مساعٍ لتغيير عقلية الاستخبارات الأوروبية: فلنتعظ من هجمات باريس!

الأربعاء 28 يناير 2015 06:01 ص

ليس أكيداً أنه سيتاح للقيادات الأمنية الفرنسية مواصلة قراءة التقرير الشامل الذي أرسلته دائرة مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي. 

ويمكن لمن يطّلع على مضمونه أن يعطيه عنوان «لماذا لم نستطع إحباط هجمات باريس؟». طبعاً، لا يقول من أعدّه ذلك صراحة، فالإقرار علناً بالفشل الأمني، وشرح أسبابه، هو آخر ما تريده إدارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مع شعبيته المتدهورة. 

لكن لو أرادت باريس، ونظيراتها الأوروبيات، تنظيف التقرير من الأشواك التي تنخزهم، لما بقي فيه شيء معتبَر. إنه دعوة جريئة لتغيير عقلية أجهزة الاستخبارات الأوروبية، مع الإقرار بقصورها، تمهيداً لبناء هيئة أوروبية جديدة تختص بمواجهة التهديد الإرهابي «غير المسبوق»، ولا سيما الآتي من «الجهاديين». 

إنه تقرير داخلي تمّ حظر توزيعه، يقع في 14 صفحة، وراجعت «السفير» نسخة مسربة منه. أرسله المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دو كيرشوف إلى وزراء داخلية الدول الأوروبية الثماني والعشرين.

وسيكون مضمونه أساساً لمراجعة وتطوير استراتيجية مكافحة الإرهاب، خلال اجتماع الوزراء في العاصمة اللاتيفية ريغا، خصوصاً من رصد دقيق للثغرات التي أظهرها هجوم «شارلي إيبدو»، مع العلم أن مسؤولاً رفيع المستوى في مجال مكافحة الإرهاب اعتبر قبل أيام أن «نقص تبادل المعلومات» يلخص مجمل الإخفاق الأمني.

على أية حال، حمل التقرير انتقادات واضحة لتقاعس أجهزة الاستخبارات الأوروبية. بالنسبة إلى منسق مكافحة الإرهاب فان «أوروبا تواجه تهديداً إرهابياً خطيراً ومتنوعاً وغير مسبوق»، لذلك فمواصلة العمل بالطريقة الحالية غير مقبول، ولا يرتقي إلى حجم التهديد. أبرز ما يطالب به لتلافي الثغرات هو إنشاء «المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب»، كفريق متخصص يعمل في إطار وكالة الشرطة الأوروبية «يوروبول».

يقول دو كيرشوف إن ذلك «سيمكن يوروبول من ترجمة القدرات الموجودة إلى تأثير عملي بسرعة». ويقع مقر «يوروبول» في مدينة لاهاي الهولندية، ومن هناك يقوم حوالي 800 موظف بمهام التنسيق اليومي بين أجهزة الشرطة في دول الاتحاد الأوروبي، كما يتولون قيادة عملياتها المشتركة، إضافة إلى تعاونهم مع أجهزة الاستخبارات الأوروبية.

وسيركز مركز مكافحة الإرهاب، المطلوب إنشاؤه، على محاور عدة، أولها مواجهة تهديد «الجهاديين» الغربيين الذي يقاتلون في العراق وسوريا. أعداد هؤلاء قدرها «يوروبول» مؤخراً بخمسة آلاف مقاتل، وهي تفوق بكثير تقديرات استمرت في الحديث عن حوالي ثلاثة آلاف شخص.

ما يقترحه دو كيرشوف أن يقوم «يوروبول» بإنشاء فريق عمل مقيم متعدد الجنسيات، يتم اختيار أعضائه من أجهزة المخابرات والشرطة في الدول الأوروبية، وترتبط به شبكة من نقاط الاتصال حول مكافحة الإرهاب. ما يدركه صاحب المبادرة جيداً هو حساسية الاستخبارات من طرح كهذا، حيث سيمسّ عملياً بصلاحياتها، لذلك يقترح أن يبدأ فريق مكافحة الإرهاب الجديد بالعمل على حالات «أقل حساسية من أجل بناء الثقة».

الهدف من ذلك هو أن يعمل الفريق الجديد بمثابة «مركز انصهار»، لجمع وتحليل المعطيات الآتية من مختلف أجهزة الأمن والاستخبارات المطلوب منها أن تكون متعاونة ومنفتحة على المشروع. ويقول دو كيرشوف بوضوح إن المطلوب هو السماح لأعضاء فريق مكافحة الإرهاب، المطلوب تشكيله، بالتفاعل مع أقرانهم في الدول الأوروبية «من دون التدخلات الكثيرة التي تفصلهم عادة عن يوروبول».

ويحمّل التقرير أجهزة الاستخبارات الأوروبية المسؤولية عن «أكبر أوجه القصور» في استراتيجية مكافحة الإرهاب. ويذكّر أن «يوروبول» أنشأ «نقطة اتصال» خاصة حول «الجهاديين»، لتكون خزان معلومات شاملاً تصبّ فيه كل المعطيات المتصلة بهم من الدول الأوروبية، لكنه يلفت إلى أن «كمية المعلومات المرسلة لا تتطابق مع حجم التهديد الإرهابي».

هنا يؤكد أن «أكبر أوجه القصور كانت قلة المعلومات التي توفرها سلطات مكافحة الإرهاب الوطنية» في دول الاتحاد. يقدّم القصور بالأرقام: رغم كل النداءات لم ترفع الدول الأوروبية نسبة تزويدها لـ «يوروبول» بحالات مكافحة الإرهاب إلا بنسبة 2 في المئة، كما أن غالبية الدول غير متجاوبة، باستثناء أربع دول فقط (لم يسمّها) قدمت معظم المعطيات التي لدى وكالة الشرطة الأوروبية.

هذا الواقع سبق أن انتقده علناً رئيس البوليس الأوروبي «يوروبول» روب وينرايت، حين قال، في كانون الأول الماضي محتجاً أمام البرلمان الأوروبي، «نحتاج من أجهزة استخبارات الدول الأوروبية أن تتشارك المعلومات معنا، فكيف تتشاركها مع بعضها البعض ولا تفعل ذلك مع يوروبول».

ويشدد منسق مكافحة الإرهاب على أن إهمال أجهزة الاستخبارات غير مبرر، لافتاً إلى أن خلايا «يوروبول» يجب أن تكون «مخزن معلومات استخباراتية» حول «الجهاديين» ومجمل التهديد الإرهابي. وليطمئن الاستخبارات الأوروبية، يؤكد أن هناك حاجة لتبادل «فقط لحد أدنى من التفاصيل» كي تكون أساساً للملاحقات، مذكراً بنجاح النموذج الذي يديره «يوروبول» لمكافحة الجريمة المنظمة. 

إعطاء دور أكبر لـ «يوروبول» يشمل أيضاً إشراك «مركز مكافحة الإرهاب»، المقترح إنشاؤه، بالمعلومات التي يوفرها البرنامج الأوروبي - الأميركي المشترك لتتبع تمويل الإرهاب. هنا يشدد التقرير على أهمية «إقناع وحدات مكافحة الإرهاب (في استخبارات الدول الأوروبية) المترددة في الاستفادة من قنوات يوروبول».

ما يدعو إليه التقرير عملياً هو تغيير عقلية عمل الاستخبارات الأوروبية. الأرضية التي يبني عليها دعوته تستفيد من أن قضية الإرهاب و «الجهاديين» باتت مسألة أمن داخلي، تمس عمل كل الأجهزة، من شرطة وقضاء وغيرها. لذلك يرى أنه ليس هناك ما يبرر أن تتم عرقلة تكثيف العمل الأوروبي، عبر التذرّع بخصوصية عمل الاستخبارات وحساسيته. التصدي للتهديد «الإرهابي»، بعدما اعتبره «خطيراً ومتنوعاً وغير مسبوق»، يقتضي التخلي عن تلك الحساسيات ودعم إنشاء «مركز أوروبي لمكافحة الإرهاب».

هذه الهيئة الجديدة، يرى التقرير، أنها يجب أن تملك بنية تقنية تمكنها من تعقب النشاط الإرهابي عبر الانترنت. كما سيكون مناطا بها، «تحسين الاستخبارات الاستراتيجية». أحد أمثلة ذلك، كما يورد التقرير، هو «تقديم النصيحة للدول الأعضاء بشأن مستويات التهديد الإرهابي الوطني». أحد الإخفاقات كانت هي انتظار حصول هجوم إرهابي حتى يتم رفع مستوى التهديد، بينما يعمل هذا المعيار كمنبّه لتحديد درجة الخطر المحتمل وقوعه، وليس بعد أن يقع بالضرورة.

دروس هجمات باريس لا تنتهي هنا. منفذو الهجوم كانوا سجناء سابقين، مع سجل إجرامي معروف. لذلك يورد التقرير وجه قصور آخر يتعلق بعدم تبادل المعلومات حول من لديهم سجلات جنائية، خصوصاً ما يتصل بسوابق عنف أو متعلقة بالإرهاب.

يفترض أن هناك نظاماً أوروبياً خاصاً لتبادل هذه المعلومات، لكنه «لا يعمل بشكل جيد» ما يجعل أصحاب سجلات إجرامية يعبرون دول الاتحاد من دون علم الأجهزة المعنية. تصحيح هذا الخلل عبر تقوية هذه الآلية، أو ربطها أيضاً مع «يوروبول»، يمكنه «المساعدة على تعزيز قدراتنا لحماية الجمهور بما فيه ضد التهديد الداخلي»، وهو الذي كان خلف هجمات باريس.

إحدى الثغرات التي أظهرها هجوم باريس يورده التقرير، حينما يذكّر ضمنياً أن منفذيه حصلوا على الأسلحة الفردية عبر زملاء كانوا معهم في السجن. ويقول التقرير إنه رغم امتلاك الاتحاد الأوروبي لتدابير شاملة لمكافحة الاتجار بالأسلحة النارية، فإن هناك فقط «13 دولة يشاركون في خطة العمل التشغيلية المعتمدة». لذلك يدعو منسق مكافحة الإرهاب وزراء الداخلية لمراجعة هذا القصور مع «يوروبول»، خلال اجتماعهم في ريغا. ويطالب أيضاً بأن يتولى هذا الجهاز تبادل المعلومات حول «الجهاديين» مع الدول غير الأوروبية، على أن يقوم الخبراء بإنشاء آليات تبين حدود المعلومات الذي يجب أن تطّلع عليه هذه الدول.

الخلاصة التي يخرج بها مَن يتفحّص التقرير أن هناك مسرحية سياسية جرت للتغطية على فشل الأجهزة الفرنسية خصوصاً، مع أوجه قصور تشمل آلية عمل الأجهزة الأوروبية إجمالاً. بدلاً من الاعتراف بذلك علناً، والقيام بجرد حساب لتحديد من يتحمّل المسؤولية، جرى استغلال مشاعر الجمهور الفرنسي والأوروبي المتأثر لتكريس سياق عاطفي غابت معه المسألة الجوهرية.

كيف أمكن لمشتبه فيهم خطيرين تراقبهم أجهزة الاستخبارات، أن ينفذوا هجوماً على مؤسسة موضوعة على رأس قائمة الأهداف المهددة بالإرهاب؟

ثم بعد ذلك، بدل النقاش العملي حول حماية المواطن الأوروبي، ترك الأمر لتغذية سجال شعبي عقيم حول العداء بين الإسلام والقيم الأوروبية. تقرير منسق مكافحة الإرهاب وضع الأمر في سياقه، متحدثاً عن ضرورة «تطوير الحوار مع المجتمعات الإسلامية حول حرية التعبير والرأي» في أوروبا، في تفريق بين العمل الإرهابي والتفاوت الثقافي، مع تأكيد على مواصلة المواجهة مع «جميع أنواع التطرف بما في ذلك معاداة الإسلام والتطرف اليميني».

هكذا لا تزال قائمة ضحايا الهجوم الإرهابي على «شارلي ايبدو» تطول، مع اعتداءات متكررة على مسلمين أوروبيين. تم تغييب مسؤولية السلطات الفرنسية والأوروبية عن نجاح الهجوم، لكنها تذكر ضمناً، في تقارير، من يعرفون ما حصل: فشل الأجهزة الأمنية وضرورة تسليم ملف مكافحة الإرهاب لجهاز أوروبي متفرغ للمهمة. 

 

المصدر | وسيم إبراهيم | السفير

  كلمات مفتاحية

شارلي إيبدو العراق فرنسا لاهاي هجمات باريس

فرنسا تعتزم إغلاق مساجد تقول إنها «تبث الكراهية»