الفكر الإصلاحي العربي في مواجهة التنمية العصيّة

الأحد 9 نوفمبر 2014 06:11 ص

من كرم الحلو: تتمتع المنطقة العربية بموارد بشرية ومالية ضخمة، لكن انجازاتها التنموية المحققة ضئيلة ومتواضعة. فما الذي اعاق ويعيق التنمية العربية؟ ولماذا كل ذلك التباطؤ في انجازاتها مقارنة بالموارد المتاحة؟

هذا السؤال الإشكالي ومحاولة الرد عليه يشكل الاطار الفكري والمنهجي للبحث الجماعي: "التنمية الانسانية العربية في القرن الحادي والعشرين"، مركز دراسات الوحدة العربية 2014، حيث عمد فريق من الباحثين لاصدار عدد سادس من تقارير التنمية الانسانية العربية بعد خمسة تقارير ذات محتوى فكري ومعلوماتي رائد، تناول كل قطاع في المنطقة العربية، من اوجه العجز والنقص في الحرية والمعرفة ووضع المرأة، الى تقديم نظرة شاملة عن امن الانسان.

اعتمد الباحثون مفهوم التنمية البشرية كما اكده تقرير التنمية البشرية لعام 2010، وفحواه أن "الانسان هو الثروة الحقيقية لأي امة"، من ثم يكون الاساس في التنمية توسيع الخيارات المتزايدة والمستمرة لهذا الانسان. وقد عرّفها الكتاب بتمكين الفرد والمجتمع، ليس في مجال الصحة والتعليم فحسب، كما افاضت التقارير السابقة، بل في السلطة واتخاذ القرار، خصوصاً ان الانتفاضات اظهرت بعداً آخر للفجوة المتزايدة بين الامكانات والسياسات ـ وهي الفجوة بين شيخوخة السلطة وشبابية المجتمع ـ ليس عمرياً فقط، وانما ايضاً ادراكياً ومعرفياً.

تناول الكتاب اشكالية الفقر في العالم العربي، فرأى انه على الرغم من المكاسب التي حققتها الدول العربية في مجالات الصحة والتعليم، الا ان عدم مساواة الطبقية الحادة ما زالت سمات مميزة للمجتمعات العربية. فالطبقة الوسطى تتلاشى وأعداد الفقراء آخذة في الارتفاع، خصوصاً في الارياف، حتى بات هناك 220 مليون فقير في الاقطار المتوسطة والمنخفضة الدخل، فضلاً عن 14,4 في المئة عاطلين عن العمل. وفي رأي المؤلفين ان مؤشرات الفقر الحقيقية للمنطقة العربية قد تكون كارثية اذا ما استبعدت الدول النفطية الغنية التي لا تتوفر بيانات وافية عن حقيقة الفقر داخلها. وثمة وجه شاب للفقر في العالم العربي، حيث اعلى نسب البطالة عالمياً بين الشباب الذين يمثلون 60 في المئة من العاطلين عن العمل، كما ان هناك نحو 40 في المئة من متخرجي الثانويات والجامعات لا يجدون فرص عمل، ما يؤدي الى هجرة كثيفة. اضافة الى ذلك لا تزال المنطقة العربية تعاني من ارتفاع معدل الامية الذي يقارب الـ30 في المئة عموماً، والـ40 في المئة في الدول الاقل نمواً.

واذا كانت تقارير التنمية الانسانية السابقة قد سلطت الضوء على العوامل التي تعيق حصول النساء على قدر متساوٍ من الفرص في مجالات الصحة والتعليم والعمل والتمثيل في الحياة العامة، الامر الذي يحول دون اسهامهن الفاعل في التنمية، وان لم يكن ثمة دليل عملي واضح على ان النساء هن الاكثر فقراً، بمفهوم فقر الدخل، الا انهن يعانين مستويات اعلى من الفقر البشري الذي يعد من أبعاد مقياس التنمية البشرية الثلاثة: الصحة والمعرفة ومستوى المعيشة، ولا تزال مساهمة النساء في القوى العاملة دون 33 في المئة، وهي النسبة الادنى في العالم. واشار التقرير كذلك الى ان نسبة البنات اللواتي يتوقع الا يلتحقن بالمدرسة على الاطلاق تبلغ 80 في المئة مقابل 36 في المئة للصبيان، كما لا تتجاوز مدة بقاء البنات في مدارس اقاصي الريف في كل من اليمن ومصر 4 سنوات.

الى هذا الخلل التنموي يلاحظ الكتاب انتشار سكن العشوائيات التي تتجاوز 50 في المئة من مجموع سكان المدن في الصومال واليمن والعراق ولبنان، وتصل في بعض البلدان الى 80 في المئة، في حين لا يزال النمو السكاني في العالم العربي 2,1 في المئة العام 2010، من اعلى معدلات النمو السكاني على المستوى العالمي ـ 1,2 في المئة في العالم و1,4 في المئة في البلدان النامية. ويتوقع ان يصل عدد السكان العرب الى 598 مليون نسمة العام 2050، يقطن منهم 432 مليوناً في المدن.

مقابل ذلك، يتفاقم الإنفاق العسكري، إذ اشار الكتاب الى ان الدول العربية تحتفظ بنسبة عالية من الناتج الاجمالي للإنفاق العسكري، فهي تنفق على شراء السلاح ما يفوق إنفاقها على التعليم والصحة على عكس البرازيل وتركيا وجنوب افريقيا التي تنفق على التعليم ما يفوق إنفاقها العسكري بما بين مرتين وخمس مرات.

وينبه الكتاب الى الفساد المستشري في العالم العربي فقد حلت خمسة بلدان ضمن الربع الاسوأ في ترتيب الدول المشاركة في مؤشر الفساد لعام 2011 وعددها 183 دولة، بينما تتوزع نصف البلدان العربية في منتصف هذا المؤشر، الامر الذي يعيق تمكين المواطن العربي من تحقيق التنمية المنشودة.

ويتوقف الكتاب امام ظاهرة العزوف عن المشاركة في الانتخابات وضعف او انعدام الرقابة على العمليات الانتخابية، ما يحد من فعالية المؤسسة التشريعية وقدرتها على سن القوانين.

ما يطرحه المؤلفون ازاء كل ذلك الخلل وكل تلك التحديات المربكة هو "التمكين"، اي جعل السلطة ممثلاً لأطياف المجتمع وطوائفه كلها، لتكتسب الحد الاقصى الممكن من الشرعية مقارنة باستخدام الغلو في القسر والسيطرة، وذلك من خلال زيادة حرية الاختيار عند الافراد والجماعات.

والتمكين يجب ان يبدأ من القمة بالحد من التوجه السلطوي المفرط، واعادة توزيع السلطة واصلاح المجتمع، وتوطيد فكرة المجال العام في اطار تعاقد اجتماعي جديد هو نتاج مشاركة اطياف المجتمع كافة، خصوصاً شريحة الشباب. ويتطلب التمكين نظاماً تشريعياً كفؤاً واحزاباً قوية، والا يكون احد فوق القانون. وما الاسلوب الامثل الذي يراه الكتاب لتحقيق ذلك سوى ضمان المشاركة بين الدولة والمجتمع حيث تتعلم كل القوى، بما فيها السلطة السياسية، التكيف مع مطالب الآخرين. على هذا النحو يبدأ التغيير من القمة ليسري في المجتمع، فيعطيه القدوة ويشكل بوصلته.

نرى ختاماً ان الكتاب قد اضاء بصورة شبه شاملة على الاختلالات العصية في التنمية العربية طارحاً تصورات اصلاحية ديموقراطية، يمكن ان تسهم في رأي المؤلفين في تغيير الواقع العربي نحو الافضل. الا اننا نسجل بعض الملاحظات النقدية الاساسية التي تحد من الجدوى المتوخاة من الكتاب:

أ ـ تميز الكتاب بشكل عام بالتسرع والاستعجال والارتباك المنهجي وافتقاد الرصانة الاكاديمية، ما جعله دون تقارير التنمية الانسانية السابقة دقة واحاطة بالواقع العربي.

ب ـ يشدد المؤلفون على اولوية القرار السياسي، وعلى مقولة ان التمكين يجب ان يبدأ من القمة بغية التنسيق والشراكة بين فئات المجتمع وطبقاته كلها في ادارة شؤون الدولة في ظل حكم القانون، وهي المقولة المستهلكة والمستعادة من الفكر النهضوي العربي، حيث تبنى الطهطاوي والافغاني وعبده وسواهم فكرة الحاكم المستبد العادل. الامر الذي يدل على دوران الفكر الاصلاحي العربي في الدوامة ذاتها منذ القرن التاسع عشر الى الآن. فكيف يكون الحاكم مستبداً وعادلاً في الوقت نفسه؟ كيف يتنازل وحاشيته عن الاستئثار بكل مقدرات الدولة ليشرك فيها كل اطياف المجتمع؟

ان تصور ذلك افراط في الطوبى ودلالة على تناقض كبير، انساق اليه المؤلفون بعد ان شددوا مراراً على عزوف الجماهير عن المشاركة في عمليات الاقتراع وعلى ارتهان القضاء والإعلام للسلطات المستبدة ومصادرتها للحراك السياسي والاجتماعي على المستويات كلها، كما نبهوا في الوقت نفسه الى النسب المرتفعة للفقر والامية. فكيف يمكن ان يتصدى هؤلاء في هذه الحال للانخراط جنباً الى جنب مع الحكام في صنع القرار؟

ج ـ الحقيقة التي اغفلها المؤلفون هي ان التغيير لا بد له من مقدمات اقتصادية اجتماعية سياسية معرفية وهو يمر عبر صراع تاريخي محفوف بالعرق والدم، ولم يكن في يوم من الايام منّة من الحاكم الذي يسعى الى البقاء واسرته من بعده في سدة الحكم الى ما شاء الله.

* بهجت قرني وباحثون، "التنمية الانسانية العربية في القرن الحادي والعشرين: أولوية التمكين"، مركز دراسات الوحدة العربية، 2014، 576 صفحة.

المصدر | السفير

  كلمات مفتاحية

البرازيل السلاح الأقصى أفريقيا الفساد المرأة اليمن الانتفاضات الانتخابات

إما الصعود المستمر أو السقوط المدوي!

«فريدوم هاوس»: تونس أول دولة عربية «حرة» .. والسعودية في قائمة «أسوأ السيئ»

التنمية العربية على المحك

الفكر الإسلامي وصناعة الشرق الجديد