أوكرانيا: معركة عض الأصابع ... والعجز

الأحد 7 ديسمبر 2014 09:12 ص

من وسيم إبراهيم | بيروت: تتحدث لغته، وتحدثت معه مباشرة أكثر من 35 مرة، لكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تجد مشقة في تقدير نيات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تحاول كل ما في وسعها لفهمه. إضافة إلى حصيلة المعلومات، من المصادر التقليدية، طلبت مؤخراً أن يحضروا إلى مكتبها تفريغاً كاملاً لخطاب مكاشفة لافت أدلى به بوتين. 

أمام مستمعيه في سوتشي، من خبراء سياسة وصحافيين، قال الزعيم الروسي قبل أسابيع إن «الدب لن يكلف نفسه طلب الإذن. هنا نعتبره ملك التايغا. ليس في نيته أن ينتقل إلى مناطق مناخية أخرى، غير أنه لن يسمح لأحد بأن يحصل على التايغا الخاصة به». كان يشير إلى الغابات الحرجية الشهيرة (تايغا)، التي تمتد على طول روسيا، في سياق انتقاده الشديد لمجمل نهج السياسة الأميركية. يلخصها بالتشديد على أن كل الزخارف لا تخفي جوهر ما تريده واشنطن: لقد انتصرت في الحرب الباردة، وهي تريد الآن ترسيخ معادلة العالم الوحيد القطب.

هذا العرض «البوتيني» مناسبته الدائمة، هذه الفترة، هي الأزمة الأوكرانية. لا حاجة لكثير من التنقيب لمعرفة أن «التايغا» التي سيدافع عنها الدب الروسي معركتها الآن في النفوذ في أوكرانيا، كمثال لبلدان الجوار الروسي المستقل عن الاتحاد السوفياتي السابق. وجهة أوكرانيا ستؤثر في مولدافيا، جورجيا، أرمينيا، بيلاروسيا، أذربيجان. فالنفوذ في هذه الدول، هو أيضا طموح يسعى إليه الاتحاد الأوروبي بدأب، بعدما صمم لذلك نموذجاً سياسياً واقتصادياً هدفه التمدد شرقاً، سماه «مشروع الشراكة الشرقية».

خطاب بوتين الذي تمعنت فيه ميركل، كما أوردت مجلة «در شبيغل» الألمانية، كانت رسائله واضحة. فهمت أن كل الوساطات التي نزلت إليها، كل مشاريع التسويات، لا يبدو أنها تنفع. بوتين مصمم على المواجهة، والمسألة بالنسبة له تهديد مباشر.

مكنة برلين الديبلوماسية لم تهدأ خلال أشهر الأزمة الأوكرانية، التي تعيش هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى على اندلاعها. طوال ذلك الوقت كانت ألمانيا مصرة على «حق» الأوروبيين في التوسع شرقاً، وبالتلازم معه على حق دول الجوار الروسي في اختيار الجهة التي تريد التقارب معها.

الإصرار كان موزوناً، وحاولت برلين جهدها لعدم إظهار علامات تشنج أو اللجوء إلى خطاب صدامي. بالأحرى، لم يحصل أن اعترفت المستشارة الألمانية بواقع الصراع علناً، وكانت تردد خطاب التنميق الأوروبي، عن الحقوق المشروعة للشعوب بمعزل عما يريده طرف ثالث. لكن قصة بوتين عن الدب و»التايغا» يبدو أنها من علامات تغيّر النهج الألماني.

فلسفة «التايغا» من الماضي
أمام منتدى على هامش قمة «مجموعة العشرين» الأخيرة، في استراليا، اختارت ميركل الرد مباشرة على رسائل بوتين. بلغة كانت تنضح بنفاد الصبر والضيق، أعلنت أن الاتحاد الأوروبي لن يقبل بالمعادلة التي تريد موسكو فرضها، معللة بأن تراجع الأوروبيين سيُقرأ كالتالي: «نحن ضعفاء جدا، كونوا حذرين، لا يمكننا القبول بأي آخر، علينا سؤال موسكو أولا. هكذا كانت تسير الأمور خلال 40 سنة، ولم أرغب أبدا بالعودة إلى ذلك الوضع».

كانت ميركل تشير إلى هيمنة روسيا على قرار ألمانيا الشرقية، وهي تسحب رفضها، عودة معادلات الماضي، على مجمل بؤر الصراع اليوم. قالت إن موقفها «لا ينطبق فقط على أوكرانيا. ينطبق على مولدافيا، وعلى جورجيا. وإذا استمر (هذا الوضع) فسيتعين علينا السؤال حول صربيا، والسؤال حول دول غرب البلقان».

يتعلق هذا الإصرار الألماني، جوهرياً، بدول مشروع «الشراكة الشرقية». هكذا لم يعد هناك داعٍ لتجميل واجهة هذا الطموح الاقتصادي والسياسي، الذي كلف أوكرانيا حربا مع الشرق الموالي لروسيا، لا تزال تحصد الضحايا حتى الآن.

في هذا الصراع حقق الأوروبيون تقدماً معتبراً في أوكرانيا، بعدما وقعوا معها اتفاقية الشراكة. وفي المقابل، هددت روسيا بتنفيذ حصار تجاري على كييف، ما أدى إلى تأجيل تطبيق الجانب الاقتصادي من الاتفاقية، وهو الأكبر والأهم، إلى بداية العام 2016. لكن أوكرانيا أصبحت محكومة الآن من قيادة موالية للغرب، في الرئاسة والبرلمان والحكومة. هناك الرئيس بترو بوروشينكو ورئيس الحكومة أرسيني ياتسينوك، ويدعم سياسة كليهما تحالف يضم ثلثي أعضاء البرلمان البالغ عددهم 450. 

وجود هذه القيادة هو إشارة حاسمة الى انطلاق «مسار التقارب» مع الأوروبيين والابتعاد عن الدائرة الروسية، كما ترى المحللة آلونا بريستايكا، رئيسة مكتب الاتصال الخاص بمراكز البحوث الأوكرانية في بروكسل.

وتلفت بريستايكا، خلال حديث مع «السفير»، إلى تغيّر معادلة الحكم الأوكرانية بوصفه سابقة في تاريخ هذا البلد، منذ استقلاله عن الاتحاد السوفياتي في العام 1991. تقول إن اتجاه أوكرانيا غرباً، صار أمراً شبه محسوم: «بعد سنة أصبح لدينا تجديد كامل للسلطة المركزية، لا يزال علينا تغيير السلطات في الأقاليم على المستوى المحلي. علينا أيضا تنظيف النظام السياسي والإداري ممن ارتكبوا جرائم فساد وما شابه، لكن البلد يتحرك بالتأكيد في الاتجاه الصحيح». 

لا داعي ربما للتفسير أن بريستايكا من المؤيدين لهذه الوجهة. حتى قبل أن يطلق الأوروبيون مشروع «الشراكة الشرقية»، بسنوات، كانت تنظر لمنافع المسار الأوروبي و»الأطلسي» لبلدها. الحرب التي تخوضها القيادة الأوكرانية برأيها يجب ألا تجمد هذا المسار: «السؤال هو عن نطاق وسرعة الإصلاحات (المطلوبة غربياً كشرط للقروض ولمروحة واسعة من المساعدات). لدينا الآن حرب، حتى لو كانت تجري في 10 في المئة من أراضي أوكرانيا، لكن الاستمرار في القتال يجعلها تخرب البلد. لكن هذا عذر سيئ، وعلينا التحرك أسرع بالإصلاحات، الأمر الذي تدركه كييف جيدا».

صراع القدرة على تحمّل عض الأصابع
لغة الحسم الرائجة على ألسنة مناصري توجه أوكرانيا غرباً هناك من يناقضها. القفز إلى رؤية الثمار، بينما تربة البلد لا تزال تحرث، أمر لا يتفق معه فابيان زوليخ، مدير مركز دراسة السياسات الأوروبي في بروكسل، والقريب من صناع القرار الأوروبيين.

يقول، خلال حديث مع «السفير»، متريثاً الحكم «أعتقد أن الوضع في أوكرانيا تغير كثيراً. من الصعب الحديث عن أوكرانيا باعتبارها تقترب من الاتحاد الأوروبي أو تبتعد، لأن الوضع تمت زعزعته كثيرا»، مستخلصا أن «أوكرانيا الآن في أزمة عميقة جدا، وهذه الأزمة من المرجح أن تستمر في الشهور، إن لم يكن في السنوات المقبلة».

صعوبة الحكم تنسحب برأي زوليخ على ما حققته روسيا. حتى الآن نجحت موسكو في فرض منطقة حرب تستنزف القيادة الأوكرانية الموالية للغرب، والكرملين يقول من دون التباس إنه ماض في دعم الانفصاليين في إقليمي دونيتسك ولوهانسك، الملتصقين بالحدود مع روسيا. قال بوتين إن بلاده «لن تسمح» لكييف بهزم متمردي الشرق، وتسمح الحدود المتصلة لموسكو بإقامة خطّ إمداد لا ينضب من السلاح والمقاتلين. هذه الظاهرة نبّه لها «الأطلسي» مراراً، مندداً بإرسال روسيا الأسلحة الثقيلة.

ما تريده روسيا، وفق ما أعلن عنه مسؤولوها مراراً، هو تحويل أوكرانيا إلى دولة اتحادية (فدرالية)، مع سلطات واسعة لأقاليم الشرق الموالية لها. خيار كهذا ترفضه كييف، فهو سيعيق، إن لم يعطل، قيام حكم مركزي قوي يقرر مستقبل البلاد.

يقول زوليخ، في شأن ما حققته روسيا، «أعتقد أن من مصلحة روسيا زعزعة الوضع في أوكرانيا، لكني لست متأكدا من نجاح خطتها للحصول على أوكرانيا فدرالية أو كونفدرالية». المسألة صارت برأيه صراع عض أصابع، يفوز فيه من يقدر على تحمّل آلامه. ويضيف «السؤال الكبير هو ما مدى العبء الذي يمكن للقيادة الروسية تحمله على المستوى المحلي، لأن هذا الصراع، بمجمله، يؤذي روسيا اقتصادياً. لذا لا أعتقد أن روسيا، على المدى الطويل، ستحقق أهدافها، لأن ذلك يعتمد كثيراً على مدى تصميم الاتحاد الأوروبي وبقائه موحداً في رده إلى جانب الولايات المتحدة».

لذلك تستخدم كل الأسلحة في هذا الصراع المفتوح. بدأ الأوروبيون والأميركيون مساراً متدرجاً من العقوبات الاقتصادية، التي سببت ضرراً كبيراً للاقتصاد الروسي. تجميد أرصدة عشرات الشخصيات، الروسية والاوكرانية، المقربة من الكرملين، شيء لا يذكر مقابل تجميد أنشطة كبرى الشركات والمصارف الروسية، ومنعها من الحصول على التمويل من الغرب. فقد الروبل 30 في المئة من قيمته، وسحب المستثمرون الخائفون عشرات مليارات الدولارات من روسيا. كل هذا يكلف موسكو كثيرا، خصوصا في ظل انخفاض أسعار النفط الذي تعتمد عليه موازنتها. قال المسؤولون الروس، مؤخراً، إن العقوبات تكلفهم حوالي 40 مليار دولار، فيما يكلف انخفاض سعر النفط حوالي 100 مليار دولار.

الأوروبيون بدورهم يعانون من عقوبات مضادة قررتها روسيا. حظر استيراد المنتجات الغذائية أضرّ المزارعين على طول القارة، وإيجاد أسواق بديلة ليس أمراً يسيراً. صار بعض مراسلي التلفزة الأوروبية يظهرون على الشاشات وهم يقضمون الإجاص، كما حدث في بلجيكا، لتشجيع الاستهلاك المحلي كبديل مؤقت. أصبحت بعض الدول الأوروبية، المرتبطة اقتصادياً بروسيا، تشتكي من ألم العقوبات. الرئيس الهنغاري فيكتور أوروبا قال، معارضاً ما تفعله أوروبا، إنه افتقاد للحكمة، وهو أشبه بمن «يجدع أنفه كي يغيظ خصمه». عدة دول أخرى لا تعلن معارضتها بهذه الصراحة، مثل ايطاليا، لكنها لا تريد أن تنهار تجارتها واستثماراتها مع الروس.

إضافة لكل ذلك، لا يزال سلاح الطاقة الروسية مسلطاً. الأوروبيون يعتمدون على الغاز الروسي، ولم يمكنهم حتى الآن إيجاد بدائل له في المدى المنظور. لذلك استنفروا لحل أزمة الغاز بين أوكرانيا وروسيا، كي لا يؤثر انقطاع الغاز عن كييف على 50 في المئة من إمدادات الغاز الروسية التي تمر عبر أراضي أوكرانيا.
كييف بدورها تعيش مع اقتصاد على حافة الانهيار، تموّله عبر قروض الإنقاذ الغربية. صندوق النقد الدولي أعلن عن حزمة قروض تبلغ 17 مليار دولار، فيما تنتظر القيادة الأوكرانية مؤتمراً للمانحين وللاستثمار مقابل حزمة إصلاحات تعهدت بإنجازها.

سقوط التفاهمات والعودة لنقطة الصفر
خلال فصول هذا الصراع فشلت الأطراف المنخرطة فيه بإطالة عمر التفاهمات التي توصلت اليها. سقطت اتفاقات الهدنة، الواحد تلو الآخر، ليتجدد القتال كلما أحس أحد أطراف الحرب الأوكرانية أنه قادر على تحقيق مكاسب.

أهم تلك الاتفاقات جرى في العاصمة البيلاروسية مينسك، بداية أيلول الماضي، ليعد بعده الرئيس الأوكراني بإعطاء وضع خاص لمناطق الانفصاليين، مع انتخابات محلية وحكم ذاتي لثلاث سنوات. غير الخرق المتكرر للهدنة، انهار الاتفاق تماماً بعد شهرين، حينما نظم الانفصاليون انتخابات لرئاسة الجمهورية التي أعلنوها مستقلة عن أوكرانيا. بعد ذلك، سحبت كييف عرض الحكم الذاتي، وأعلنت وقف الخدمات وقطع كل تمويل حكومي عن تلك المناطق. عادت التقارير الغربية عن وفود الأسلحة الثقيلة والمقاتلين من روسيا لدعم الانفصاليين، ليعود الصراع إلى نقطة الصفر.

في المحصلة، تعتبر بريستايكا أن روسيا هي «الخاسر» على المدى الطويل. تقول إن «المنطق أن هناك دولة تقول ما يجب أن تفعله أخرى هو بالكامل خارج الواقع»، معتبرة أن «أزمة أوكرانيا هي حرب، ليست على الأرض فقط، بل بين الماضي والحاضر. روسيا ربما تكسب شيئاً في المدى القصير، لكن استخدام القوة سيؤذيهم. إذا أرادوا المضي في ذلك، فشعوري، وأنا آتية للتو من كييف، هو أن أوكرانيا ستحارب ولن تستسلم».

بالنسبة لرئيس مركز دراسة السياسات الأوروبية لا نتيجة واضحة. ويقول «في النهاية لدى روسيا القوة العسكرية الصلبة، لكن الاتحاد الأوروبي، والغرب إجمالاً، لديه القوة الاقتصادية الناعمة». أما المعادلة التي ستحكم برأيه رجحان كفة الصراع: «إذا استطاع بوتين شقّ وحدة الدول الأوروبية، بين من يدعمه ومن هو ضده، فأعتقد حينها أن منطقه هو الذي سيكسب. إذا بقينا موحدين، فحينها أعتقد أن القوة الاقتصادية الأوروبية ستجبر بوتين على التراجع والعودة إلى طاولة المفاوضات».

المصدر | السفير

  كلمات مفتاحية

المفاوضات روسيا استراليا ايطاليا كييف السلاح النفط الاتفاقات الحدود الغاز السياسة الضحايا الحرب الباردة ألمانيا برلين

لقاء مرتقب لوزير الخارجية الأمريكي ونظيره الروسي لبحث الأزمة في أوكرانيا وسوريا

أوكرانيا تتخلى عن حيادها .. طريق «الناتو» أقرب من روسيا

الصراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا يحبس أنفاس العالم في 2014

فوضى أوكرانيا: حكم التاريخ على «أوباما»

الحرب الروسية الأوكرانية توازيها أخرى إعلامية