”جيش الله“ المصري

الأحد 9 نوفمبر 2014 10:11 ص

أدّى المشير «عبد الفتاح السيسي» صلاة الجمعة في «مسجد قوات الدفاع الجوي» في مدينة نصر في القاهرة، وذلك قبل أسابيع من تاريخ استقالته من منصب وزير الدفاع في 27 مارس/آذار، من أجل خوض غمار حملة انتخابات لرئاسة البلاد أثبتت نجاحها. ورافق «السيسي» في أداء الصلاة الفريق «صدقي صبحي»، القائد العام للقوات المسلحة المصرية في ذلك الحين، وقادة آخرين من الجيش والسياسة والمؤسسات الدينية في البلاد. وألقى «علي جمعة»، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الديار المصرية السابق، خطبة الجمعة. وتوجّه السيد «جمعة» إلى الحشود الجالسة قائلاً: «مصر بلد ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن دون سواه»، وأضاف: «نحن جيش باركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله خير أجناد الأرض ودعا له».

وتؤكد تعليقات «جمعة» على حقيقة بسيطة غالباً ما يسيء المراقبون من الخارج فهمها وهي: أن الجيش المصري، بشكله الحالي، ليس قوة علمانية. فالإسلام متغلغل في صفوف الجيش، تماماً كما هو متغلغل في المجتمع المصري الأوسع. ففي الترويج الذاتي للقوات المسلحة، تعرض الأخيرة نفسها على أنها وريثة قوات «صلاح الدين الأيوبي»، القائد الإسلامي الذي قاوم الصليبيين واحتل القدس في القرن الثاني عشر، والذي تركزت إمبراطوريته في القاهرة. أما في ساحة المعركة، فإن الجيش يستخدم المراجع الدينية بصورة منتظمة، إذ أُطلق على أكبر التمارين المصرية إسم «بدر»، في إشارة إلى المعركة التي دارت في القرن السابع في مكة المكرمة بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه من جهة وقبيلة قريش من جهة أخرى. وفي الخطابات، يتضرع الجنرالات إلى الله والقرآن والنبي لتعزيز الشعور بالشرعية الدينية.

ورغم أن المشير «السيسي» لم يطلق الصحوة الدينية في الجيش، إلا أنه شجّعها من دون شك. فبعد فترة وجيزة من قيام «محمد مرسي»، الزعيم التابع لجماعة «الإخوان المسلمين» والذي أصبح رئيساً لمصر في عام 2012، بتعيين «السيسي» وزيراً للدفاع، كان الإعلام المصري يعج بتقارير تعتبر أن «مرسي» اختاره بسبب تقواه الدينية. (والجدير بالذكر أن زوجة السيسي محجّبة، مما يدعو إلى المقارنة بينه وبين المشير عبد الحليم أبو غزالة، وزير الدفاع السابق، الذي كان متديناً أيضاً على الملأ).

وقد بدا أن «مرسي» يعتقد أن تشارك الروابط الدينية سيكون كافياً لضمان ولاء القائد العسكري الجديد الذي عيّنه، وهو اعتقاد تبيّن بمرور الوقت أنه خاطئ. وفي الواقع، وفي ذلك الوقت طرح بعض المعلّقين والمحللين، مثل الأستاذة السابقة في الجامعة الأمريكية في القاهرة، «زينب أبو المجد»، إمكانية كَوْن «السيسي» نفسه عضواً في جماعة «الإخوان المسلمين». كما برزت مخاوف من أن يقوم «السيسي»، من خلال سلطته المكتشفة حديثاً، بـ«أسلمة»، القوات المسلحة أو بالأحرى «أخونتها».

وفي هذا الصدد، كتب الصحفي والشخصية الإعلامية البارزة وذات التأثير، إبراهيم عيسى، أنه «ستكون كارثة إن وجدنا أنفسنا نشكّل جيشاً مثل الجيش الباكستاني، عناصره يطلقون لحاهم ويخوضون حرباً من أجل تطبيق الشريعة». وعلى الرغم من نفي جماعة «الإخوان» والمسؤولين العسكريين للأمر، إلا أن هذه التهمة تعززت بسبب التقارير التي أفادت بأن «السيسي»، في خلال الأسابيع التي تلت تعيينه، ألغى الحظر المفروض على الصلاة أثناء التمارين العسكرية الذي كان الرئيس السابق «حسني مبارك» قد سنّه. فقد نُقل عنه قوله «صلوا كما تشاءون»، وذلك في خطوة لقيت ترحيباً واسع النطاق من قبل الإسلاميين من جميع الفئات.

أضف إلى ذلك أن خطاب «السيسي» كان مشبعاً بالنواحي الدينية. على سبيل المثال، في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 قال أمام حشد مكوّن، من 1500 من ضباط الجيش والشرطة «إن الله تعالى اختصنا بمهمة عظيمة ألا وهي تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع مصداقاً لقوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، فالشرف الذي منحه الله لنا وهو تأمين الناس من الخوف، لافتا إلى أن هذه مهمة عظيمة جداً جداً يجب على الجميع أن ينتبهوا لها وللتكليف العظيم الذي منحه الله لنا، وألا نكون أبداً سبباً في تخويف الناس». وعلى الرغم من أن «السيسي» ليس أول جنرال مصري يستخدم مثل هذا الخطاب، إلا أن اعتلائه المنصب على يد رئيس تابع لـ«الإخوان المسلمين» يجعل من الأمر وكأنه له تبعيات ذات نطاق أوسع على المصريين. وفي الوقت نفسه تقريباً، أعلن مدير «الكلية الحربية المصرية» في القاهرة أن الكلية ستبدأ، وللمرة الأولى على الإطلاق، بقبول الطلاب الذين ينحدرون من عائلات تابعة لجماعة «الإخوان»، بما في ذلك إبن شقيق «مرسي». يُشار هنا إلى أنه في خلال العقود السابقة، اتّبع الجيش بشكل مستمر سياسة رفض المجندين الذين يتبنون معتقدات دينية أو سياسية بشكل علني، وذلك للحد من اختراق الإسلاميين - الذين يخفون أجندتهم الخاصة - لصفوفه. 

ولكن طوال خدمته كوزير للدفاع، قاوم «السيسي» أيضاً بعض المطالب التي تقدم بها «مرسي» وجماعة «الإخوان المسلمين». إذ سرّبت التقارير معلومات مفادها أن «مرسي» أراد أن يعيّن شخصين آخرين عوضاً عن «السيسي» ونائبه صبحي بسبب رفضهما ضم المجندين من «الإخوان» إلى الجيش. بيد أنه تم التخفيف من أهمية تلك الفكرة بسرعة بعد أن قيل أنها أثارت الاستياء في صفوف الجيش. وفي آذار/مارس، بعد أن حكم القضاء بالسماح لرجال الشرطة بإطلاق اللحى، وهي تُعتبر علامة ظاهرة على التديّن، شدد «السيسي» من جديد على منع أي جندي أو ضابط في الخدمة من إطلاق لحاه. وبحلول صيف عام 2013، كانت العلاقة بين الرئيس والجيش قد تدهورت وأمست غير قابلة للإصلاح، مما أدى في النهاية إلى الإطاحة بمرسي في تموز/يوليو.

وعلى الرغم من أن «السيسي» عارض الجهود التي بذلتها جماعة «الإخوان» لجعل الجيش تحت سيطرتها، يبدو أنه يعتقد بأن الإسلام يجب أن يلعب دوراً أكثر جوهرية داخل المؤسسة القوية. ويعود ذلك جزئياً إلى التنشئة الدينية التي خضع لها «السيسي». فوفق كل ما هو متداول، ترعرع وسط عائلة محافظة في الحي الإسلامي في القاهرة. ولكن يمكن لهذا التوجّه أن يُنسب أيضاً إلى الميل المؤسساتي نحو الدين الذي بدأ في السبعينات، حين كان السيسي جندياً شاباً مبتدئاً. إذ كان الرئيس المصري «أنور السادات» حريصاً على ازدهار الإسلاميين كثقل مقابل للناصريين في البلاد، وبذلك، سمح لهم بكسب موطئ قدم في المجتمع، وبالتالي، بكسب القوات المسلحة. ومع ذلك، ففي الفترة التي تلت الثورة، يبدو وكأن وتيرة هذا الاتجاه قد تسارعت، ولا سيما في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة المدعومة من الجيش تعزيز شرعيتها بعد الانقلاب الذي شهدته مصر العام الماضي وحملة القمع التي تعرضت لها جماعة «الإخوان المسلمين».

لقد نظمت «إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة المصرية»، التي يترأس قيادتها اللواء «محسن عبد النبي»، هذا الجهد إلى حد كبير. فبالإضافة إلى عملها كمكتب إعلامي ودعائي للجيش، تشرف «الإدارة» أيضاً على الأنشطة الدينية، حيث يصبح فعلياً أولئك الذين ينضمون إليها في النهاية، مبعوثين دينيين للجيش. فقد أصبح ضباط «إدارة الشؤون المعنوية» مسؤولين عن مجموعة واسعة من الأنشطة الدينية، من بينها الاجتماع بأعضاء من المجتمعات المسيحية التي تشكل أقلية في مصر، وإلقاء الخطابات نيابة عن الجيش في الأعياد الإسلامية، واستضافة رجال الدين المسلمين في حلقات دراسية حول مواضيع دينية مثل «الإيمان والأمن» أو «سيناء في القرآن»، فضلاً عن تحديد ما إذا كان المجندون قد حفظوا القرآن الكريم، وهو من المؤهلات التي يمكن أن تقصّر من مدة خدمتهم العسكرية الإلزامية، وتنظيم مسابقات تحفيظ القرآن الكريم، وتوزيع المواد الغذائية ووجبات السحور والإفطار في خلال شهر رمضان المبارك، وتنظيم حملات الحج للقوات إلى مكة المكرمة. (ففي هذا الشهر فقط، دفعت "إدارة الشؤون المعنوية" تكاليف وقيادة حملة للحج، شملت ضباطاً ومتقاعدين وعائلاتهم، فضلاً عن عائلات الجنود الجرحى والقتلى خلال العمليات العسكرية). ووفقاً لمجند سابق، تتولى هذه «الإدارة» أيضاً مهمة صياغة الخطب الأسبوعية التي يستمع إليها الجنود أثناء صلاة الجمعة.

ويتماشى نمط الإسلام الذي تروّج له «إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة» مع أهداف رئاسة «السيسي»، التي تحاول فرض صيغة معتدلة من الإسلام تقرها الدولة في مصر. وفي هذا السياق، تحالفت «إدارة الشؤون المعنوية» مع «الأزهر»، المؤسسة الإسلامية العليا في البلاد، بهدف «مواجهة أيديولوجيا راديكالية ونشر الفكر المعتدل والمستنير». كما واستند الجيش على العديد من رجال الدين البارزين، بمن فيهم «سالم عبد الجليل»، و«شريف السيد خليل»، وخالد الجندي، للمساعدة في تبرير سياساته من وجهة نظر إسلامية. 

يُذكر أن «الجليل» و«خليل» يعملان كداعييْن لصالح «إدارة الشؤون المعنوية» بشكل مباشر، ويشاركان بانتظام في النشاطات التي يديرها الجيش، وكذلك يفعل الجندي. ووفقاً لتقرير لصحيفة «نيويورك تايمز»، وصف «سالم عبد الجليل» المتظاهرين المؤيدين لمرسي قائلاً «إنهم بغاة وعليهم أن يتوبوا إلى الله»، بيد أنه تراجع عن تصريحاته بعد تعرضه لانتقادات بسبب تبريره للعنف. (وقد اعترف الجليل في وقت لاحق بأن زوجته وأولاده شاركوا في احتجاجات مناهضة للانقلاب في «ميدان رابعة العدوية» في القاهرة.) 

وفي شريط فيديو نُشر على الموقع الإلكتروني «الأهرام»، حذّر نظيره، «شريف السيد خليل»، المتشددين من مهاجمة الجيش، ذاكراً آية من القرآن الكريم: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنّم}. إلى جانب ذلك، تنشر «إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة» مجلة المجاهد التي تركز على التوعية الدينية، ويتولى الجندي مهمة الإشراف العام عليها. ووفقاً لدار نشر وزارة الدفاع، يتم نشر حوالي 45 ألف نسخة من هذه المجلة شهرياً، حيث يشمل قراؤها الجماهير العسكرية والمدنية على حد سواء.

يُذكر أن الضباط من «إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة» ليسوا العسكريين الوحيدين الذين يعملون على نشر الرموز الإسلامية والخطاب الإسلامي. فالمظاهر الدينية باتت شائعة في صفوف الجيش. ووفقاً لمجند سابق، تم عرض ملصقات تحفيزية بصورة بارزة، تدعو إلى الجهاد في ثكنته. وفي الوقت نفسه، في أيلول/سبتمبر الماضي، بينما كان «السيسي» يشاهد التمارين العسكرية لقوات الإنتشار السريع، عُلّقت على الحائط خلفه لافتة تحمل آية من القرآن الكريم (نفس الآية التي يحملها شعار جماعة «الإخوان»): {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}. وبعد أسابيع، في خلال الحفل الرسمي للجيش في ذكرى حرب أكتوبر عام 1973، ناشد وزير الدفاع «صدقي صبحي» دعاة الفكر المتطرف بعدم اتباع أهواء الشيطان كما قال المولى سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم.

يبدو أن الحياة الدينية والعسكرية متشابكتان بشكل وثيق. فرجال الدين المسلمين يخاطبون العسكريين في المساجد، والشخصيات العسكرية تستخدم المراجع الدينية عند التحدث علناً. وفي أعقاب الانقلاب الذي أطاح بـ«مرسي»، دعا «أحمد محمد علي»، المتحدث العسكري في ذلك الوقت، الجمهور المصري إلى الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في إظهار الرحمة. وقد كان تصريحه هذا شبيهاً بشكل لافت بتصريح نُشر قبل أيام من قبل أحد علماء الأزهر. وفي الشهر نفسه، أنهى قائد «المنطقة الغربية العسكرية»، اللواء «محمد المصري»، أحد خطاباته في محافظة مطروح بذكر الآية القرآنية التالية: {فأما الزبد فيذهب جفأء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}.

ومما لا يدعو للدهشة أن يكون الإسلام مدمجاً نوعاً ما في صفوف الجيش نظراً إلى الدور البارز الذي يلعبه الدين في الحياة والثقافة المصرية. وبالإضافة إلى ذلك، يدرك الجنرالات قدرة الدين على الحفاظ على عملية التماسك وتعزيز الروح المعنوية، وحشد تأييد الرأي العام. ولكن في ضوء الانقلاب الذي أطاح بـ«مرسي»، يجب أيضاً أن يُنظر إلى الدين على أنه عنصراً هاماً في معركة الدولة المصرية الأيديولوجية لاستعادة عباءة الإسلام من «الإخوان المسلمين». وحتى الآن، يبدو أن الحكومة قد  نجحت في ذلك. ولكن كما تعلّم المصريون في عام 1981 من قيام ضباط إسلاميين باغتيال الرئيس السادات، فإن التلاعب بالدين لتحقيق مكاسب سياسية له أيضاً تاريخ من النتائج العكسية.

 

* جلعاد وانيج  باحث مشارك بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذراع البحثي للوبي الإسرائيلي بالعاصمة الأمريكية، ومدير تحرير «منتدى فكرة» التابع للمعهد.

 

المصدر | جلعاد وانيج، فورين بوليسي

  كلمات مفتاحية

الجيش المصري السيسي الانقلاب العسكري محمد مرسي

جماعات حقوقية مصرية تخشى حملة حكومية وشيكة

في مصر .. المحاكمات العسكرية تخصم من اختصاصات القضاء الطبيعي