استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

الشيخ محمد بن راشد: الهجرة المعاكسة للعقول

الاثنين 9 يونيو 2014 04:06 ص

الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

في عام 1968 وأثناء سنوات دراستي في كلية مونز العسكرية في بريطانيا، احتجت لمراجعة المستشفيات التخصصية، ولمفاجأتي كان طبيبي المعالج يتحدث العربية فعرفت أنه من أصل عربي وأن قدومه للعاصمة البريطانية كان حديثاً، فسألته عن حياته وإن كان ينوي البقاء طويلاً أم العودة قريباً لوطنه، فقال لي: «وطني حيث لقمة عيشي».

بقيت هذه الكلمة عالقة في ذهني طويلاً، مع كل ما تحمله من تناقضات نفسية وفكرية مع مفهوم الوطن وواقع صعب يدفع أفضل العقول في عالمنا العربي للاتجاه إلى أصقاع الأرض كافة بحثاً عن وطن جديد وفرص جديدة وآمال حقيقية.

لعقود طوال عانت منطقتنا العربية والكثير من دول العالم الثالث الدوران في حلقة مفرغة وصعبة من الجهود التنموية، حيث تصرف هذه الدول الكثير من مواردها لتعليم وتخريج الكثير من المهندسين والأطباء والباحثين والعلماء أملاً في أن يساهموا في صنع واقع أفضل، ولكن لصعوبة الواقع الذي يجدونه بعد التخرج تهاجر آلاف العقول إلى الدول المتقدمة بحثاً عن فرص أفضل، لتبقى أوطانهم تدور في نفس الحلقة ولتبقى البلدان المتقدمة هي المستفيد الأكبر من أفضل المواهب والعقول القادمة من هذه الدول.

لا نستطيع بأي حال من الأحوال في هذه الظاهرة التي عرفت ب"هجرة العقول" أن نلوم من يهاجر بحثاً عن حياة أفضل له ولعائلته، وبحثاً أيضاً عن بيئة خصبة تساعده على النمو والتطور واستغلال إمكاناته ومواهبه وقدراته بالشكل الأفضل والأمثل، ولا نلوم أيضاً البلدان المتقدمة التي فتحت أبوابها ومعاملها ومختبراتها ومستشفياتها لهذه العقول المهاجرة، فكل دولة لها الحق الكامل في استقبال واحتضان من ترى أنه سيضيف شيئاً لتطورها وتقدمها وتطوير علومها واختراعاتها وخدماتها التي تقدمها لمواطنيها.

ومع المزيد من التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة أصبح العالم قرية صغيرة، وتساقطت الحدود الجغرافية أمام المواهب، وزاد الطلب على أفضل العقول مع زيادة التنافس والتسابق بين الأمم والشعوب، وزادت هجرة العقول لأكثر من 30% خلال السنوات العشر الماضية فقط حسب إحصاءات الأمم المتحدة، كما دفعت الظروف الصعبة المزيد من العقول لطلب الهجرة بحثاً عن فرص أفضل، ولكن الصورة ليست قاتمة دائماً، والتاريخ لا يسير في اتجاه واحد فقط، والعالم ليس مكاناً ثابتاً بل إن سرَّ تجدد حضاراته هو في تغيره المستمر.

طالعتنا دراسة صدرت مؤخراً عما يمكن أن نقول إنه بداية لكسر الحلقة وتغير الاتجاه في هجرة العقول، حيث أصدرت شركة «لينكد إن»، وهي أكبر تجمع إلكتروني مهني في العالم يضم أكثر من 300 مليون مهني في كافة التخصصات ومقرها الولايات المتحدة - دراسة عن هجرة العقول وحركتها بين مختلف دول العالم، حيث قاست الشركة عن طريق قاعدة مستخدميها حركة العقول والمواهب بين الدول ما بين دخولها وخروجها، ثم صنفت أكثر من 20 دولة ما بين الرابحين والخاسرين في التنافس لاستقطاب هذه العقول وكانت المفاجأة بأن الدولة الأولى في العالم في استقطاب المواهب هي دولة الإمارات العربية المتحدة، كما جاءت أيضاً مجموعة من الاقتصادات الصاعدة في المقدمة مثل البرازيل والهند وجنوب إفريقيا والمملكة العربية السعودية جنباً إلى جنب مع سنغافورة وسويسرا وألمانيا في الأكثر استقطاباً للعقول، وكانت أكثر الدول المصدرة للعقول حسب نفس الدراسة هي إسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا وإيرلندا.

وكانت هجرة العقول إلى دول العالم الأول أقل من ثلث المجموع خلال فترة الدراسة التي غطت سنة كاملة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 إلى نوفمبر/ تشرين الثاني ،2013 في حين استحوذت الدول الصاعدة على نصيب الثلثين.

ظاهرة هجرة العقول التي عانتها الكثير من الدول أصبحت اليوم تأخذ اتجاهات عالمية مختلفة وجديدة، اتجاهات تتماشى مع تغير موازين القوى الاقتصادية، وتغير حجم ونوعية الفرص المتاحة وتغير حركة الاستثمارات واتجاهات النمو العالمية.

ولا أقول في هذا المقال أو أزعم إن الصورة الكاملة قد تغيرت، أو إن الدول المتقدمة تراجعت عن استقطاب المزيد من العقول، فما زالت الكثير من الدول وخاصة في إفريقيا مثلاً تعاني هذه الظاهرة بشكل كبير، وما زال أغلب عالمنا العربي بظروفه وصراعاته وتوتراته التي لا تنتهي بيئة غير جاذبة بل وطاردة للعقول . لكن ما أقوله هنا إنه يمكن للكثير من الدول الخروج من هذه الدائرة البائسة في هجرة العقول التي هي أساس في التنمية، ويمكن لهذه الدول أن تفعل ذلك سريعاً، وحلول دولة الإمارات في المركز الأول عالمياً في استقطاب العقول - كنسبة مئوية - يمكن أن يعطي نموذجاً يمكن البناء عليه أمام الكثير من الدول الأخرى سواء في منطقتنا أو في قارات العالم المختلفة .

لعل العامل الأول في استقطاب العقول والمواهب هو إيجاد الفرص، وتوفير البيئة المثالية للنمو والتطور، وتوفير البيئة المثالية أيضاً للاستثمار وإدارة الأعمال، وتوفير أجواء عالية من الشفافية والحوكمة الرشيدة وتساوي الفرص أمام الجميع. ولعل حلول الإمارات في تقارير التنافسية في المركز الثالث عالمياً في الأداء الاقتصادي والثاني عالمياً في سهولة ممارسة الأعمال والأول عالمياً في الكفاءة الحكومية يعطينا مؤشرات عن نوعية البيئة التي تبحث عنها مثل هذه المواهب والعقول.

ولعل العامل الثاني الحاسم في حركة العقول والمواهب بين الدول هو جودة الحياة. كانت نظرة الكثير من المواهب أن جودة الحياة في العالم المتقدم أفضل بكثير وخاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات والبنية التحتية والإلكترونية وغيرها، ولكن اليوم أصبحت الكثير من الدول تقدم مستويات من جودة الحياة أعلى بكثير مما تجده هذه المواهب في بلدانها ما يسهل ويشجع بشكل كبير قرار الانتقال حيث تتوفر الفرص الاقتصادية إلى جانب نمط حياة عالي الجودة.

القدرة على استقطاب أفضل العقول هي أحد النواتج الرئيسية لعمل الحكومات على تحسين ظروف المعيشة ونوعية الحياة في بلدانها سواء لمواطنيها أو للقادمين إليها، وعندما يكون هدف الحكومة تحقيق السعادة للمجتمع فتأكد تماماً بأن السعادة معدية وجاذبة للمزيد من البشر.

لقد عانى عالمنا العربي ظاهرة هجرة العقول، وما زالت الكثير من دوله أيضاً تعاني هذا النزيف المؤسف في أهم ما تملكه من ثروة، ولقد قلنا وكررنا دائماً إن تطوير الإدارة الحكومية هو أحد أهم مفاتيح تطوير قطاعات المجتمع كافة من صحة وتعليم وبنية تحتية وبيئة اقتصادية واستثمارية، ما يوفر مناخاً مناسباً للمواهب كي تزدهر وتنمو وتبقى في أوطانها لتطور وتتطور، وتبني مجتمعها إلى جانب بناء حياة طيبة لهم ولأسرهم.

أعتقد بأننا ما زلنا في بداية الطريق، ولعل هذه الدراسة وغيرها من الدراسات تعطينا لمحة عن المستقبل واتجاهاته، وعن التحولات القادمة وطبيعتها، وعن طبيعة المنافسة وقوتها بين الأمم والشعوب. والأمم العاقلة هي الأمم التي تؤمن بالإنسان وبقيمته، وبأن رأس مال مستقبلها الحقيقي في عقل هذا الإنسان وأفكاره وإبداعاته.

 

(المصدر: صحيفة الخليج، الشارقة، تاريخ النشر: 09/06/2014)

  كلمات مفتاحية

«محمد بن راشد»: منطقتنا العربية مطالبة ببناء سياسات مرنة لاستيعاب التغييرات