استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

«23 يوليو».. الماضي يقطع طريق المستقبل

الثلاثاء 1 أغسطس 2017 06:08 ص

يُعد 23 يوليو/ تموز 1952 يوماً مفصلياً في تاريخ مصر الحديث، كان له ما بعده من تغييرات كبيرة في بنية الدولة وخريطة المجتمع، إلى جانب آثاره في المشهد الإقليمي. وعلى الرغم من مرور 65 عاماً عليه، إلا أنّ تقييمه ما زال ساحة للجدل الذي يصل إلى درجة الاستقطاب. 

في ذلك اليوم، قام تنظيم الضبّاط الأحرار بانقلاب عسكري كلاسيكي، على غرار الانقلابات التي شهدتها تلك الفترة، وحمل انقلابهم في بدايته لقب "حركة الجيش"، ثمّ تغيّر إلى "الحركة المباركة"، ثمّ حمل لاحقاً لقب "ثورة 23 يوليو".

وكما تورد مذكرات كبار الضبّاط الأحرار أنفسهم، كانت مطالبهم مجرّد مطالب إصلاحية خاصة بالجيش، ولم يكن في نيّتهم إلغاء الملكية، بيْد أنّ الاستجابة السريعة التي وصلت إلى حدّ الهرولة من الملك فاروق لمطلبهم بالتنازل عن العرش، أغرتهم برفع سقف مطالبهم إلى مطالبته بمغادرة البلاد، ولمّا فعل، وجد ضبّاطٌ صغار السنّ محدودو الخبرة، بلداً بحجم مصر وثقلها قد صارت بين أيديهم، من دون أي تصوّر عن المشهد الجديد. 

كان إلغاء الملكية آنذاك مطلباً وطنياً، فقد كان القصر حجر عثرة في طريق الحركة الوطنية، لدوره السيّئ وتدخّله الدائم في الحياة السياسية وإقالته حكومات حزب الوفد، الوطنية ذات الأغلبية الشعبية، وكانت الخطوة بمثابة ثورة على النظام الملكي. بيْد أنّ عدّة أطراف جمعها عداؤها الشديد لحزب الوفد رأت أنها لحظة مثالية للتخلّص من زعامته (وهي جماعة الإخوان المسلمين وسياسيون وقانونيون من أحزاب الأقلية).

وقد أغرت الضبّاط بالسير في طريق الاستبداد والديكتاتورية، بتسويغ اللجوء إلى الإجراءات الاستثنائية، والانقضاض بمعاول الهدم على كلّ منجزات الحركة الوطنية في حقبة ثورة 1919 ومعالم الديمقراطية، من الدستور، إلى الحياة النيابية، وانتهاءً بمزاولة السياسة والحياة الحزبية، وهو ما جعل مسار 23 يوليو ينحرف إلى انقلابٍ كامل على الحقبة شبه الليبرالية.

فقد عرفت الثقافة المصرية، خلال الحقبة شبه الليبرالية، التعدّدية الحزبية، والممارسة الديمقراطية، واتسمت تلك الفترة بقدر كبير من الحيوية السياسية والفكرية، وأفرزت مجالاً سياسياً خصباً، شابته ممارسات القصر والاحتلال، بالإضافة إلى الأزمة الاجتماعية المتفاقمة، حتى جاء انقلاب 1952 ليدكّ بمطرقة الدولة كل ما أنجزه نضال الحركة الوطنية المصرية، وليدشّن بنية السلطوية والديكتاتورية العسكريتارية.

فقد تعامل ضبّاط 23 يوليو مع الحقبة شبه الليبرالية بسياسة الهدم الشامل، ولم يحاولوا استبقاء الإيجابيات والبناء عليها، بعد التخلّص من السلبيات ومعالجتها، وإنما قرّروا التخلّص من المشهد السابق برمته، وإهالة التراب عليه، وأجهزوا على كل آليات الديمقراطية وتأميم المجال العام بصورة شاملة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. 

ساهمت الخلفية العسكرية لضبّاط 23 يوليو في صياغة نظرتهم للحياة السياسية التي تختلف تماماً عن الحياة العسكرية، حيث تقوم الأولى على الأخذ والردّ، بينما تقوم الثانية على إملاء الأوامر من الأعلى إلى الأدنى، وتنفيذها من دون نقاش. وعليه، سادت شعارات "تعبوية" في الفضاء الإعلامي حينذاك، تدور حول مبدأ "الاصطفاف الوطني"، مثل "الاتحاد والنظام والعمل"، و"تحالف قوى الشعب العامل"، و"تذويب الفوارق بين الطبقات". 

كان هذا بالتزامن مع الإجهاز الكامل على التجربة الحزبية، عبر قرار إلغاء الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها في يناير/ كانون الثاني 1953، وملء الفراغ الناتج بقيام نظام الحزب الواحد الذي جاء برغبة سلطوية فوقية، وليست شعبية كما كان الأمر مع "الوفد" في ثورة 1919 ليكون الحزب الواحد "حزب الدولة"، أو "التنظيم الشمولي" الأوحد الذي احتكر الحياة السياسية، بادّعاء تمثيله فئات المجتمع كافّة، وجمعها في كيان واحد يمثل الأمّة (!). 

والمأساوي أن ذلك الكيان "الشمولي" كان طوال تاريخه مظلّة لانتهازيين عديدين، هتفوا بشعارات كل العهود، فكانوا رجال كل العصور، قد احتكر السلطة أكثر من 60 عاماً، بعدما تغيّرت مسمياته من "هيئة التحرير" إلى "الاتحاد القومي"، فـ"الاتحاد الاشتراكي" فـ"حزب مصر"، فـ"الحزب الوطني" المقبور. 

وكانت تلك الخطوة الكارثية بمثابة حكمٍ بالإعدام على التجربة الحزبية، القائمة على التعدّدية وعلى نخبة سياسية ثرية، وبموجبها وقعت الحياة السياسة المصرية في أسر "ثنائية صراعية مغلقة" لم تخرج منها حتى الآن، وهي (دولة 1952 – تنظيم الإخوان المسلمين). 

كما أدت خطوات أخرى مماثلة تجاه الجمعيات الأهلية، والحركة الطلابية، إلى تجفيف تربة المجتمع بشكل بالغ القسوة، أصابته لاحقاً بالشلل والإخصاء، وفقدان القدرة على المبادرة والحركة، فصار مجتمعاً قعيداً كسيحاً، بعدما كان مجتمعاً يتوهّج نشاطاً وحركة، ولم نكتشف أبعاد تلك المأساة إلا بعد مرور عقودٍ طويلة، في أعقاب ثورة 25 يناير 2011. 

عقدت دولة 1952 اتفاقاً ضمنياً غير مكتوبٍ مع المجتمع المصري، كان بمثابة (العقد الاجتماعي) الذي قامت على أساسه، وكان عنوانه "السياسة مقابل الخبز"، أو "الديمقراطية مقابل التنمية"، قام على تنازل المواطنين عن ممارسة حقوقهم السياسية والدستورية، في مقابل قيام الدولة بواجباتها الاقتصادية والاجتماعية، فبعد مصادرة الدولة المجال العام، بما يعني تنازل المواطنين عن حقوقهم في الممارسة الديمقراطية.

في مقابل ذلك، تعهّدت الدولة بقيامها بالتنمية والالتزام بسياسة دعم السلع الأساسية، ودعم المحروقات، إلى جانب التزام الدولة بتوظيف الخريجين في الجهاز الحكومي وشركات القطاع العام. 

هذا بالإضافة إلى الإجراءات التي استهدفت ضرب "الرأسمالية الوطنية"، عبر حركة واسعة من التأميمات، والمصادرات، وفرض الحراسات تحت شعار "تصفية الإقطاع"، لتحلّ محلّها رأس مالية الدولة.

وبموجبها، حصل العمّال على مكاسب كبيرة، بمشاركتهم في الإدارة، والأرباح، بالشركات المؤمَمَّة، إلا أنها كانت مقابل تنازلهم عن حقّهم في العمل النقابي المستقلّ، وحرية تكوين النقابات، عندما أجبرتهم الدولة على الانضمام للتنظيم النقابي الدولتي "الاتحاد العام لنقابات عمّال مصر". 

لا شكّ في أن نظام يوليو 1952 قدّم مشروعاً للتحرّر الوطني في الخارج، ولتحقيق العدالة الاجتماعية في الداخل، إلا أنه وقع في خطأ فادح، عندما استبدل العدالة الاجتماعية بالحرية، كما جاء تحقيقه العدالة الاجتماعية برغبة سلطوية، وبنزعة "أبوية" وصائية من الدولة تجاه المجتمع، أدت إلى قيام دولة استبدادية بوليسية، جرّفت المجتمع، وأفقدته قدرته على التفاعل، وقتلت فيه روح الابتكار. 

وأجهز نظام يوليو 1952 على ما أنجزه المصريون بنضالهم طوال قرن ونصف القرن، عندما سلبهم الحرية، وصادر حقّهم في بناء مجتمع مدني قوي عبر حرية تأسيس الأحزاب، وتكوين نقابات مهنية مستقلة، بعدما جثمت الدولة على أنفاس المجتمع، وهيمنت على كل حركاته وسكناته، عبر التنظيم الشمولي الأوحد والأجهزة الأمنية. 

ليس غريباً أن تذهب كل المنجزات الاجتماعية لنظام يوليو 1952 أدراج الرياح بعد وفاة جمال عبد الناصر، لأنها كانت مرتبطة بالأساس بالإرادة الشخصية للحاكم الفرد، ومفروضة بمطرقة الدولة المُسلطة على حرية المجتمع، من دون مشاركة شعبية حقيقية تحميها وتدافع عنها. وبنهاية الحقبة الناصرية، كانت الخسارة مزدوجة وفادحة من وجهيْن: فلا كان الحفاظ على ما تحققّ من عدالة اجتماعية، ولا كان الاحتفاظ بما كان من مساحات الحرية. 

كانت لحظة 25 يناير 2011 فرصةً مثالية لتأسيس جمهورية ثانية، تتلافى أخطاء جمهورية 1952، وتصحّح مسارها، ولصياغة عقد اجتماعي جديد، بدلاً من العقد القديم الجائر الذي انتهى عمره الافتراضي، إلا أنها مُنيت بانتكاسة كبيرة، مما أعاد دولة 23 يوليو 1952 إلى الحياة مجدّداً بصيغتها القديمة، وبعقليتها الأمنية نفسها.

المفارقة الطريفة أنّ النسخة الجديدة من دولة 1952 عادت بعقدها الاجتماعي القديم (الديمقراطية مقابل التنمية) بصورة مُعدَّلة، تعفيها من أي التزامات، بعدما تخلّت الدولة عن واجباتها الاقتصادية والاجتماعية، فصار: لا ديمقراطية ..لا تنمية. وهي سابقة جديدة وفريدة، أمّا الأسوأ فهو عودة الثنائية الصراعية المنكودة (دولة 1952 – تنظيم الإخوان المسلمين) بسياقها القديم نفسه، ما يشير إلى إصرار الماضي على قطع طريق المستقبل.

* أحمد طه كاتب وأكاديمي مصري

  كلمات مفتاحية

مصر جمهورية 23 يوليو التحرر الوطني العدالة الاجتماعية الحقبة الناصرية العقلية الأمنية الضباط الأحرار

وثيقة نادرة تظهر الخطة العسكرية لحراك 23 يوليو 1952 بمصر