رفح التي «لا» أعرفها 

الخميس 11 ديسمبر 2014 03:12 ص

في الطريق إلى مدينة رفح، المصرية، على الحدود مع قطاع غزة، لا مفرّ من الانتظار لأكثر من ساعتين في الموقف الجديد في مدينة العريش شمالي سيناء. فلا أحد يستعجل التحرك بعدما انخفض، نسبياً، عدد المسافرين عقب إخلاء المنطقة الحدوديّة من سكانها.

في التاسعة صباحاً تحرّكت السيارة، سالكة طريقاً التفافية بعيدة عن الطريق الدولية (العريش ـ رفح) المغلقة بخمسة حواجز نصبها الجيش، فحتى السيارات المدنية تتعرض لإطلاق النار في حال اقترابها من تلك الحواجز، وأزهقت بالقرب منها أرواح أبرياء خلال الأشهر الماضية.

بعد ساعة ونصف وعشرات الالتفافات في الطريق الفرعية، وصلت السيارة إلى مدينة الشيخ زويد، التي تبعد عن العريش قرابة 35 كلم. من هنا تبدأ رحلة جديدة نحو رفح عبر طريق ترابية موازية للطريق الدولية. أيضاً هنا ثلاثة حواجز تطلق الرصاص التحذيري على الناس، فيما يتكفّل عجوز بطمأنة الرّكاب إلى أنّ إطلاق النار نحو السماء. 

في المسافة ما بين الشيخ زويد ورفح (10 كلم فقط)، توقفت السيارة ساعتين ونصف الساعة حتى تمر الآليات والأرتال الأمنية إلى الطريق الدولي الموازي، وبعدما بلغت السيارة مشارف رفح توقف السائق أمام مدخل حي الصفا، بعيداً عن وسط المدينة، فلم تفلح محاولات الركاب في إقناعه بأن يستكمل طريقه، لأن ذلك ممنوع بأمر الجيش، كما قال.

ترجل الكبار والصغار ليقطعوا كيلو متراً على الأقدام، بين الطين المبتل بمياه الأمطار، وهدفهم الوصول إلى حي صلاح الدين قرب الشريط الحدودي الممتد لنحو 13 كلم بين سيناء وغزة. للوهلة الأولى، هذه ليست رفح، أو على الأقل رفح التي أعرفها ومن معي. حطام المنازل التي كانت مأهولة قبل أيّام ممتدة على مرمى البصر، وتحولت إلى ما يشبه جثثاً مكوّمة فوق الأرض بعد تهجير سكانها، قسراً، والكل يتحدث عن باقي مراحل المنطقة العازلة على الحدود.

بيوت فخمة مبنية من الحجر صارت مستندة إلى أعمدتها الخرسانية، وبعض «الفيلات» تحوّلت إلى ركام. بين هذه اللوحة الاسمنتية ترقد منازل لمواطنين بسطاء مبنية بالطوب. لقد وحد الدمار الناس، ورمى بأحلامهم على الأرض.

خطر ببالي أن أذهب لأتفقد النصب التذكاري للجندي المجهول. إنه لا يزال بخير. منه إلى اليسار يمكن الذهاب إلى حي صلاح الدين التجاري الذي كان يعتبر «داون تاون رفح»، ويحوي عشرات المحال التجارية التي تميزت ببيع المنتجات الفلسطينية القادمة من غزة. لكن كلّ هذا بات نسياً منسياً.

بين الأنقاض، كان الطفل ثائر القنبز يتنقل بصحبة عدد من أصدقائه وهو يشرح لهم خريطة منزله المهدوم. «هنا كانت غرفة نومي، وهنا كانت غرفة الضيوف، وهنا كنت ألعب». مشاعر مختلطة ترافقت مع حزم هذه العائلات أمتعتها، فيما آخرون يغادرون المكان وعيونهم معلقة ببيوتهم.

في ساعات النهار التالي، يهرول السكان ممن خسروا بيوتهم إلى مجلس المدينة، حيث لجنة التعويضات، وذلك لتسلّم شيكات مالية بدلاً من منازلهم، لكنهم يجبرون على التوقيع على إقرارات مهينة، تمنعهم من شراء منزل أو أرض، كما تمنعهم من البناء في محيط خمسة كيلومترات داخل رفح. المضحك المبكي أن السلطات تقتطع جزءاً من مبالغ التعويضات، هي قيمة المتفجرات التي استخدمت لتدمير منازل «النازحين». 

الخوف والتوجس من كل شيء صار سمة الناس بعدما تعرّضوا، كما يقولون، لمختلف أنواع الغدر والتجسس من أشخاص تدفع بهم الجهات الأمنية إلى جلب المعلومات. بات الجميع زاهدين في الحديث إلى وسائل الإعلام، بل عدوّهم الأول هو الكاميرا. يأسفون لأن بعض الصحف شوّهت صورتهم، ونعتتهم بأنهم يدعمون «الإرهاب» ويعملون ضد الأمن القومي.

عدت، ومن معي، محمّلين بآلاف المشاهد المريرة... ما بين الحطام والدمار، وملامح الانكسار على وجوه الكبار، وخوف الصغار. لقد صارت مدينة رفح التي كانت قبلة للزائرين والمسافرين على شفا الغياب.

 

المصدر | محمد سالم، الأخبار اللبنانية

  كلمات مفتاحية

مصر رفح سيناء حرب غزة

قرى مصرية مهجرة.. الملف الأسود المنسي لعهد «السيسي»