البنك الدولي وطلاسم اللغة الاقتصادية

الخميس 1 يونيو 2017 12:06 م

لا يُعرف عن علماء الاقتصاد براعتهم ومهارتهم في التعامل والتواصل مع عامة الناس. ونحن نرى كيف أن التقارير الاقتصادية تكون مصاغة بأسلوب غامض يغلب عليه الطابع الرسمي المتخصص والمثقل بالعبارات المتكلفة، فضلاً عن إغراق النصوص بالمصطلحات والتعاريف الرياضية البحتة. وبالنسبة لغير الاقتصاديين المتخصصين، يكون الغوص في هذه المتاهة من الألفاظ والمصطلحات التي تعج بها التقارير الاقتصادية مهمة مستحيلة في أغلب الأحوال.

والسؤال هنا: لماذا تكون اللغة الاقتصادية عويصة وصعبة الفهم إلى هذا الحد؟

هناك تفسير مبسط لهذه الظاهرة مفاده أن الاقتصاديين هم في حقيقة الأمر أناس حاذقون في استخدام لغة الرياضيات والحساب، اللغة التي لم تشتهر كوسيلة جيدة للتواصل بين الناس. وهناك هدف مقصود من هذا الإفراط في التخصص اللغوي، وهو خلق لغة سرية «أو رطانة» لا يفهمها إلا «أهل البيت» من الاقتصاديين المتخصصين، ومنع غيرهم من استيعابها والتمعّن فيها.

لكن الأمر لم يخلُ من ظهور بعض عتاة الاقتصاديين ممن حاولوا تغيير هذا الواقع. ومنهم الاقتصادي الخبير في البنك الدولي «بول رومير». وبمجرّد تقلّده رئاسة قسم البحوث في البنك العام الماضي، تبنى حملة واسعة مضادة للنصوص الاقتصادية المغرقة في تخصصها، لكنّه فوجئ بحملة مضادة قادها باحثون معارضون لإكراهه على التنازل عن مواصلة حملته.

ولم يكن «رومير» أول إصلاحي يتعرض للفشل في هذه المهمة، بل سبقه مدير البنك الدولي ذاته «جيم يونج كيم» الذي أطلق عام 2014 محاولة لإعادة هيكلة البنك، بما في ذلك طريقته في طرح الخطاب الاقتصادي، لكن ذلك أحدث اضطراباً كبيراً في الأوساط المالية كان كافياً لإقناعه بوضع حد لحملته.

ورغم أن جهود «رومير» لم تؤدِّ إلا إلى نتائج محدودة، فإنها كانت محاولة جيدة. ويكفي أنها أكدت أن البنك الدولي بحاجة لتغيير شامل، وأن المشكلة أبعد من أن ترتبط بصعوبة التواصل مع عامة الناس باستخدام اللغة الاقتصادية الراهنة.

ولا بد من الإشارة أولاً إلى أن المهمة الأساسية للبنك الدولي هي إقراض الأموال للدول النامية، لكن هذه المهمة بحد ذاتها بدأت تفقد أهميتها تدريجياً، وفي 2015، أشار الباحثان الاقتصاديان في البنك، سكوت موريس ومادلين جليف، إلى أن النمو السريع للاقتصاد العالمي خلال العقود الأخيرة يعني أن معظم دول العالم لم تعد بحاجة للبنك بعد الآن.

وقال الباحثان: «سوف يواصل البنك دوره في عدد قليل من الدول ذات الاقتصادات الهشّة، لكن نموذج الإقراض الأساسي للبنك لم يعد متطابقاً مع مصالح المقترضين».

واقترح موريس وجليفز أدواراً أخرى يمكن للبنك التكفل بها؛ مثل مجابهة الأمراض الوبائية، وتمويل مراكز البحوث العلمية، ومنح القروض المحلية والبلدية.. أو بشكل عام ممارسة عمله كمركز للبحوث والاستشارات الاقتصادية. لكن هذا التوجّه لا يبدو مشجعاً؛ لأنه يشير إلى أن البنك ابتعد عن عمله الأساسي. وفي 2014 تساءلت صحيفة «فاينانشيال تايمز» عما إذا كان البنك قد بدأ يفقد بالتدريج المعنى الحقيقي لوجوده.

وفي هذا الوقت بالذات، تواجه المؤسسات المنبثقة عن البنك الدولي مثل صندوق النقد الدولي، مشاكلها الخاصة بها. وبعد أن تأسس هذا الصندوق بهدف تقديم القروض العاجلة للدول التي تواجه أزمات طارئة، اشتهر بتشجيعه لسياسة التقشف المالي التي أدت غالباً إلى زيادة الأوضاع تأزماً في الدول المعنية.

وخلال السنوات الأخيرة، بادر فريق من خبراء الاقتصادات الضخمة، يقوده الاقتصاديان أوليفير بلانكارد وموريس أوبستفيلد، إلى عكس السياسات المالية المتبعة في هذه المنظمة، لكن هذا الإجراء أدى إلى زيادة التساؤل عن المبرر الذي دفع مؤسسات صناعة القرار المالي للسماح للصندوق بالإبقاء على مثل هذه السياسات الخاطئة قائمة خلال هذه الفترة الطويلة.

والآن، بدأت صورة المؤسسات المالية العالمية بالبروز والتي تتميز بأنها أكثر ميلاً للمحافظة والانكفاء على الذات. وبعد أن واجه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التغيرات الطارئة على الاقتصاد العالمي وعلى طريقة فهم الاقتصاديين لأسباب الركود، فقد رفضت هاتان المؤسستان هذه التغييرات بدلاً من الترحيب بها. وكان من المتوقع دائماً أن يبادر العالم إلى دفع رواتب كبار الاقتصاديين والاستماع إليهم عندما يقدمون النصائح.

إلا أن تطبيق فكرة «البرج العاجي» هذه على المنظمات المعنية بشؤون العالم قد يؤدي لنتائج غير مقبولة في كثير من الحالات.

المصدر | نوح سميث | خدمة «واشنطن بوست وبلومبرغ نيوز» - ترجمة الاتحاد الظبيانية

  كلمات مفتاحية

البنك الدولي البرج العاجي طلاسم اللغة الاقتصادية لماء الاقتصاد التقارير الاقتصادية المصطلحات والتعريفات الرياضية الإفراط في التخصص اللغوي خلق لغة سرية «رطانة»