لماذا تعادي «أوروبا العلمانية» الإسلام أكثر من «أوروبا المسيحية»؟

الجمعة 15 أبريل 2016 12:04 م

أثناء زيارتي إلى أوروبا هذا الأسبوع سوف أذهب إلى أحد تلك الأماكن التي تواجه تدفقات اللاجئين المسلمين في نفس الوقت الذي تعاني فيه أعمالا إرهابية ترتكب من قبل بعض المسلمين. بمعنى ما، فإن تلك قصة قديمة جدا. غزا المسلمون أوروبا خلال القرن الثامن وقاموا بالاستيلاء على أسبانيا ودخول فرنسا. غزا المسلمون أيضا أوروبا من الجنوب الشرقي، ووصلوا إلى فيينا خلال القرن السابع عشر. في المقابل، فقد غزت أوروبا أراضي المسلمين أثناء الحروب الصليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. تشهد أوروبا اختراقات أخرى خلال القرنين الـ19 والـ20 ولكن هذه الاختراقات مصحوبة بهجمات أقل، وقدر أكبر من التدفقات السكانية.

وبهذا المعنى، فإن عمر هذا الصرع يمتد إلى أكثر من ألف عام مع تحركات لا نهاية لها واحتكاكات كبرى في كثير من الأحيان. لقد كان هذا الصراع أساسا بين ديانتين ترى كل منهما أسسها في كتاب اليهود، العهد القديم، لكنها توسعت على أسس جديدة ومتناقضة في بعض الأحيان. لدى كل منهما الكثير من الأتباع وتسيطر كل منهما على مساحات شاسعة من الأراضي. في الصراع بين المسيحيين والمسلمين، فقد خسر كلا الطرفين في بعض الأحيان وفازا في أحيان أخرى لكنها أحدها لم يكن قادرا على إلحاق هزيمة حاسمة بالآخر.

ما نحياه الآن يبدو إذن مرحلة ثانوية في صراع مستمر. ولكن هذه المرحلة تحمل اختلافات أساسية. كانت كل الصراعات السابقة بين المسيحيين والمسلمين، ولكن في هذه المرة يبدو الأمر مختلفا. في أعقاب الحرب العالمية الثانية فقد أعادت أوروبا تعريف نفسها. لقد كانت مسيحية وقتذاك، ولكنها الآن علمانية رسميا. وبالتالي هذا هو صراع بين التدين الإسلامي والعلمانية الأوروبية. وهذا يجعل ديناميات الصراع مختلفة.

احتضنت أوروبا مبادئ التنوير الفرنسية التي ترى أن الدين هو مسألة خاصة تماما لا يجب أن تصبح جزءا من الحياة العامة. اعتقاد أن الإسلام والمهاجرين والإرهاب هي الأمور ذاتها هو اعتقاد متجذر في الفهم المعقد للتنوير الأوروبي.

أصبحت أوروبا علمانية بشدة أكثر من الولايات المتحدة. لا يجب أن يفاجئ أحد بذلك حيث إن أوروبا قد شهدت مركز التنوير. كانت أوروبا يوما ما قارة مسيحية إلى أن أصبحت المسيحية مسألة خاصة ينظر إليها على أنها نظام ضمن أنظمة عديدة سائدة للاعتقاد، في وجود مجال عام يلتزم الحياد في مثل هذه المسائل.

بالطبع فإن مثل هذا الحياد هو أمر مستحيل. تبدو احياة العامة مستحيلة من دون بعض المبادئ الأخلاقية المشتركة. تزدحم الحياة العامة الأوربية بأمثال هذه المبادئ المستمدة عادة من كلاسيكيات الثورة الفرنسية مثل الحرية والإخاء والمساواة وتعني حق المواطنين في العيش كما يشاؤون، وأن يعاملوا على قدم المساواة في ظل القانون، وأن يحيوا كأخوة دون أن يستعبد أحد. هذه القيم معقدة بطبيعة الحال، ولكن الأكثر إثارة للاهتمام بشأنها أن تستبعد أكثر مما تضم. إنها تستبعد أي ذكر لله عموما وللمسيح على وجه الخصوص. وبعبارة أخرى، في تحييد المجال العام، فقد صارت جميع الأديان متساوية وأصبحت القيمة العليا لاحترام الحياة العامة.

الأديان أيضا هي حركات سياسية بمعنى من المعاني لأنها تقوم بإعادة تشكيل الأمور الخاصة مثل الضمير والواجب من أجل تحديد شكل التصرف الديني في الحياة العامة. المعتقدات الخاصة بالمسيحية، أو بأي دين آخر، تتطلب في نهاية المطاف العمل العام وتدعيم القيادة الإيمانية من أجل تحقيق مطالب سياسية. لذلك، فإن مطلب وقف الإجهاض اليوم يعد أحد امتدادات العقيدة المسيحية والذي لا يمكن تأطيره ببساطة كمعتقد خاص. الاعتقاد يتطلب عملا سياسيا.

هذا النوع من العمل لا يتصادم فقط مع الواجب الأخلاقي للحياد العام، ولكن مع كامل هيكل القيم المستمدة من عصر التنوير. بمعنى من المعاني، قيم التنوير هي أكثر تطرفا من القيم الدينية. إنها لا تعترض فقط على جدول الأعمال السياسي الديني، ولكنها تفرض أيضا على المتدينين ألا يعبروا عن مواقفهم السياسية. حتى من ناحية أن جميع الأديان متساوية، فإن ذلك يتطلب أيضا أن تكون غير سياسية، بما في ذلك المسيحية، التي كانت جزءا لا يتجزأ من الحياة العامة في أوروبا.

تعقيدات موقف أوروبا تجاه الدين هي جزء لا يتجزأ من التعقيدات تجاه هجرة المسلمين واسعة النطاق. تعاطى العالم الإسلامي مع العلمانية في نهاية القرن العشرين ولكنه ظل في نهاية المطاف متدينا وقد شدد من موقفه الإسلامي. الإسلام في نهاية المطاف، شأنه شأن المسيحية، هو حركة سياسية لا تتوافق مع تمييزات عصر التنوير المعقدة بين الفضاءات العامة والخاصة وبين إيمان الفرد وعقيدة المجتمع. مستوى العنف والبعد العسكري لم يظلا كما كانا عليه في الماضي، ولكن هذه المواجهة بين ما يمكن أن أسميه «العلمانية المتطرفة» والإسلام هي في نواح كثيرة أكثر تعقيدا.

من وجهة نظر علمانية، لا يوجد شيء يفصل بين أوروبا والمسلمين طالما أنهم يفصلون بين الحياة العامة والخاصة وبين معتقداتهم الشخصية وبين المشاركة في المجتمع. بالنسبة للمسلمين، فإن تلك الفروق تبدو غريبة. بالنسبة إلى العلمانيين، فإن العالم الخاص لا يعني فقط عالم الدين ولكنه يشكل أيضا عالم المتعة. في نهاية المطاف فإن مذهب المتعة هو جزء من العلمانية. بالنسبة للمسلمين، فإن الحياة الخاصة هي عالم من الانضباط الشخصي بعيدا عن المتعة، ويجب أن يمتد هذا الانضباط إلى الحياة العامة أيضا.

هناك تماثل بين المسيحية والإسلام. كلاهما ينظر إلى الحياة العامة والخاصة كجوانب مختلفة لذات الوجود. كل منهما ينظر إلى مذهب المتعة باعتباره مشكلة يجب حلها وليس خيارا ينبغي اتخاذه. كلاهما كانا تبشيريين بمعنى ما. بالطبع فإن العلمانية الحديثة هي تبشيرية كذلك وبخاصة إذا نظرنا إليها من زاوية اعتقادها بأن الأفكار العلمانية حول حقوق الإنسان يجب أن يتم احترامها في جميع أنحاء العالم. وهذا هو المكان الذي تتحد عنده المسيحية والإسلام والعلمانية وهي أن كل منها يخوض نضالا من أجل نفوس الآخرين.

مفهوم المساواة، بين المؤمنين وغير المؤمنين، وبين الرجال والنساء، وبين الطبيعيين والمثليين جنسيا هو صميم العلمانية السياسية. تحظر العلمانية أو تسعى إلى حظر أي خطاب عام يرفض هذه المبادئ من خلال تضمينها ضمن أسس دستورية. الأهم من ذلك هو أن العلمانيين يرون أن استخدام القوة هو أمر مقبول لإنهاء الظلم الذي يعرف بأنه انتهاك للحرية والمساواة. ومن هذا الوجه فإن العلمانية تبشيرية كما ذكرنا. ولكن هناك أيضا فارق عميق. المسيحية التقليدية والإسلام ليسا متصارعين في عقائدهما التبشيرية ولكن العلمانية لا يمكن أن تكون بذات المباشرة في الوقت الذي تسعى فيه للموازنة بين الدفاع عن حقوق الأشخاص المختلفين وفي ذات الوقت تهميش أولئك الذين لا يوافقون على هذا الاختلاف.

ولذلك فإن العلمانية هي دين ناشئ بمفهوم ما وهو لم يتعلم بعد كيف يقوم بمهام السلطة السياسية بأمان. هذا يضعه في موقف الدفاع الفكري ضد الإسلام بطريقة لم تكن عليها المسيحية. المسيحية تتفهم الإسلام بطريقة لا يمكن للعلمانية تفهمهما. كان المسيحيون والمسلمون أعداء على مر القرون وفي ذات الوقت التي تدعي فيه العلمانية أنها تحترم الإسلام، فإنها تقوم بالتغول على قيمه ومبادئه. في مواجهة معقد، يبدو من الأفضل أن تظهر اتفاقك مع معتقداته بأناقة.

بالنسبة إلى الجزء الأكبر من العلمانيين، فإن كثيرا منهم غير راض عن تلك الحساسية المفرطة المضادة للعلمانية التي يبديها اليمين الأوروبي وما يصاحبها من كراهية الأجانب وقمعهم. يجب على العلمانيين أن يجدوا طريقة للتعامل مع الإسلام الذي يتشاركون ذات النهج في التعامل معه مع اليمين في ذات الوقت الذي لا يرغبون أن ينظر فيه إليهم على أنهم قمعيون ومعادون للأجانب. لا يوجد حل بسيط لتلك المشكلة السياسية التي تضرب قلب أوروبا. أوروبا علمانية ولدى العلمانية الكثير من الفضائل إلا أن الفاعلية في تحديد العدو ليست واحدة منها. العلمانية قد لا تتقن بعد التعامل مع تناقضاتها ولا أتوقع أن أحدا سوف يكون قادرا على إقناع العلمانيين بإدراك هذه التناقضات في وقت قريب.

  كلمات مفتاحية

أوروبا العلمانية المسيحية الإسلام إسلاموفوبيا التدين اللاجئين العالم الإسلامي

كيف يهدد الخطاب المعادي للإسلام الأمن القومي الأمريكي؟

بين «العلمانية» و«دين الدولة»

صعود الإسلاموفوبيا .. الراهنية والأسباب

لماذا «العلمانية» ليست «الحل»؟

تحالف الإسلاموفوبيا والثورات المضادة

الحرب على الإرهاب.. وتأجيج «الإسلاموفوبيا»!

الإسلام كجزء من أوروبا