محميات الخليج العربي وإدارة المنطقة

الأربعاء 10 ديسمبر 2014 07:12 ص

في العام 2002، أثار روبرت كوبر، المستشار السياسي لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، زوبعة من ردود الفعل بدعوته الصريحة إلى اعتماد «نوع جديد من الإمبريالية». وقد دعا كوبر إلى ولوج «عصر جديد من الامبراطورية»، لا تضطر معه الدول الغربية إلى مجاراة القانون الدولي في تعاطيها مع الدول ذات «السلوك التقليدي» (أي التي تتعامل مع الواقع الدولي وفق قواعد الثنائية القطبية)، وتتمكن بناء عليه من استخدام القوة العسكرية بالاستقلال عن الأمم المتحدة، ومن فرض «محميات» تستبدل الأنطمة التي «لا تجيد الحكم».

لم تعمّر اندفاعة طوني بلير ومستشاريه طويلاً، وهي التي كانت تلهث للحاق بسياسة البيت الأبيض في عهد جورج بوش الإبن ومحافظيه الجدد. جُربت السياسة المذكورة في العراق مع إسقاط نظامه واحتلاله وتفكيك بنيته الدولتية في العام 2003، فأنتجت فوضى مدوية ما زالت تداعياتها متسلسلة حتى يومنا هذا، ولم تُثمر نتائج مباشرة، لا في مصلحة دول الاحتلال، ولا في مصلحة تثبيت نظامٍ أحاديٍ قابلٍ لحياة طويلة، أو متوسطة الأجل حتى. كما لم يكن ذكر «المحميات» أعلاه متصل بدول سبق أن اختبرت هذا النمط من العلاقة مع قوى الغرب الإمبراطورية في النصف الأول من القرن العشرين، تحديداً في منطقة الخليج، بل كان الهدف منه توسيع مروحة التعاطي المذكور ليشمل سائر دول «الشرق الأوسط الكبير»، التي أريد، عبر تطويع بناها الداخلية، إخضاعها لشكل من أشكال «الهندسة الاجتماعية والثقافية» التي تسهّل إلحاقها بنيوياً بالمركز العالمي. 

اليوم، تعيد القوى الدولية، الغربية تحديداً، إعادة إنتاج فكرة «المحميات» من النقطة التي توقفت عندها في النصف الأول من القرن الماضي، أي قبل أن تكر سبحة الاستقلالات في دول العالم الثالث، وذلك اعتماداً على أنظمة نفط ريعية قادرة على تأمين أرضية لتكرار التجربة ونجاحها، بل وتثبيت مزاياها وعوائدها الاقتصادية، المباشرة وغير المباشرة.

ويحصل إحياء «المحميات» بمعناها التقليدي الذي انقطعت الصلة به قبل نصف قرن (مع تعديلات يفرضها الظرف الدولي ونظامه المختلف)، من دون توسيع هوامشها ليشمل إسقاط أنظمة أو ليدخل في متاهة تعديل البنى الاجتماعية والثقافية في الدول المعنية. وهذا يؤمن، نظرياً، قدراً من الاستقرار الذي افتقدته الفكرة بطابعها التبشيري (الايديولوجي) عقب أحداث 9/11.

غير أن الأمر يجري أيضاً في ظل لعب بعض الدول المحمية أدواراً كبرى في الحرب المفتوحة بالوكالة على امتداد المشرق العربي، وصولا إلى ليبيا جنوب المتوسط. إذ تخوض السعودية والإمارات حربهما الضروس ضد تنظيم «الإخوان» من ناحية، وحلفاء إيران من ناحية أخرى، فيما تعاند قطر اعتراضاً على التوجه الأول، وتنخرط في الحملة الثانية في العراق وسوريا حيث تلاقي المصالح والدوافع.

وللقواعد العسكرية الأجنبية في المنطقة اليوم، بعد الاتفاق بين بريطانيا والبحرين، دلالة مزدوجة:

الأولى تتصل بتوق دول الضفة العَرَبية من الخليج إلى تجديد اعتمادها على الرعاية الأجنبية كضامن أول لاستقرارها، وهي، باعتمادها هذا، تؤكد (لاإرادياً) عدم أهليتها لإدارة شؤون المنطقة، برغم الأدوار الفاعلة التي لعبتها (وما تزال) في إعادة تشكيل دول الإقليم. فإدارة المحيط الأوسع تتطلب، بدايةً، قدرة على ضمان الأمن الذاتي والحيلولة دون وصول ترددات الزلزال في المحيط إلى عقر الدار، وهو ما يبدو متعذراً عند الاعتماد على القدرات الذاتية لهذه الدول وحدها.

أما الدلالة الأخرى، فترتبط برغبة الدول الحامية بضبط قواعد اللعبة في الإقليم، بعدما شارفت الأمور على الانفلات جراء الصراع المرير بين أركانه. إذ ولّد تحدي الأنظمة والدول لبعضها قوىً شبَحية لا تنطبق عليها قواعد التعامل العقلاني، كما تعرّفها المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. ما يعني أن الضوابط التي ترسم الخطوط الحمر وتحدد الإطار العام للتعامل مع الأزمات المندلعة والبدائل المقترحة والحلول المترتبة، فقدت فعاليتها، وهو أمر يهدد بإدامة عدم الاستقرار وبتوسيع رقعته، إلى ما دون المتضررين الحاليين منه، ليطال المصالح الحيوية للقوى الكبرى، وليفتح ثغرة في النظام الدولي القائم وتوازناته.

ويعني ما ذُكر إعلاه أن إدارة الفوضى في المنطقة تعود بشكلٍ متدرج إلى أيدي الحامي الخارجي (أو أقله هذا ما يريده الأخير)، وذلك بعدما جرّب الحلفاء في الإقليم حظهم في إعادة تشكيل الموجود، وعجزوا عن ضبط الإيقاع وابتداع بدائل قابلة للحياة.

وهو يعني أيضاً أن «الحُماة» لديهم اهتمامات أخرى على مستوى العالم، تحديداً في إطار الصراع على النفوذ مع الصين في الشرق الأقصى ومع روسيا عند أسوار الاتحاد الأوروبي، كما في استنباط حلول للأزمات الاقتصادية المتناسلة ومسائل الهوية والدمج الاجتماعي في أوروبا، وتطوير إمكانات استخراج الطاقة البديلة وتقليص الاعتماد على موارد الشرق الأوسط، وفرملة انزلاق الولايات المتحدة عن مكانتها في النظام الدولي.

بناء على ما تقدم، ومع إعلان الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية بحرية بريطانية في البحرين، يكتمل قوس القزح في الخليج، حيث مركز القيادة الأميركية في قطر، والقاعدة الفرنسية الوحيدة خارج أفريقيا في الإمارات، بينما، في «مسارح المواجهة»، تستنجد حكومة العراق بالثلاثة معاً لمواجهة لا قبل لها بها، وتصدر السلطة السورية «البيانات» حول الحملة الدولية ضد الإرهاب على أراضيها.

لقد أكدت اتفاقية البحرين قبل أيام المشهد أعلاه. أضحى الأمر على الشاكلة التالية: «محميات» أعجز عن إقفال النزاع أو إدارته بكفاءة، ومسارح اقتتال في المشرق ذات بنى دولتية متآكلة، وفي الخلفية علاقة تبتعد عن الحافة شيئاً فشيئاً.. مع إيران. 

 

المصدر | ربيع بركات، السفير

  كلمات مفتاحية

العراق السعودية روسيا الصين البحرين قطر ليبيا السياسة بريطانيا مجلس التعاون الخليجي قواعد عسكرية

لماذا تعود بريطانيا إلى الخليج بـ«قاعدة البحرين»؟

القاعدة البريطانية في البحرين: عودة الاستعمار إلى «شرق السويس»!

بريطانيا تخطط لإنشاء قواعد عسكرية في الإمارات والبحرين وعُمان

الديلي تليغراف: ما جدوى القاعدة البحرية البريطانية في البحرين؟