الإنتاجية والتركيبة السكانية في الخليج

الثلاثاء 7 مارس 2017 05:03 ص

نتائج بعض الدراسات التي قامت على الربط بين معدلات النمو الاقتصادية والإنتاجية من جهة والتركيبة السكانية من جهة ثانية بيّنت أن جميع توقعات النمو الاقتصادي والإنتاجية في السنوات القادمة ستؤدي إلى إحداث صعوبات في تحقيق المواءمة

أصبحت قضية التركيبة السكانية في دول الخليج تحتل مرتبة متقدمة في سلم أولويات صنّاع القرار الاقتصادي، والشغل الشاغل لقطاع واسع وعريض من الباحثين والدارسين والمهتمين؛ حيث أكدت معظم الدراسات والتحليلات أن هيكل التركيبة السكانية في دول مجلس التعاون الخليجي يتأثر إلى حد بعيد بنمط ومسيرة النمو الاقتصادي لهذه الدول.

وتميزت مسيرة التنمية الاقتصادية لدول الخليج عموماً بظاهرتين اقتصاديتين أساسيتين، هما: التركز الاقتصادي الكبير لهيكل الناتج المحلي، والتقلب السنوي الشديد في معدلات النمو الاقتصادي؛ بحيث فاقت نظيرتها في الدول الأخرى، لكن حدة التقلب انخفضت بشكل ملموس خلال السنوات الأخيرة، إذا ما قورنت بالفترات السابقة، بسبب نجاح جهود التنويع الاقتصادي في هذه الدول، ومنها: دولة الإمارات والبحرين.

وفي هذا السياق، ساهمت معدلات النمو الكبيرة التي حققتها دول الخليج، لا سيما بعد الطفرة النفطية، ومحدودية عدد السكان المواطنين في بروز ظاهرة الخلل في التركيبة السكانية لدى العديد من هذه الدول، فيما لعبت سياسات استقدام الأيدي العاملة الوافدة المرنة والمتساهلة في زيادة معدلات تدفقها بشكل فاق في بعض السنوات الاحتياجات الفعلية للاقتصاد في العديد من دول الخليج، ما فاقم من زيادة حدة الخلل في التركيبة السكانية، وأحدث انخفاضاً ملموساً في مستويات إنتاجية المشتغلين، وولد ظاهرة العمالة الفائضة في الاقتصاد لدى هذه الدول، التي كان من مظاهرها الرئيسية انتشار ما بات يعرف بالعمالة السائبة.

وبيّنت نتائج بعض الدراسات، التي قامت على الربط بين معدلات النمو الاقتصادية والإنتاجية من جهة والتركيبة السكانية من جهة أخرى، أن جميع التوقعات المحتملة والمفترضة للنمو الاقتصادي والإنتاجية في السنوات القادمة، ستؤدي إلى إحداث صعوبات في تحقيق المواءمة السليمة بين النمو والتنمية الاقتصادية والمحافظة على التركيبة السكانية، وأن تحقيق هذا التوازن يتطلب بشكل أساسي رفع مستويات الإنتاجية للعاملين خاصة للمواطنين منهم.

وبينت هذه الدراسات أن معدلات نمو الإنتاجية الكلية لاقتصاد دول الخليج المطلوبة، هي في واقع الأمر أعلى بكثير من المعدلات المتحققة تاريخياً، وأعلى من تلك المتحققة لبعض الدول المجاورة والمتقدمة.

وعلى هذا، فإن سياسات معالجة الخلل في التركيبة السكانية مع تحقيق معدلات النمو الاقتصادية المتوقعة أو المستهدفة، يجب أن تنطلق في البداية من العمل على رفع الإنتاجية الكلية للأيدي العاملة في دول الخليج، وتحسين الإنتاجية له ثلاث مداخل رئيسية، وهي: أولاً تطبيق نموذج التنمية الاقتصادي القائم على المعرفة والابتكار وتكثيف رأس المال، وهو ما اعتمدته بشكل واضح الرؤى الاقتصادية لدول الخليج عموماً، وبالتالي العمل على توجيه الاستثمارات الحكومية والخاصة بشقيها المحلي والأجنبي نحو المشروعات الاستثمارية التي تحقق مثل هذه المعايير.

والمدخل الثاني هو الارتقاء بمستوى المهارة والتقنية للعاملين، وهنا يجب التمييز بين العمالة المواطنة وغير المواطنة، فبالنسبة للأيدي العاملة المواطنة يجب أن تتم العملية من خلال الارتقاء بمستوى التعليم بكافة مستوياته، وإحداث المواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، وتكثيف عمليات التدريب والتطوير، وغيرها من السياسات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى التي باتت معروفة للكل.

أما بالنسبة للأيدي العاملة الوافدة، فإن دول المجلس مطالبة بالحد من تدفق العمالة غير الماهرة إلا في الحدود التي تتطلبها الاحتياجات الفعلية للقطاعات الاقتصادية من هذه العمالة، وهنا يقترح استحداث مؤشر يربط بين إنتاجية القطاعات الاقتصادية وتدفق العمالة إليها؛ بحيث توضع قيود على القطاعات التي تنخفض إنتاجية العاملين لديها، وتقل هذه القيود على القطاعات التي ترتفع إنتاجية العاملين لديها.

وهنا، يتطلب الأمر معالجة ظاهرة العمالة الفائضة، التي تعانيها بعض القطاعات الاقتصادية وفقاً لمعيار الإنتاجية، ويتركز هذا الفائض بشكل رئيسي حسب معظم الدراسات المعنية بهذا الشأن في قطاعي الإنشاءات والعقارات، مما يتطلب رسم سياسات استقدام تفصيلية وخاصة بهذا القطاع، تعمل على الحد من الاستقدام غير المنظم لهذه الفئة من العمالة إلى حين تلاشي الفائض؛ وذلك بالاستناد إلى مؤشر الإنتاجية الكلي الذي يجب اعتماده هنا كمرشد وموجه لسياسة الاستقدام، ليس في هذين القطاعين فقط، بل وأيضاً لدى القطاعات الاقتصادية الأخرى.

أما المدخل الثالث، فهو يركز على العمل باستقطاب الأيدي العاملة الماهرة ذات الكفاءة العالية مهنياً وتدريبياً وتعليمياً، والحد من استقطاب العمالة غير المؤهلة وغير المدربة، التي تأتي لدول الخليج لتكتسب مهارات معينة فيها؛ بحيث أصبحت دول الخليج أكبر مكان للتدريب في العالم، مما قد يتطلب إنشاء مراكز خارجية لاختبار وتدريب العمالة في البلاد المصدرة لها؛ وذلك عوضاً عن الاستقدام غير المنظم للعمالة في الوقت الحالي، ووضع حد أدنى للمؤهلات المطلوبة لشغل بعض الوظائف والأعمال المهنية والحرفية، كما يمكن العمل على وضع سقف عددي للعاملين في بعض الحرف والمهن الهامشية أو أي مهن أخرى، ويمكن الاستعاضة عنها بالتكنولوجيا والتقنيات الحديثة على أن تحدد هذه الأعداد بشكل سنوي، ويتم تعديلها حسب الحاجة.

* عبد الحليم محيسن مستشار اقتصادي

  كلمات مفتاحية

دول الخليج العمالة الوافدة الإنتاجية التركيبة السكانية النمو الاقتصادي الخليجي الناتج المحلي الإجمالي

مجلة «جنسية» لطلاب الأزهر .. وتأزم المعضلة السكانية لغياب الثقافة