفاق أو الفشل في تحقيق الهدف المحدد للنفقة أو في دفع مبلغ أكبر من المبلغ المناسب. والمهم أن الإدارة الفاعلة للمخاطر تتطلب قياسها بمقاييس كمية وليس بالنقاط أو الدرجات أو العلامات من واحد إلى خمسة. المقياس الوحيد الصحيح للمخاطر هو احتمال وقوعها، وهذا يتطلب المهارة والقدرة على تحليل وحساب الاحتمالات. ثم تقرير ما إذا كانت المخاطر المحسوبة ضمن الحد المقبول أو تزيد عليه وفقاً لمعايير فنية وتاريخية، وقد تكون لها مرجعية على نطاق عالمي في القطاعات الاستراتيجية، مثل قطاع الطاقة والنقل والاتصالات وغيرها.

وأود التأكيد أن الأساليب والمعايير التي أشرت إليها تمثل جوهر عملية تخطيط النفقات، ويمكن تطبيقها مهما كانت التسميات المستخدمة للموازنة. ودون هذه المعايير يكون الفرق بين أنواع الموازنات المتعددة مجرد اختلاف في الأشكال والأسماء.

إن تخطيط الإنفاق بالأسلوب الذي ذكرناه يقود حتماً إلى الإنفاق الرشيد ويتحرر معناه من مجرد التخفيض إلى المدلول الحقيقي للترشيد. وبدلاً من أن يكون ترشيد الإنفاق حالة طارئة نلجأ إليها في أوقات الشدة، يصبح الترشيد استراتيجية دائمة لا تقل الحاجة إليها في حالات الرخاء والوفرة عنها في الأزمات وحالات الندرة.

* د. عماد ملكاوي خبير اقتصادي مدير ترند كاست للاستشارات.

  كلمات مفتاحية

الإنفاق الرشيد ترشيد الإنفاق الأزمات انخفاض الإيرادات الرواج والانتعاش