الجيوش العربية تُبعث من جديد على وقع الربيع العربي

السبت 6 ديسمبر 2014 09:12 ص

أدت الثورات العربية وتوابعها إلى عسكرة العالم العربي بشكل عميق. وتباينت العسكرة بين الجمهوريات والأنظمة الملكية. فعلى مستوى الجمهوريات؛ اتخذت العسكرة شكل إعادة التسليح في مصر، وترسيخ قوة الجيش في الجزائر، واستعداد الجيش التونسي لتولي دورًا في المستقبل لم يعتاده في السابق. وهناك بعض الجمهوريات يخوض فيها الجيش الموالي للنظام معارك ضد المليشيات المنبثقة عن الحركات الاحتجاجية، وكلا الجانبين فيها يتلقيان الدعم الخارجي.

أما في الأنظمة الملكية؛ فقد عززت الأسر الحاكمة جيوشها عن طريق زيادة قدراتها وإمكانياتها واشتراكها في مهام جماعية بهدف مواجهة ووأد أي ثورات تحدث في أي مكان في العالم العربي في المقام الأول، وربما أيضًا كجزء من تكثيف الصراع على السلطة داخل الأسرة الحاكمة ذاتها.

وتضمن هذه العسكرة تواجد الولايات المتحدة في المنطقة بشكل أو بآخر باعتبارها من يتحمل مسئولية التوريد والتدريب والتشغيل لقواعد مستقلة، فضلاً عن لعبها دور منسق حملات الحرب على الإرهاب.

تطور خطير

تُعدُّ هذه العسكرة بمثابة تطور خطير في العالم العربي؛ حيث إن الجيوش التي كانت مجرد قوات عروض برية كما في تونس ودول مجلس التعاون الخليجي، والجيوش الضامنة للسلام كما في مصر باتت تجدد نفسها وتنشط دورها في الوقت الراهن ليس فقط لمكافحة التهديدات الداخلية ولكن أيضًا لتصبح قوات تدخل سريع لمواجهة ”الإرهاب“، فضلاً عن مواجهة عدم الاستقرار في الدول المجاورة. وفي الوقت الذي يتم توجيه معظم الاهتمام فيه إلى الوجه السياسي الجديد في جمهوريات مثل مصر، فإن عواقب العسكرة في ممالك الخليج قد تكون في الواقع أكثر خطرًا. 

بالنسبة للأنظمة الجمهورية؛ لا يعرف حاملو البنادق للراحة طعما. ففي مصرالتي يقودها المشير السابق «عبد الفتاح السيسي» كان الجيش قويًا بما فيه الكفاية لردع أي قوات أوجدها الربيع العربي. لكن تبقى قاعدة الجيش أضيق من أن يقوم عليها نظام جديد. ومع ذلك؛ فإنه بعد هزيمة الجيش لجماعة الإخوان المسلمين والثوار يتعين على «السيسي» أن يدعوا إلى ائتلافه المنتصر– جهات فاعلة حكومية وغير حكومية – للقيام بمهام السياسة والاقتصاد والإدارة. وتشمل قائمة المرشحين العديد من الرأسماليين والبرجوازيين وغيرهم من بقايا نظام «حسني مبارك» والإسلاميين من غير الإخوان المسلمين ووجهاء القبائل وأعضاء النقابات وآخرين. ويدل هذا النطاق الواسع من الخيارات على قوة ملاحظة الجيش في الوقت الذي اتسمت فيه الجهات الفاعلة الأخرى بالضعف. (في الصورة: قوات الجيش المصري تستعد لمظاهرات انتفاضة الشباب المسلم 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بالقاهرة) 

مُعظم عمليات تلميع صورة الجيش جعلته ينأى بنفسه عن سنده الرئيسي في الخارج والمتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية؛ كما جعلته يظهر ضد الولايات المتحدة في صورة تجسيد للناصرية الجديدة. وتشمل التناقضات في هذا الموقف الاعتماد الحقيقي على كل من الولايات المتحدة والسعودية؛ وهو الأمر الذي يصبح أكثر وضوحًا لدى المصريين مع مرور الوقت. وفي الوقت الحاضر؛ فإن الرغبة العامة للتعتيم على هذه التناقضات تُظهر عمق الخلل لدى جميع الجهات الفاعلة العسكرية والمدنية، كما يدل على اليأس في حياة أفضل، والتي يُعتقد أنه لا يقدر على تحقيقها إلا رجل الجيش القوي. 

وفي تونس؛ فقد حمى الجيش الساحة السياسية التي تنافست فيها القوى على السلطة بدرجة كبيرة، كما يواجه في الوقت ذاته مختلف العناصر الجهادية. ويتمتع الجيش التونسي الذي كان بمثابة الحاضن لثورة تونس في الوقت الراهن بوضع أفضل بكثير مما كان عليه في عهد الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة أو زين العابدين بن علي.

وفي الجزائر لم يكن هناك ربيع عربي يمثل تحديًا للحكم العسكري بشكل غير مباشر، ورغم ذلك أبقى الجيش عينه على السلطة خوفًا من ظهور منافس متربص. ونجح الجيش الجزائري - أحد أقوى جيوش الجمهوريات على الرغم من الانقسامات الداخلية– في إعادة تأكيد سيطرته على السلطة على حساب وزارة الداخلية، وحتى قسم الاستخبارات والأمن التابع للداخلية نجح الجنرالات في إحكام سيطرتهم عليه. ولا يزال مصير القوات الغامضة المتحالفة مع الجيش والتي شكلت قوات الصاعقة ضد المتمردين الإسلاميين خلال الحرب الأهلية غير معروف، ولكن يُفترض أنها لا تزال موجودة ويمكن تعبئتها مرة أخرى إذا لزم الأمر.

لقد تم تفتيت الجيوش في الجمهوريات الأخرى، والتي يُعدّ نظامها المؤسسي أقل درجة مما هو عليه في مصر وتونس، وقد تجلت عودة السلطة القسرية التي تمارس الاستبداد بشكل كبير في صورة مليشيات. بقايا الجيش الليبي؛ والتي كانت تابعة لمعمر القذافي ثم تحوّلت إلى كتائب مستقلة يقودها أحد أبنائه أو حلفائه القبليين، وقد عانت تلك القوات مزيدًا من التهميش من جانب المليشيات المُنتصرة، وهي الآن تحاول العودة من جديد تحت قيادة الجنرال «خليفة حفتر» أو مع الميليشيات المتحالفة له في الزنتان. وتواجه عملية إعادة تشكيل المليشيات العسكرية معارضة شديدة من أنصار الشريعة والمليشيات القبلية والإقليمية الأخرى والتي ازدهرت في فراغ من سلطة الدولة، وترتكز معظم تلك المليشيات في مصراتة.

ولا تختلف الجيوش والمليشيات في سوريا واليمن قبل وبعد الربيع العربي كثيرًا عن ليبيا. تفتت الجيش في كل من سوريا واليمن إلى مليشيات عدّة يقودها حلفاء الرئيس بدافع العصبية أو القبلية أو الطائفية. وعززت الحرب الأهلية في سوريا دور المليشيات الأكثر قربًا من الرئيس «بشار الأسد» في الوقت الذي تم فيه تهميش دور قطاع أكبر من قوات الجيش بعد أن أخذت «قوات الدفاع الوطني الجديدة» التي دربتها إيران مكانها، بالإضافة إلى «حزب الله» والمرتزقة. 

أما الجيش اليمني الذي استغله الرئيس السابق «علي عبد الله صالح» في بسط نفوذه على البلاد وبنى قيادته وإدارته على أساس قبلي فقد تم استكماله بالمليشيات القبلية، ويبدو أنه المؤسسة السيادية المتبقية التي تقف بين استمرار الوحدة الإقليمية والدولة الفاشلة، وتبذل الولايات المتحدة جهودًا محمومة لدعمه. وفي الواقع فإن انهيار قوات الجنرال «علي محسن الأحمر» في سبتمبر/أيلول الماضي، فلم يعد هناك النواة صلبة متبقية من الجيش إلا الجزء الذي يقوده «أحمد» نجل «علي عبدالله صالح»، في الوقت الذي وصلت فيه المليشيات المرتبطة بحركة «الإصلاح» الإسلامية إلى مستوى القوات المسلحة الرئيسية في منطقة الشمال التي يسيطر عليها السنة. وتشير القوة المتزايدة للمليشيات الحوثية الزيدية المعروفة باسم «أنصار الله» والحركات الانفصالية - المعروفة باسم الحراك - في الجنوب ناهيك عن مختلف القوى الجهادية التي يأتي تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» على رأسها، بالإضافة إلى تزايد التحالفات التكتيكية بين تلك الحركات المتنافسة المختلفة إلى أن الجيش السوري واليمني يفقدان طابعهما المؤسسي تدريجيًا ما يحول دون بقائهما متماسكين وموحدين بعد تحديات الربيع العربي.

الجيش العراقي الذي أُعيد بناءه على أساسات الجيش الذي فككه نائب القنصل الأمريكي 2003م «بول بريمر» بدا أن الولايات الامريكية أعطته أولوية أكبر من اهتمامها بالجيش السوري أو اليمني، والسبب في المقام الأول راجع إلى سعي واشنطن لبناء دولة مكتملة الأركان في العراق، ومنذ ذلك الحين اتخذ رئيس الوزراء السابق «نوري المالكي» ذلك الجيش كوسيلة لفرض سيطرته على البلاد. وواصل الجيش انهياره أمام مواجهات المليشيات القبلية السنية وتنظيم «الدولة الإسلامية» خلال الربيع والصيف من العام الحالي ما كشف مدى هشاشة الأساسات التي بنت عليها تلك الدولة الطائفية جيشها الوطني. واضطر «المالكي» وخليفته «حيدر العبادي» - مثل نظرائهم السوريين واليمنيين – أن يتحولوا بشكل ملحوظ إلى حلفائهم من المليشيات الشيعية في صراعهم من أجل البقاء والحفاظ على سلطتهم داخل بلادهم.

عسكرة الأنظمة الملكية 

الأمر بالنسبة للأنظمة الملكية على النقيض تماما؛ فقد جمعت الأسر الحاكمة زمام السلطة في يدها، وليس هناك جيوش أو مليشيات. وللوهلة الأولى يبدو أن ثورات البلدان المجاروة لا تؤرق تلك الأنظمة الملكية الحاكمة إلى حد كبير. لكن وجهة النظر تلك قد تكون قاصرة؛ حيث إن هناك مؤشرات على ما يمكن أن يكون تحولاً تاريخيًا للسلطة من الأسرة الحاكمة إلى الضباط، تمامًا كما حدث قبل نحو جيلين أو ثلاثة في معظم الجمهوريات.

خوفًا من الثورات العربية عززت الأسر الحاكمة جيوشها؛ ليس فقط فيما يتعلق بزيادتها كمّا عن طريق التجنيد في بعض الحالات، ولكن أيضا من خلال رفع مستوى التسليح والمعدات، والتركيز بشكل أكبر على البعد الأمني لسياساتها الداخلية والخارجية. التركيز المبالغ فيه على مكافحة الإرهاب مع رسم خطوط في الرمال بين الوطنيين والجهاديين سواء بشكل واقعي أو تخيلي أثار مخاطر سياسية وتوترات في وقت يعتمد فيه الحاكم الملكي على الإكراه لتحقيق التبعية له، ومن ثمّ استتباب الأمور. 

وقد شملت استراتيجيات الأنظمة الملكية في صمودها ضد الانقلاب مزيجا من وضع أفراد الأسر الحاكمة في قيادة الجيوش، والإبقاء على حجم الجيوش صغيرة نسبيا، والموازنة بين الجيوش والأجهزة الأمنية، وتقسيم الجيش نفسه، وتجنيد المرتزقة. وربما تلك الثقة هي التي قادت إلى هذا النجاح الذي حققته الممالك الرئيسية في دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها السعودية، فقد دعمت القوات المسلحة - عندها أو عند غيرها - لمواجهة الثورات دون أي تفكير صريح في العواقب المترتبة على السيطرة على تلك الجيوش. وأعلن مجلس التعاون الخليجي في ديسمبر/كانون الأول 2013م عن تشكيل قيادة عسكرية مشتركة تتكون من مائة ألف ضابط وجندي يكون مقرها العاصمة السعودية الرياض.

وفي مارس/آذار من العام الجاري وجه مجلس التعاون الدعوة للأردن والمغرب لتشكيل تحالف مقابل ”مساعدة مالية“ غير محددة. ومن الناحية النظرية فإن انضمام الأردن والمغرب سيرفع قوات مجلس التعاون الخليجي إلى حوالي 300 ألف ضابط وجندي. وأعلنت معظم دول مجلس التعاون الخليجي عن عزمها تعزيز قدراتها العسكرية. وأعادت الكويت في مطلع العام الجاري بناء قواتها إلى مستوى ما قبل عام 1990م والذي كان 17 ألف جندي. وأعلنت قطر في نوفمبر 2013م ثم الإمارات العربية المتحدة في يناير 2014م عن فتح باب التجنيد الإلزامي، بينما أعلنت الكويت عن دراستها لتلك الخطوة هي الأخرى. وأعلنت الإمارات في مطلع 2014م عن مضاعفة واردتها دولار الدفاعية لتصبح ثلاثة مليارات بحلول 2015م، مع الأخذ في الاعتبار أن الإمارات منذ عام 2007م تحتل المرتبة الثانية خلف المملكة العربية السعودية في واردات الأسلحة الأمريكية من خلال برنامج المبيعات العسكرية الخارجية. 

وتعكس هذه التدابير وغيرها تغييرًا نوعيًا كبيرًا في دور الجيوش في الأنظمة الملكية، على الأقل في دول مجلس التعاون الخليجي. ويجري إعدادهم لدور رئيسي في تنفيذ ”تيرميدور عربي“ متى كانت هناك حاجة إليه. ويسعى أعضاء هذه الأسر الحاكمة للسيطرة على الأقل على بعض مكونات الجيش ضمن صراعات الخلافة المتوقعة.

وتدل محاولات العاهل السعودي الملك «عبد الله» أنه يحاول ضمان سير الخلافة في نسله ويعتمد في ذلك بشكل كبير على السيطرة على الحرس الوطني، والذي تم تطويره في عهده إلى قوة أكثر فعالية من الجيش نفسه، ناهيك عن أنه صار في قبضة ابنه «متعب». سيطرة «آل خليفة» على الجيش البحريني و«الصباح» على الجيش الكويتي وهلم جرا في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي ترجح نفس طريقة العاهل السعودي للحفاظ على الخلافة؛ نظرًا لتشعّب هذه الأسر الحاكمة، واشتعال الخلافات بينها، واشتداد السباق على السلطة بين الأمراء.

أصبحت الجيوش في الأنظمة الملكية سلاحًا له حدين. فهي من ناحية تمتلك القدرة الحقيقية على إخضاع الثورات في الداخل أو في الخارج المجاور، ومن ناحية أخرى يجري استدراجها بشكل مباشر إلى السياسات بين النُخب في الأسر الحاكمة، ما يجعلها نفسها عرضة للتفتيت إلى حكم ملكي. وفي الوقت الذي تزداد فيه رهانات العسكرة والتدخل العسكري فإنه يتزايد معها احتمالية الانقسامات داخل الأسرة بين المعتدلين والمتشددين، ويبدو ذلك أكثر وضوحًا في البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية. وتفتح مثل هذه الانقسامات داخل الأسرة بدورها آفاقًا لضباط غير ملكيين أو حتى لضباط صف بالتحالف مع القوى الثورية كما هو الحال في إيران عام 1978-1979م.

وخلاصة القول، فإن الجيوش الملكية قد ازدادات قوتها كمًا وكيفًا بشكل كبير نتيجة الثورات العربية. ولا تزال تلك الجيوش في الوقت الحاضر تحت سيطرة الأسر الحاكمة الملكية لكنها اكتسبت قدرة على تكثيف الانقسامات داخل هذه الأسر الحاكمة، وبالتالي تخلق فرصا لوصول طوائف من الشعب إلى الحكم - سواء الضباط أو المدنيين–في الوقت الذي يزداد فيه حجمها وقدراتها. 

المصدر | روبرت سبرينجبورد، واشنطن بوست

  كلمات مفتاحية

الربيع العربي الجيوش العربية جيوش الخليج الحرس الملكي السعودي العسكرة

تحولات العلاقات المدنية العسكرية في العالم العربي لا تصب في صالح التحول الديموقراطي

«محمد بن راشد» يشيد بالقوات المسلحة الإماراتية ويصفها بـ«أحد أقوى جيوش المنطقة»

«ديفيد هيرست»: الثورات العربية ستنجح بفضل القيادات الشبابية

«الوليد بن طلال»: انتخاب «السيسي» ضربة قاصمة للإخوان ولـ«الربيع العربي»

الوحدة العربية .. ضرورة حتمية

رئيس الأركان المصري يؤكد ضرورة الانتهاء من تشكيل «القوة العربية» قبل 29 يونيو

حروب العرب ستستمر والمخرج ما زال بعيدا

السعودية تتقدم 3 مراكز في تصنيف أقوى الجيوش ومصر تتراجع 5 مراكز

الجيوش الخمسة الأشد فتكا في الشرق الأوسط

السعودية تتقدم بالتصنيف العالمي لأقوى جيوش العالم في 2016

العلاقات المدنية العسكرية: ما الذي تشترك فيه جيوش أمريكا والصين وباكستان ومصر؟

الجيوش والسياسة.. ما الذي حققه الربيع العربي؟