«مصر أولا».. ملامح السياسة الخارجية المصرية في عهد «السيسي»

الاثنين 8 يناير 2018 09:01 ص

في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017، بادر ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» إلى محاولة متهورة لعزل إيران عن طريق إجبار رئيس الوزراء اللبناني «سعد الحريري» على الاستقالة خلال زيارة قام بها إلى الرياض، وكان ولي العهد يعتمد على دعم حلفائه العرب السنة، لكن دولة عربية بارزة امتنعت عن ذلك.

وبدلا من دعم داعمها المالي الإقليمي الرئيسي، اتفقت مصر على الفور مع الجهود الفرنسية للتوصل إلى حل دبلوماسي، واستضافت «الحريري» في القاهرة، ودافعت عن عودته إلى لبنان رئيسا للوزراء.

وجاء موقف مصر، الذي أكد على «أهمية الحفاظ على استقرار لبنان والمصالح الوطنية اللبنانية»، متحديا محاولات الرياض الأخيرة لجعل المعادلة دائما «معنا أو ضدنا»، خلال جهودها لإعادة ترتيب الشرق الأوسط وفق المنافسة بينها وبين طهران.

ولم يكن «الحريري» هو الزائر الوحيد البارز للقاهرة الذي يثير المخاوف لدى رعاة مصر منذ زمن طويل، ففي 11 ديسمبر/كانون الأول، زار الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» البلاد لتسليط الضوء على تعميق العلاقات بين مصر وروسيا، بما في ذلك اتفاق محتمل يسمح للطائرات الحربية الروسية باستخدام القواعد العسكرية المصرية، على الرغم من علاقة مصر الدفاعية مع الولايات المتحدة منذ 4 عقود، وحصول القاهرة على 50 مليار دولار من واشنطن منذ ذلك الحين.

وقد يؤدي هذا الاستقلال إلى إحباط الرعاة الأجانب من القاهرة، لكنه لا ينبغي أن يكون مفاجئا.

وكانت رغبة مصر في السير بطريقتها الخاصة سمة ثابتة للسياسة الخارجية للبلاد منذ يوليو/تموز عام 2013 على الأقل، عندما أطاح الانقلاب العسكري بالرئيس «محمد مرسي» القيادي  بجماعة «الإخوان المسلمون»، وفي ظل الرئاسة الجديدة لـ«عبدالفتاح السيسي»، قامت القاهرة تدريجيا بصياغة مبدأ جديد للسياسة الخارجية، يقوم على الالتزامات الأيديولوجية لمكافحة الإسلاموية، واحترام مفاهيم السيادة وعدم التدخل التقليدية في كثير من الأحيان، والتأكيد الوطني القاطع على حرية مصر في المناورة واتخاذ قراراتها داخل المنطقة.

وإذا ما نظرنا إلى كل هذا، فإنه يقود مصر بعيدا عن حلفائها التقليديين، نحو مستقبل أكثر استقلالية.

نظرة عالمية جديدة

وتكمن جذور السياسة الخارجية المصرية الجديدة في ثورة عام 2011، التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس «حسني مبارك».

وتحت قيادة الرئيس «جمال عبدالناصر»، كانت مصر الزعيم السياسي والثقافي للعالم العربي، وكانت قوة بارزة على الساحة العالمية، لكن «مبارك» - خلال فترة حكمه التي بلغت قرابة 30 عاما - حول البلاد إلى عميل أمريكي موثوق به ويمكن التنبؤ به إلى حد كبير، وحليف وثيق للشركاء الأمريكيين مثل المملكة العربية السعودية، وإن كان ذلك قد أفقد مصر ثقلها وتأثيرها الإقليمي.

لكن رحيل «مبارك» قد وضع حدا لهذا الوضع، وعلى الرغم من أن اهتمامات السياسة الخارجية كانت ثانوية بالنسبة للقضايا المحلية التي أثارت الاحتجاجات، فإن مطالب المتظاهرين تضمنت فكرة واضحة عن استعادة الكرامة الوطنية التي تمتد إلى نطاق السياسة الخارجية، ونجحت مصر في ذلك طوال الفترة الانتقالية المضطربة.

وطوال الفترة المبكرة ما بعد «مبارك»، ناقشت النخب المصرية وأفراد الجمهور كيفية استعادة استقلال بلادهم وتنويع علاقاتهم في الخارج، وقد شهدت رئاسة «مرسي» -على سبيل المثال- زيارات إلى بكين وموسكو.

واستمر هذا التوجه للسياسة الخارجية بعد الانقلاب مدفوعا - جزئيا - بالاحتياجات الاقتصادية والسياسية والأمنية الملحة في الداخل، وقبل كل شيء معركة البلاد ضد الإسلاميين وعجز الميزانية.

ولكن على مدى الأعوام القليلة الماضية، مع استقرار الحياة الاقتصادية والسياسية في مصر جزئيا في ظل «السيسي»، تطورت هذه الاتجاهات المتناثرة في البداية بشكل متزايد لتتحول إلى نظرة عالمية متماسكة.

وكان العنصر الأول والأهم في هذه النظرة هو معاداة الإسلاموية، وكانت المعارضة الصارخة والمتشددة لجماعة «الإخوان المسلمون» وفروعها هي مبدأ ترتيبات نظام «السيسي»، وأصبحت الآن السمة الأكثر هيمنة على الحياة السياسية المصرية.

وعلى الرغم من أن نظام «السيسي» استهدف جميع أشكال التعبير السياسي والمعارضة، فقد ركز بشكل خاص على جماعة «الإخوان المسلمون»، وقد لجأت الحكومة في جهودها الرامية إلى القضاء على التنظيم إلى قمع واسع للقاعدة الجماهيرية، وحظرت جماعة «الإخوان المسلمون»، وسجنت عشرات الآلاف من أعضائها والمتعاطفين معها، وارتكبت أعمال عنف صريح لمنع إمكانية إعادة الحشد في المستقبل.

ولم تتوقف حملة مصر ضد «الإخوان» عند حدودها، حيث نظرت القاهرة إلى التهديد العابر للوطن، وسعت إلى الضغط وإضعاف الجماعات التي تعتبرها فروعا تابعة للإخوان في ليبيا وقطاع غزة. (تعتبر التحركات الأخيرة التي قامت بها مصر لتحسين العلاقات مع حماس، وهي فرع فلسطيني من جماعة الإخوان، استثناء براغماتيا نادرا عن عدائها المتواصل عادة للإسلام السياسي)

كما عارضت مصر استخدام الوكلاء الإسلاميين المتشددين كأداة في أي من صراعات المنطقة، وأدت هذه المناهضة للإسلاميين إلى أن تتسق مصر بهدوء مع حكومة الرئيس «بشار الأسد» ومؤيديها الروس، الذين يتشاطرون وجهة نظر مصر عن الإسلاموية السنية، والإيمان بالاستقرار من خلال القمع السيادي، بدلا من الجهود التي يقودها السعوديون لدعم المعارضين والإطاحة بـ«الأسد».

أما الالتزام الثاني لـ«مصر السيسي» فكان ربط الاستقرار دائما بسيادة الدولة، ومع تدخل جيرانها لإعادة تشكيل المنطقة على أسس طائفية أو إسلامية، برزت مصر في هذا الصدد كأبرز لاعب في الشرق الأوسط.

ويمكن رؤية اللمحات المبكرة لهذا النهج في تعامل مصر مع العراق خلال صعود تنظيم «الدولة الإسلامية»، عندما دعم «السيسي» علنا ​​رئيس الوزراء الشيعي العراقي «نوري المالكي».

وقد كان موقف مصر أكثر وضوحا بالنظر إلى ظهور السعودية كقوة انتقائية لا يمكن التنبؤ بها، كما هو الحال في لبنان وسوريا واليمن، وكانت السياسة الخارجية الانتقائية في المملكة تخدم تنافسها مع إيران، لكن مصر رفضت اتباع خطى المملكة المتشددة، وتجنبت - في نفس الوقت - إظهار مشاعر مؤيدة لإيران، ومقاومة الاستقطاب الطائفي الذي زعزع استقرار المنطقة في الأعوام الأخيرة.

ولم تحل مصر توتراتها الطويلة الأمد مع إيران، ولم تستأنف العلاقات الدبلوماسية الكاملة معها، لكنها رفضت ببساطة أن تشترك في الصراع الإقليمي.

ومع ذلك، يظل تعلق مصر بسيادة الدولة في التسلسل الهرمي لمصالح سياستها الخارجية ثانويا بالنسبة لجدول أعمالها المناهض للإسلاميين، فعندما تكون هذه المبادئ في صراع مباشر، فإن معاداة الإسلاميين لا تزال تتفوق على جميع الاعتبارات الأخرى.

ويتجلى ذلك في الأزمة الجارية مع قطر التي يواجه حكامها السياديون الآن حظرا يقوده السعوديون، وذلك إلى حد كبير بسبب الدعم السابق للإسلاميين، وفي فوضى الصراع الليبي متعدد الجوانب، حيث اختارت مصر تأمين الجناح الذي يسهل اختراقه متمثلا في «خليفة حفتر»، الذي يشن حربه الوجودية ضد الإسلاميين، وأعلن سابقا أن ليبيا بحاجة إلى «سيسي».

الدور الملائم لمصر

ويأتي الالتزام الثالث والأخير وراء جرأة مصر واستقلالها الجديد متمثلا في عودة القومية التي تسعى إلى إعادة البلاد إلى تاريخها ودورها الصحيح في المنطقة.

وعلى الرغم من أن هذا قد ارتبط - في بعض الأحيان - بنظريات المؤامرة المعادية للولايات المتحدة، فقد زاد ذلك من رغبة مصر في جعل نفسها ذات صلة بالشؤون الإقليمية، وأثار بعض المسؤولين المصريين فكرة أن القوى الخارجية لا تسعى فقط إلى التأثير على مصر، بل للسيطرة عليها أو زعزعة استقرارها، وأدى ذلك إلى توترات دبلوماسية خطيرة، ليس فقط مع الولايات المتحدة، ولكن مع إيطاليا وروسيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة أيضا.

وفي الأعوام التي تلت عام 2011، تحدث القادة المصريون، ومن بينهم «السيسي»، بصراحة عن الحاجة إلى التركيز على معالجة التحديات الداخلية، ولكن هذه المشاعر كثيرا ما تشتتت بسبب الشعور المتواصل والمضخم بالدور المصري، بما في ذلك القناعة الخاطئة وواسعة الانتشار بأنه لا يمكن حل أي نزاع إقليمي كبير بدون القاهرة.

ومع ذلك، لم يكن لهذه المشاعر سوى صلة محدودة بواقع سلطة مصر ونفوذها الفعلي، ومنذ نصف قرن، عندما كانت مصر الزعيم بلا منازع في العالم العربي، ولكن قوة الشرق الأوسط وثروته هاجرت شرقا، إلى اقتصادات أكثر ديناميكية مثل (إسرائيل) وتركيا والدول البترولية في ممالك الخليج، إضافة إلى إيران.

وهذه البلدان - وإن كان بدرجات متفاوتة - قادرة على استخدام ثروتها، وقوتها العسكرية، وشبكاتها الإقليمية بالوكالة لتوجيه السلطة بطرق لا تستطيع مصر فعلها ببساطة، وبسبب الجغرافيا فقط واصلت مصر القيام بدور مهم في ليبيا وغزة، ولكن في أماكن أخرى، سعت القاهرة إلى تحويل ضعفها النسبي إلى عملة دبلوماسية، عن طريق ربط نفسها بالمبادرات الدبلوماسية والسعي إلى وضع نفسها كوسيط بين الفصائل الإقليمية المتنافسة، كما فعلت في أزمة لبنان.

ومن غير المرجح أن ترتكز مصر على تكتل إقليمي رئيسي مع الحكام الذين يقودهم السعوديون، أو الكتلة التي يهيمن عليها الإيرانيون، أو كتلة تركيا - قطر المؤيدة للإسلاميين، ولكن قد تكون هناك دائرة إقليمية لها وحدها.

وعلى وجه الخصوص، تعتبر مصر اليوم مثالا على العقبات التي قد يواجهها «بن سلمان» إذا حاول باعتباره الزعيم العربي السني الأبرز إملاء الخيارات السياسية على البلدان الأخرى.

وقد ظهرت هذه العقبة في ربيع عام 2015، عندما رفضت مصر دعوة «بن سلمان» المفاجئة للانضمام إلى تحالف عسكري عربي سني لمحاربة الحوثيين في اليمن.

وكما قال مسؤول مصري رفيع المستوى لأحد المؤلفين: «نحن مصر، لا يمكنك الاتصال بنا في الساعة الثالثة صباحا، وتتوقع منا أن نذهب إلى الحرب في الصباح»، وقدمت مصر في وقت متأخر مساهمات محدودة إلى جانب العرب، ولكن بشكل عام، كان واضحا بعد نظرها حين ثبت فيما بعد أن المعركة كانت كارثية ومكلفة.

أين تذهب القاهرة بعد ذلك؟

ومنذ عام 2013، تأثرت صورة مصر من خلال حاجتها الماسة للشرعية الدولية، والمعونة الأمنية، وقبل كل شيء، عشرات المليارات من الدولارات من دول الخليج الغنية.

ومع ذلك، في حين كانت مصر سعيدة باستقبال الشيكات الأجنبية، فإنها غالبا ما رفضت أي مشورة أجنبية، سواء من واشنطن أو أبوظبي، ومع ذلك، فإن هناك عددا من الشروط لمنح قادة البلاد الثقة في اتباع نهج أكثر استقلالية.

وبدلا من مواجهة الضغط المستمر من الولايات المتحدة في ملف حقوق الإنسان، تلقى «السيسي» تأييدا معنويا واحتضانا كاملا من قبل المكتب البيضاوي للرئيس الأمريكي «دونالد ترامب».

كما أدت الإصلاحات الهيكلية المدعومة من صندوق النقد الدولي إلى تحقيق قدر من الاستقرار الاقتصادي، على الرغم من التضخم والبطالة.

وقد ساهم الحظر الذي فرضته السعودية على قطر، وعدم الاستقرار العنيف الذي أعقب الانتفاضات العربية، في تراجع الجماعات الإسلامية على نطاق المنطقة، ما مهد السبيل لإصلاح العلاقات المصرية السعودية التي كانت تعاني من توترات في السابق.

ولعل الأهم من ذلك أن مصر قد افترضت أنها ببساطة أكبر من أن تفشل، وحتى الآن تصرف حلفاؤها وفقا لذلك، ولعل الكثير من جيرانها يعاني من عدم الاستقرار والقتال، ولم تؤد التحركات غير التقليدية في القاهرة إلى أي تمزق دبلوماسي، وبدلا من ذلك، استوعب شركاء مصر أنفسهم وابتعدوا عن تحدي القاهرة في هذا المنعطف الدقيق.

وفي نهاية المطاف، ستعتمد محاولة مصر للعودة إلى مكانتها الإقليمية على قدرة «السيسي» على تعزيز السلطة في الداخل، وللتأثير المشروع خارج حدودها، ستحتاج مصر إلى تحقيق قاعدة اقتصادية وسياسية وأمنية أكثر استقرارا وأمانا في الداخل، بما في ذلك الإصلاحات الهامة لفتح حيز لميدان عام نشط، والاعتماد بشكل أكبر على القطاع الخاص بدلا من وضع العبء الاقتصادي المصري على الحكومة وحدها.

وكلما أصرت مصر على اتباع طريقها الخاص، كان من الصعب التوفيق بين التناقض في السياسة الخارجية المصرية المعاصرة، فمن ناحية، تسعى مصر للحفاظ على مواءمتها التقليدية مع الرياض وواشنطن، واستمرار تلقي المال من المملكة والأسلحة من الولايات المتحدة.

ومن ناحية أخرى، ترفض القاهرة بشكل متزايد اتباع الخط الإقليمي للمملكة، وتتقارب أكثر مع روسيا، ومن المحتمل أن تفتح قواعدها للمنافس الجيوستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة.

وإذا استمرت مصر في انتهاج هذه السياسة ذات المسارين، فقد تفرض الرياض أو واشنطن -في وقت ما- على مصر خيارا أكثر وضوحا، وإلى أن يتم ذلك، ستستمر مصر في اختبار حدودها.

  كلمات مفتاحية

دور مصر عبد الفتاح السيسي محمد بن سلمان روسيا واشنطن

هل نجح السيسي في إعادة مصر إلى مكانتها بين دول العالم؟