تحولات العلاقات المدنية العسكرية في العالم العربي لا تصب في صالح التحول الديموقراطي

الأربعاء 10 ديسمبر 2014 08:12 ص

لقد أثبتت العلاقة المدنية العسكرية أهميتها لسياسات العديد من الدول العربية، سواءً تلك التي خضعت للانتقال في عام 2011م وما بعده أو تلك التي لم تخضع. هناك محاولة لإعادة التفاوض بشأن الأطر الدستورية ووضع ترتيبات سياسية جديدة في ظل ظروف عدم اليقين العميق لاسيما تكثيف الأنماط الحالية في العلاقات المدنية العسكرية إلى حد تحويلها. وتأتي تلك التحولات أيضًا استجابة لأزمة بناء أطول للدولة، والاتجاهات الهيكلية للتحول الاجتماعي، والتغيرات في الشئون العسكرية العالمية والأجندات الأمنية التي يرجع تاريخها إلى ما قبل الربيع العربي.

وضعفت القيود السياسية والقانونية على الجيش في بلدان الربيع العربي نتيجة انهيار السيطرة الاستبدادية والتحول في نظم الحكم. ففي مصر وتونس حيث مؤسسات الدولة القوية نسبيًا وجيوش رسمية بدرجة كبيرة، فقد أتاح لهم ذلك لعب دور سياسي كبير. وفي ليبيا واليمن حيث الدولة الضعيفة والاختراق المتبادل من قوى اجتماعية قوية جعل من الثورات ماكينة لإنتاج انقسامات قبلية وإقليمية داخل الجيش ما أوصله إلى مرحلة الشلل والتفكك. وكانت النتيجة في كل حالة هو تجاوز تلك التغييرات والدخول في مرحلة جديدة نوعيًا من العلاقات المدنية العسكرية.

وتهتم العلاقة المدنية العسكرية في المقام الأول بالسؤال عن كيفية إنشاء الدولة لوسائل عنف تتحكم هي فيها، وضد مَن يكون هذا العنف مشروعًا. ولهذا السبب؛ فإن طبيعة وشكل المؤسسات العسكرية يقترن بشدة بالبنية والتوازن الداخلي وتوزيع رأس المال داخل دولهم ومجتمعاتهم. لقد تسبب الربيع العربي في نوع من التمزق الحاد في أنظمة الرقابة السياسية الإدارية، ما فتح المجال أمام تحولات جوهرية في العلاقات المدنية العسكرية.

ورغم ذلك؛ فقد حدث هذ التمزق الحاد في سياق اتجاهات أكثر تطورًا؛ حيث تقاربت السياسات الليبرالية الاقتصادية مع اتجاهين آخرين على المدى البعيد، هذا الاتجاهان يؤثران على العلاقات المدنية العسكرية في كل الدول العربية. الاتجاه الأول: التغيرات الديموغرافية الكبرى في المجتمعات العربية على مدار العقود الأربعة الأخيرة والتي سرّعت من وتيرة التحضر، وغيّرت من طبيعة وحجم التحديات الأمنية، وفرضت شروط جديدة على هيئات تنفيذ القانون في الدولة. أما الاتجاه الثاني فقد تلاقى مع «الثورة العالمية في الشئون العسكرية» وظهور جدول أعمال مكافحة الإرهاب وإصلاح القطاع الأمني منذ التسعينيات. وقد كان لهذين الاتجاهين تأثيرات تحويلية على الجيوش العربية وتغيير السياق الذي تتبلور داخله علاقاتها مع السلطات المدنية والمجتمعات.

ومما يعكس الأهمية السياسية المتنامية هي تلك التحديات في مطلع التسعينيات من القرن الماضي؛ والتي دفعت نحو زيادات كبيرة في الميزانية والقوى العاملة لقطاع الأمن الداخلي في معظم البلدان العربية. وبالتوازي؛ فإن التراجع النسبي للحروب بين الدول منذ حرب الخليج عام 1991م وإعادة إطلاق عملية السلام بين العرب وإسرائيل شككت في أهداف القوات المسلحة واستفادتها. وعلى الرغم من أن المستويات الإجمالية للإنفاق على الدفاع لم تنخفض بين الدول العربية كمجموعة، فقد ركزت الجيوش بشدّة على الدفاع عن النظام والقيام بأعباء النظام العام الداخلية. ولكن كما أظهر الربيع العربي لاحقًا بشكل واضحٍ للغاية أن مؤسسات تلك الجيوش وتدريبها وتسليحها وعقيدتها كانت غير مناسبة تمامًا للتدخل بشكل كبير في المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية والدوائر الاجتماعية المختلفة.

تغييرات هيكلية

ونتيجة لذلك؛ فقد خضعت القوات المسلحة الوطنية في العديد من البلدان العربية لتغييرات هيكلية في الوقت الذي أُعيد فيه تسليح وتدريب وحدات منتقاة لتصبح أكثر استعدادًا لدور جديد. وتسارعت وتيرة زيادة القوات الخاصة مع ضرورة فصلها عن باقي أفرع الجيش التقليدي منذ أحداث 11 سبتمبر بعد ظهور ما عرف باسم «الحرب على الإرهاب» كعنصر مركزي واضح المعالم في العلاقات مع شركاء المجتمع الغربي ومقدمي التكنولوجيا العسكرية والمساعدات. ويتزامن ذلك مع التوسع الملحوظ في وحدات الشرطة العسكرية في كل الدول العربية تقريبًا، ما يعكس تحوّلاً في قطاع الأمن الداخلي أيضًا من مجرد قوة شرطية قديمة تعاني نقص التمويل والتدريب السيئ إلى وحدات تمتلك أحدث الأسلحة وتتدرب على أحدث التكتيكات وتحارب الإرهاب.

وتمثل الاتجاه في تحويل بعض الجيوش العربية – ومعظم قطاعات الأمن الداخلي – إلى هياكل من مستويين. فمن ناحية؛ هناك وحدات النخبة التي تضم جزءًا صغيرًا من إجمالي القوة العاملة العسكرية حظيت بامتيازات تتعلق بالتسليح والتدريب والمرتبات والوضع المهني. ويرتبط هذا أيضًا بتأثير الثورة العالمية في الشئون العسكرية التي يُنظر إليها على أنها تجري على قدم وساق منذ التسعينيات، والتي تؤدي التكنولوجيا الجديدة فيها إلى تمكين واستلزام تبني المذاهب والتكتيكات القتالية الجديدة وما تستلزمه من أشكال تنظيمية وثيقة الصلة. من ناحية أخرى؛ يتركز الجزء الأكبر من أفراد الجيش والمدرعات التقليدية ووحدات المدفعية والمشاة والكثير من المعدات الدفاعية القديمة والأسلحة الثقيلة التي خرجت من الخدمة وميزانيات الشراء المتقلصة.

ويتبلور الأثر التراكمي في صورة تغيير ارتباط الجيش بمن هم في السلطة والمجتمع. وحدات المستوى الأعلى - بحكم تعريفهم -  هم الأقرب للأنظمة الذين يساعدون في بقائها ودعم سلطاتها، ومن ثم فإنهم غالبًا ما يحملون نفس وجهة النظر الطائفية أو الإقليمية  أو القبلية، وأن المجتمعات الأخرى تهددهم داخل مجتمعاتهم الخاصة. والأهم من ذلك بكثير بالنسبة للمستوى الأدني هو أن العمل العسكري يقدم ما تبقى من نظام الرعاية وسط تخفيضات حادة في الخدمات الاجتماعية، وإيجاد فرص العمل الممولة من القطاع العام، واتساع التفاوت في الدخل والذي رافق "تراجع" الدولة منذ التسعينيات.

ومن المفارقات أن جدول أعمال إصلاح القطاع الأمني الذي يروج له الشركاء الغربيين يزيد الأمور تعقيدًا: إن الدافع إلى حل أو إعادة هيكلة وحدات تأمين النظام لكونها معاقل استبداد أو لممارستها انتهاكات طائفية وغير ذلك يحرم الجيوش التي تواجه تهديدات أمنية جديدة متشابكة من قوتها الفاعلة، في حين أن سياسات الليبرالية الجديدة وتقلص العائدات العامة يزيد من صعوبة الحفاظ على نظم الرعاية العسكرية القائمة بالنسبة للغالبية في وقت يزداد فيه التوتر الاجتماعي والاستقطاب عمقًا.

وفي الوقت الذي تتلاقى فيه اتجاهات التغير الديموغرافي بشكل كبير مع الأجندات الأمنية المتطورة في السنوات المقبلة في ظل إعدادات اقتصادية وسياسية يغلب عليها سياسات الليبرالية الجديدة المشوهة التي تعزز من تركيز الثروة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فإن التحولات التنظيمية والعقائدية التي نوقشت أعلاه سوف تؤدي إلى توتر التحالفات السياسية والتحالفات الاجتماعية التي دعمت العلاقات المدنية العسكرية الماضية، ما يفتح الطريق لأنواع جديدة من العلاقات.

ومن بين الــ 22 دولة الأعضاء في جامعة الدول العربية تبقى الجزائر ولبنان والعراق والسلطة الفلسطينية والصومال والسودان في المرحلة الانتقالية التي يُطلق عليها ما بعد انتهاء الصراع، وما زالت موريتانيا تعيش خارج عواقب انقلابها العسكري عام 2008م. وتبدلت العلاقة في هذه البلدان بين الأطراف العسكرية والمدنية في ظل تآكل الأطر الدستورية، و«قواعد اللعبة» المتفق عليها لتسيير السياسة، وإضعاف قوة الدولة بدرجات متفاوتة، وتراجع حاد في المواثيق الاجتماعية.

ودفعت هذه المعضلة الأمنية الناتجة إلى ظهور المليشيات الطائفية - على أساس الطائفة أو العرق أو القبيلة أو المنطقة. وقد أنتجت بعض الأطراف الفاعلة المسلحة غير الحكومية أشكالاً بديلة لبناء الدولة، ويُعدُّ «حزب الله» اللبناني و«الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا نموذجين متناقضين تمامًا. وفي العراق أيضًا - كما هو الحال في سوريا وليبيا والسودان واليمن - ظهرت أشكال هجينية من «أمن محلي» في الوقت الذي أعطت فيه الحكومات مهمة الدفاع الوطني وحماية النظام لمجموعة متنوعة من المليشيات الطائفية، مما يزيد من تقويض الدولة المركزية وقواتها المسلحة.

إعادة تشكيل العلاقات المدنية العسكرية

وتظهر النتائج الجلية في العراق وسوريا أن إعادة بناء الجيوش المفتتة وإعادة التفاوض بشأن العلاقة المدنية العسكرية كان جزءًا لا يتجزأ من إعادة بناء الدولة واستئناف التشاور بشأن علاقتها مع المجتمع ككل في السابق منذ عام 2003م. وفي كلا البلدين - كما هو الحال بالفعل في بلدان أخرى مثل ليبيا واليمن منذ عام 2011 – فإن إعادة إنشاء جيش وطني عسكري متكامل مرهون بالصراعات التأسيسية بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة. محاولات قادة الدولة الجدد لاستخدام القوات المسلحة كقاعدة للسلطة في العراق واليمن - على سبيل المثال – قابلتها تحركات مُضادة من قبل الخصوم السياسيين لحشد وسائل العنف داخل قواعدهم الاجتماعية، مما يزيد من تفتيت السياسات الوطنية وتعميق انعدام الأمن.

وفي ليبيا؛ تمّت عملية تشكيل الجيش في اتجاهين رئيسيين في الــ 20 عامًا التي سبقت انتفاضة عام 2011م: التجنيد القوي من القبائل والمناطق الموالية لرئيس البلاد آنذاك العقيد «معمر القذافي»، والتهميش بعد فشلها في حروب الحدود في الثمانينيات مع تشاد وظهور الإسلاميين في صفوفها مع مطلع التسعينيات. الجيش الذي يعاني هذه الانشقاقات لم يعد موجودًا كقوة تنفيذية قائمة بذاتها في عام 2011م على نحو فعال مع احتدام القتال ضد مليشيات ثورية متطوعة وقوات حفظ النظام؛ وخاصة «كتائب القذافي الأمنية».

ومنذ الاطاحة بالقذافي، عملت الحكومة الانتقالية على إضعاف تلك الديناميكيات القبلية والإقليمية والمؤسسية تمامًا بهدف إعادة تأسيس جيش وطني. لكن النتيجة جاءت عكسية في صورة انقسام جديد للسلطة القسرية بين الهياكل العسكرية والأمنية الموازية على أساس الائتلافات المختلفة للمسلحين الثوريين من جانب والوحدات المتبقية من الجيش النظامي والتي اعتُبرت على نطاق واسع ملاذًا للموالين للنظام القديم من جانب آخر. وانعكس استمرار هشاشة الدولة الليبية على الجيش الرسمي والعكس صحيح، مُسلطًا الضوء على نتيجة بدت فيها القوات المسحلة في شكل مختلطٍ جديد يتواجد داخل دولة هجينية على قدم المساواة مع مركز السلطة داخل العلاقة المدنية العسكرية المنتقلة من المستوى الوطني إلى المستوى الطائفي أو الإقليمي.

وكشف الجيش اليمني نمطًا مُماثلا على نطاق واسع من تحديد مناصب التجنيد والقيادة على أساس الانتماءات الإقليمية والقبلية. لكنها تختلف أيضًا في نقطة كبيرة. لقد سمح الرئيس السابق «علي عبدالله صالح» حتى رحيله عن منصبه في عام 2012م لشركائه داخل حكومة النخبة الثلاثية التي شكّلت صفقة الحكم في اليمن بالإبقاء على إقطاعيات منفصلة داخل الجيش. وتعكس حالة الشلل التي أصابت الجيش أثناء انتفاضة عام 2011م مدى انهيار هذه الشراكة في الوقت الذي انحاز بعض أعضائها إلى أطراف المعارضة.

لقد تم استنساخ نفس الديناميكية المُختلة في الوقت الذي تنافس فيه نفس أفراد النخبة البارزة الرئيسيين - مع إضافة خليفة صالح والمنافس الحالي الرئيس المؤقت «عبد ربه منصور هادي» - للاحتفاظ بنفوذهم في سياق عملية إعادة الهيكلة العسكرية التي بدأت في عام 2013م. وكانت النتيجة انهيار الجيش باعتباره هيكل قيادة أمام لاعب جديد تمامًا متمثل في المتمردين الحوثيين الذين استولوا على العاصمة صنعاء والكثير من المناطق داخل اليمن في صيف عام 2014م. لقد أخذت العلاقة المدنية العسكرية نهجًا جديدًا في ظل هيكل السلطة اليمينة المقلوب وأسلوب العمل المبتكر من قادة الجيش المستقلين في بعض المناطق على مستوى اليمن.

بسبب مركزية العنف في جميع تلك الحالات، فإن المؤسسات العسكرية ستصبح أكثر أهمية مهما كان نوعها إن لم تكن هي أساسية تمامًا كالأطراف المؤسسية الفاعلية؛ سواءً فيما يتعلق بالدول الوطنية أو بمجتمعات الحكم الذاتي المسلحة والمستقلة بشكل متزايد. وهذا يبشر بإسقاط النموذج الذي أسسه زعماء مستبدون مثل «صدام حسين» و«حسني مبارك» و«بشار الأسد» وأبيه وغيرهم، والذين دافعوا عن سلطانهم بوضع أنفسهم على رأس القوات المسلحة كرؤساء مدنيين في محاولة لتهميش دور الجيش سياسيًا. وبدورها؛ عادت المؤسسات العسكرية مرة أخرى لتصبح لاعبًا سياسيًا مركزيًا سواءً على مستوى الدول الموحدة أو مجتمعات الحكم الذاتي، مع وجود صراعات فئوية داخل صفوفهم ربما تتجدد مما قد يؤدي إلى إعادة سياسات الأشقاء بين الجيوش العربية والتي كانت موجودة بين عامي 1950 و1970م.

وفي الدول العربية ذات المجتمعات الأقل انقسامًا بشكل واضح  هناك اتجاهات وديناميكيات اجتماعية أخرى تعمل على تغيير نمط العلاقات المدنية العسكرية. ففي مصر والجزائر - ويمكن القول أيضًا في المغرب – أن الجيوش الوطنية التي انتقلت منذ عقود من «انقلابات عسكرية دائمة» إلى «النفوذ وإثراء الذات» . وكما قال جان «فرانسوا داجوزان» فإن فرقة تدريب الضباط في بلادهم تضم الطبقة المتوسطة "الجديدة". وهذا يمثل النقيض تمامًا لعصر الخمسينيات والستينيات حيث كان الضباط الأقل رتبة من طبقات اجتماعية يستخدمون نفوذهم على أجهزة الدولة لإحداث تغييرات جذرية في توزيع الثروة الاقتصادية والسلطة الاجتماعية. وبدلاً من ذلك؛ فإن معظم الجيوش العربية متشبثة اليوم بالوضع الراهن الداعم لسياسات الليبرالية الجديدة الخاصة بالرفاهية الاقتصادية والاجتماعية - التي قد تتعايش بشكل مريح مع الإسلاميين كأيديولوجية اجتماعية محافظة - وعلى استعداد للدفاع عنها لخدمة مصلحتهم الشخصية.

وعادت القوات المسلحة المصرية - التي لطالما نُظر إليها على أنها أكفأ من يدير البلاد – لتؤكد سلطتها الرسمية على الدولة المصرية منذ فبراير 2011م عندما تخلى الرئيس حسني مبارك عن السلطة ناقلاً صلاحياته إليها. وكان المجلس الأعلى للقوات المسلحة مترددًا في تولي مهام الحكم، كما رفض أيضًا تفويض حكومة مدنية انتقالية يعينها هو، وأثبت عدم كفاءة بشكل فج في تعامله مع العملية السياسية والانتعاش الاقتصادي وإصلاح جهاز الدولة. وبدافع من مكانته التي اكتسبها تحت حكم مبارك فقد سعى إلى إعادة إنتاج الاستقلال القانوني والمؤسسي للرقابة المدنية عن طريق إضفاء الطابع الرسمي بسلسلة من التعديلات الدستورية والأحكام الواردة في 2011-2014.

لقد شكلت عملية إطاحة الجيش بالرئيس السابق «محمد مرسي» – أول رئيس مدني منتخب في مصر منذ تأسيس الجمهورية عام 1952م – في 3 يوليو 2013م استكمال الهيمنة العسكرية على الدولة المصرية. ومنذ ذلك الحين؛ فإن «جمهورية الضباط» التي نشأت في عهد مبارك – عن طريق استعمار مساحات شاسعة من البيروقراطية المدنية للدولة والحكومة المحلية والمخابرات العامة وقوات الأمن المركزي والشركات التجارية المملوكة للدولة - انتقلت إلى الصدارة وعززت من نفوذها. وقد عين الرئيس عبد الفتاح السيسي كبار الضباط في مناصب إضافية، وأعطى صلاحيات جديدة أوسع للقوات الجوية المصرية في مجال الأمن الداخلي وإنفاذ القانون. وفي غياب مجالس نيابية وحل كل من الحزب الوطني وجماعة الإخوان المسلمين وفقدان التوازن الذي كانا يحدثانه نوعًا ما على الساحة السياسية المصرية فإن مصر تتجه إلى ديكتاتوية عسكرية لا لبس فيها.

وكانت تونس هي الحالة الفريدة بين دول الربيع العربي من حيث تحقيق الاستقرار والتقدم في تحولها الديمقراطي النسبي، لكنها في الوقت ذاته شهدت تحولاً دقيقًا في العلاقات المدنية والعسكرية منذ أن ساعد الجيش في الإطاحة بالرئيس السابق زين العابدين بن علي. وتحاشى الجيش لعب دور سياسي بعد الاطاحة بالرئيس بن علي، وبدلاً من ذلك فقد نقل السلطة إلى الهيئات المدنية المؤقتة التي تولت المسئولية الكاملة عن إدارة العملية الانتقالية. وعزا كبار الضباط حياد الجيش إلى الروح الجمهورية السائدة بقوة والتي تحتم طاعة السلطات المدنية كما ينص القانون. لكن من المتوقع أن يكون لهم دور أكبر لاسيما تقديم الاستشارة في سياسة الحكومة في المجالات التي يمكن أن تؤثر على الأمن القومي مثل التجارة والتعليم. ومع وجود التيار الإسلامي داخل فرق تدريب الضباط الخاصة، فإن الجيش لن يبقى بمنأى عن الصراعات السياسية والأيديولوجية الجارية في المجتمع. لقد حانت لحظة إنهاء تهميشه وعزله لعقود طويلة.

لقد اكتسب الجيش التونسي بالفعل أهمية مع اقتراب تهديدات جديدة تلوح. مواجهة التدفق غير الشرعي للاجئين والأسلحة من ليبيا وتمرد الجهاديين على الحدود مع الجزائر أدى إلى تقارب غريب بين وزارة الداخلية التي لعبت دورًا رئيسيًا في مراقبة الجيش قبل ثورة 2011م. ويتزامن ذلك مع تحوّل هام في المشهد السياسي التونسي: لقد فاز حزب «نداء تونس» – التحالف الضيق الذي يتكون من قوى سياسية علمانية ويسارية ورموز لنظام زين العابدين بن علي بالانتخابات البرلمانية وجاء مرشحه في صدارة مشرحي الانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى. وما زال الجيش يرفض لعب دورٍ سياسي صريح، لكنه قد يلعب دور الموازن بين المتنافسين – العلماني والإسلامي – بشكل ملحوظ كما يفعل نظيره في لبنان حاليًا.

والأمر على النقيض في الأردن؛ حيث إن قوات تدريب الضباط التي تضغط بلا هوادة لتعميق سياسات الليبرالية الجديدة قد لعبت دورًا رئيسيًا في صياغة المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لحركة الاحتجاجات الشعبية التي ضغطت على النظام الملكي لإجراء إصلاحات حقيقية خلال الفترة بين 2010 و2013م. لقد كان الأمر منطويًا على تحدي نتيجة سعي الضباط إلى تعديل الامتيازات وزيادتها أكثر من سعيهم لتغيير جوهري في ميثاق اجتماعي أو اقتصاد سياسي، لكنها برهنت على إمكانية حدوث نشاط عسكري وما يترتب عليه من انقسام حاد داخل النظام الحاكم الراسخ  والمستقر. وعلى النقيض فإن فشل الانتقال الديمقراطي في مصر مؤخرًا أو الجزائر قبل عقدين كشف أن الشروط الاجتماعية اللازمة لدعم التحول في العلاقات المدنية العسكرية - مثل ما حدث في تركيا بحلول عام 2002م في أعقاب صعود قوي برجوازية "جديدة" مستقلة من الدولة ضمن سياق الليبرالية الجديدة – لم تعد موجودة بعد في معظم الدول العربية.

ليس في صالح الديمقراطية

التحدي الذي تواجهه الدولة العربية كبير ومتنامي، حتى وإن لم تعاني الدولة من أزمة حالية فإنها على وشك مواجهة أزمة مستقبلية: الشعوب العربية اليوم تجاوز عددها تقريبًا ثلاثة أضعاف ما كانوا عليه بين 1950-1970م. كما أنها أكثر من ضعف ما كانت عليه في 1973-1974م مع بداية التوسع الهائل في قطاع الدولة المعتمد على واردات النفط، والقوات المسلحة ليست خارج المنظومة، وتنوعت كافة المجالات من سياسة واقتصاد واجتماع وبيروقراطية فضلاً عن ازديادها تعقيدًا. العلاقات المدنية العسكرية التي كانت قابلة للتطبيق في السابق أصبحت أقل استدامة، في حين أن الاتجاه نحو بناء جيوش "جديدة" متخصصة في تقنيات السيطرة على السكان يشير إلى تشعّبٍ داخل الجيش يتوافق مع التشعبات المتعددة داخل المجتمعات.

الأهم من ذلك؛ هو أنّ هذه الاتجاهات تميل للعمل ضد - وليس لصالح - الانتقال السلمي أو الديمقراطي، وإحراز تقدم نحو السيطرة المدنية الديمقراطية على القوات المسلحة ولو من خلال عملية تدريجية صعبة وبطيئة للغاية. وسواء أكان الدور السياسي للجيش بالتعاون مع الأنظمة الاستبدادية والنخب الاجتماعية والاقتصادية القوية علنيًا وصريحًا أو لا، فإن شرعيته أو عدمها بين عامة الناس لن تُستمد من مفاهيم مجردة من سيادة القانون والخضوع للسلطة المدنية ودعم المسار الديمقراطي، وإنما من خلال تصور ملموس بين القطاعات المجتمعية الهامة بأن الجيش يحميهم من المنافسين الذين يروّجون لنظام اجتماعي بديل يعتبرونه تهديدًا جوهريًا.

هذا هو الدرس المأساوي في مصر والبحرين وسوريا منذ عام 2011م، ولا يزال التحول التدريجي نحو علاقة بين المدنيين والعسكريين أكثر توازنًا في تونس جاريًا، وحتى الصياغات المختلطة المضطربة من العلاقة المدنية العسكرية في اليمن وليبيا تشير أيضا إلى مسارات أخرى محتملة.

المصدر | يزيد الصايغ، واشنطن بوست

  كلمات مفتاحية

الجيوش العربية الإرهاب داعش الانقلاب العسكري الربيع العربي العسكرة

الجيوش العربية تُبعث من جديد على وقع الربيع العربي

الانهيار الكارثي .. ماذا تبقى من العالم العربي؟

باحثون أمريكيون: الإسلاميون ليسوا أعداء الديمقراطية بالشرق الأوسط

العلاقات المدنية العسكرية: ما الذي تشترك فيه جيوش أمريكا والصين وباكستان ومصر؟