دور الوقف في تحصين القطاع المالي

الاثنين 10 يوليو 2017 11:07 ص

ركز معظم الدراسات التي تناولت مسيرة الوقف التاريخية، على الجوانب الخيرية والإنسانية فقط، وفي بعض الأحيان، كانت تتطرق لدور الوقف التنموي الاجتماعي والاقتصادي الذي يمارسه بتوظيف الأموال والأصول لتعزيز البنية الإنتاجية والتجارية والخدماتية للدولة.

لكن هذه الدراسات لم تتطرق إلى الدور الكبير لوقف الأموال في معالجة ظواهر مالية سلبية مثل التضخم وغلاء الأسعار واختفاء السلع وضعف القدرة التشغيلية للمؤسسات. فدوره في هذا السياق لا يقل أهمية عن دوره في رعاية المحتاجين وتحقيق مقاصد الشريعة التي تحض على التكافل الاجتماعي بين المواطنين، بل بين البشر مع اختلاف جنسياتهم وعقائدهم في شكل عام.

وفي ظل التعقيد الذي تشهده أسواق المال العالمية اليوم، تبرز أهمية وقف الأموال على وجه التحديد، لأنها تساعد في ضبط قوانين القطاع المالي وحماية الأسواق من الأزمات والحفاظ على التوازن بين حجم المال المتداول وكمية السلع المطروحة في مقابله، هذا التوازن الذي يتفق المنظرون الاقتصاديون على أهميته في تنشيط حركة الاقتصاد العالمي وتعزيز إنتاجيته وحمايته من الأزمات.

ويتطرق هذا المقال في شكل مختصر، لما للوقف من أثر إيجابي في ضبط مستويات العرض والطلب في الأسواق، وفي الحد من التضخمات وبناء ثقافة استهلاكية إيجابية تتناغم مع قوة إنتاج المجتمع ولا تتجاوزها.

صحيح أن قضية وقف الأموال شهدت خلافاً تاريخياً بين الفقهاء، إلا أنها حسمت لمصلحة مشروعيتها شرط أن تتحول الأموال الموقوفة إلى أعيان، أي أصول ومشاريع تدّر عائدات يصرف الجزء الأكبر منها على الفقراء ويوظَّف الجزء المتبقي لتنمية هذه الأصول وصيانتها.

إن الشروط الشرعية التي رسمت إطار التصرف بالأموال الموقوفة ساهمت في شكل مباشر في صيانة القطاع المالي وحماية الأسواق من التضخمات، لأن الأموال الموقوفة خرجت من دائرة التداول التقليدية، أي دائرة استهلاك السلع غير الأساسية، وخففت من حجم السيولة المعطلة في الأسواق وسحبت جزءاً كبيراً من السيولة المستخدمة في المضاربات المالية والمراهنات على أسعار العملات والمعادن الثمينة ووجهتها نحو مجالات التشغيل الشرعية للثروة، اي الإنتاج الحقيقي للسلع والخدمات والأصول.

معروف أن زيادة كمية السيولة في الأسواق تضعف القدرة الشرائية للعملة، أما توظيف هذه العملة في المضاربات المالية على حساب دورها في الإنتاج، فيؤدي في النهاية إلى تضخم القطاع المالي وتحوله إلى فقاعة نتيجة غياب الأصول والسلع التي تقابله في الأسواق، فيصبح الوقف في هذه الحالة مثابة آلية لامتصاص السيولة الزائدة وتوظيف الثروة في الإنتاج الحقيقي الذي يخلق فرص العمل ويرفع الطلب على المواد الأولية اللازمة لعمليات الإنتاج.

الميزة الثانية للوقف النقدي أنه يوفر السيولة للقروض الحسنة لمن يريد أن يبدأ مشروعه الخاص من دون فائدة، وكما قيل «الفائدة وقود التضخم» لأنها ترفع كلفة التمويل على المنتج وكذلك سعره النهائي أمام المستهلك، وتجعل المداخيل غير كافية لتلبية الحاجات الأساسية للأفراد.

إن الإقراض من دون فائدة الذي توفره السيولة في صناديق التمويل الوقفي، يلعب دوراً كبيراً في تخفيف حدة البطالة وإتاحة المجال لمن لديهم مواهب وأفكار حول مشاريع إبداعية جديدة للمساهمة في دعم الاقتصاد الوطني،. وفي هذه الحال تكون مؤسسات الأوقاف مثابة الجسر الذي ينقل المال المعطل من مالكيه الأصليين إلى أولئك الذي يحتاجونه لتأسيس أعمالهم، أي تعمل الأوقاف على ضمان استمرار فاعلية المال الإنتاجية وتمنع اختزانه وكنزه وحرمان المجتمع من ثماره.

أما الميزة الثالثة للوقف النقدي والتي تضاف إلى دوره في الحد من التضخم وندرة المنتجات، فهي أنه يساهم في إنشاء الوقف الجماعي، أي المشاريع الوقفية ذات الملكية الجماعية التي يتشارك فيها عدد كبير من الناس بنسب متفاوتة من رؤوس الأموال. والوقف الجماعي يوسع قاعدة الملكية الاجتماعية للمشاريع ووسائل الإنتاج، ويعزز قيم التعاون والشراكة على تحقيق الخير، والأهم من كل ذلك أن المشاريع الوقفية الجماعية تخفف من حدة احتكار الأسواق وتفرد شركات بعينها في وضع أسعار المنتجات والخدمات.

الميزة الرابعة هي ان الوقف النقدي يتيح فرصة مساهمة الجمهور في شكل أوسع مما هو متاح في الوقف العيني، فالأعيان أو الأصول باهظة الثمن، وليس الجميع قادر على امتلاكها وإيقافها، لكن الوقف النقدي فهو ممكن بأي قدر من المال يستوفي الشروط التي تمنحه المشروعية، وهكذا يصبح الوقف مجالاً مفتوحاً للمساهمة العامة وليس مقتصراً على نخبة اجتماعية بعينها.

والميزة الخامسة للوقف النقدي، أنه يخفف من أعباء الدولة بخاصة في ظل التقلبات الاقتصادية المحلية والعالمية، ويوفر مصادر ذاتية لتمويل المشاريع الوقفية الخيرية وللصرف على ترميم المنشآت وإدارتها، وهكذا يحافظ القطاع الوقفي الاستثماري على حيويته مهما اختلفت الحالة الاقتصادية العامة، بل إن حماية القطاع الوقفي بوصفه قطاعاً إنتاجياً اجتماعياً يساعد في حفظ حيوية الاقتصاد الوطني عموماً.

إن قضية وقف الأموال تتخذ أهمية خاصة في ظل ما نراه من متغيرات على ساحة الاقتصاد العالمي، وفي ظل ما يعانيه الكثير من الدول الإسلامية بسبب عدم توظيف الثروات والموارد بالطريقة التي تخدم أوسع قطاع ممكن من الجمهور.

قدّر البنك الإسلامي للتنمية أموال الأوقاف حول العالم بأكثر من 1.9 تريليون دولار من الأصول تحت الإدارة، وهذا مؤشر الى إمكانات قطاع الأوقاف الهائلة، ليس لدفع نمو الاستثمار المؤثر فحسب، ولكن أيضاً لدفع مجال التمويل الوقفي للمشاريع الإنتاجية في العالم أجمع، وفي شكل خاص في الدول الإسلامية التي تعاني غياب التنمية وتفشي البطالة والفقر.

والتحدي المتبقي يتمثل في كيفية تسييل قدر كافٍ من هذه الأصول وفي كيفية إدارة الثروة الناجمة عن التسييل بما يخدم توسيع قاعدة الاقتصاد الأخلاقي الذي تشكل الأوقاف أحد مقوماته الأساسية. وباختصار نحن اليوم أمام استحقاق يتمثل في ضرورة إثبات قدرة الأوقاف على الاندماج في المجتمعات المعاصرة والتعامل مع ما تفرزه من تحديات اجتماعية جديدة.

المصدر | طيب الريس | الحياة

  كلمات مفتاحية

الوقف تحصين القطاع المالي دراسات الوقف توظيف الأموال والأصول البنية الإنتاجية والتجارية والخدماتية التضخم غلاء الأسعار اختفاء السلع ضعف القدرة التشغيلية للمؤسسات تحقيق مقاصد الشريعة التكافل الاجتماعي أسواق المال العالمية ضبط قوانين القطاع المالي حماية الأسواق من الأزمات حجم المال المتداول كمية السلع المطروحة تنشيط حركة الاقتصاد تعزيز الإنتاجية