استراتيجية تركيا الجديدة في سوريا

الاثنين 20 يونيو 2016 11:06 ص

انهار موقف تركيا الاستراتيجي في شمال حلب وجيب منبج، مما اضطر الحكومة التركية إلى إعادة تقويم سياستها الخارجية تجاه سوريا. بدأ هذا التحول في السياسة التركية في يونيو/حزيران 2015، عندما بدأ المسؤولون الأتراك في التحدث علنا ​​عن الحاجة إلى وجود منطقة آمنة بين نهر الفرات والمعارضة في مدينة أعزاز.

اختلف مقترح السياسة التركية الحالي عن إصرارها السابق على شمول حظر الطيران لكل سوريا، مع حمايته من قبل الطائرات الأمريكية والتركية، وغيرها من الدول الحليفة. كان القصد من هذه السياسة التصدي لاثنين من أكبر التهديدات الأمنية لتركيا: حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) والدولة الإسلامية (ISIL).

تنتهج الحكومة التركية الآن نهج متشعبا تجاه الصراع السوري. هذا التحول الدراماتيكي في سياسة تركيا يشكل خروجا عن الجهود التي بذلتها تركيا سابقا لإملاء مسار الحرب في شمال سوريا ويعكس هذا المخاوف التركية حول هذه المرحلة الأخيرة من الصراع السوري، بما في ذلك الخوف الشامل من التمكين السياسي والعسكري الكردي. وتركز أنقرة على الضغط العسكري على النظام السوري جنوب مدينة حلب، في حين تتخذ خطوات للتحوط من احتمال أن حزب الاتحاد الديمقراطي سوف يصل في نهاية المطاف للأراضي التي أخذت من تنظيم الدولة غرب منبج مع الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد جنوب مارع.

تعتزم تركيا إنشاء قطاع صديق داخل جيب منبج الذي يسيطر عليها تحالف العرب والتركمان، وربما يمتد بقدر 15 كيلومترا داخل الحدود السورية. ويهدف هذا المجال للحفاظ على ما يسمى قوات سورية الديمقراطية (SDF)، وهي مظلة للجماعات المتمردة التي تسيطر عليها ميليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي، بعيدا عن الحدود التركية، حيث تواصل المجموعة الهجوم غربا مع الدعم الأمريكي ضد تنظيم الدولة.

هجوم إدلب: الضغط على «الأسد»

عمقت هذه السياسة الاعتماد التركي على المجموعات المسلحة الإسلامية بينما في الوقت نفسه تسببت في إعادة تقويم نهج أنقرة في مسألة «بشار الأسد». الحكومة التركية تلقي باللائمة على النظام السوري في معظم، إن لم يكن كل، المشاكل في سوريا، بما في ذلك تمكين حزب الاتحاد الديمقراطي و«الدولة الإسلامية». هذا التفكير يدعم نداءات الحكومة التركية المتكررة لـ«استراتيجية شاملة» لهزيمة النظيم، الأمر الذي يتطلب من وجهة نظرهم هزيمة للنظام أولا. ورغم ذلك، لم تستبعد الحكومة التركية تماما خيار المفاوضات مع النظام، رغم أنها، ومنذ عام 2011، تدفع «الأسد» للتنحي لصالح خليفة مدعوم من تركيا.

ومن شأن هذا الزعيم الجديد، في المقابل، أن يكون مقبولا لعدد كبير من الجماعات المتمردة المدعومة من تركيا في الشمال، والتي من المفترض أن تكون متكاملة مع الجيش السوري المكلف بعمليات مكافحة تنظيم الدولة في المستقبل. ولتحقيق هذه النتيجة، تفضل تركيا التدخل القوي لصالح المعارضة. وقد أخذت تركيا زمام المبادرة في تنفيذ عدة أمور من هذه السياسة ومنها : تسليح مباشر لمختلف الفئات، من أراضيها، منذ بداية الحرب الأهلية السورية. وقد أقامت تركيا أيضا علاقات وثيقة مع أحرار الشام التي تعمل بشكل وثيق مع جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة  في إدلب كجزء من التحالف العسكري في جيش الفتح، المدعوم من السعودية وتركيا.

لا يزال جيش الفتح شريكا رئيسيا للجهود التركية، ولاسيما في هجومه الأخير جنوب مدينة حلب، والذي يهدد الآن بمحاصرة النظام في المدينة. وهذا الهجوم يشكل تحديا مباشرا لمصالح بلدين هما أهم رعاة النظام السوري :إيران وروسيا، اللتان نشرتا قوى عاملة في المنطقة. وقصفت القوات الجوية الروسية أهدافا في المنطقة، في حين أن الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والميليشيات الشيعية المختلفة تقاتل إلى جانب قوات النظام. وعلى الرغم من هذا، لا يزال جيش الفتح يحقق مكاسب، وربما لأن القوات القوات الجوية الروسية تعتمد كليا على الذخائر غير الموجهة، وبالتالي هي غير قادرة على توجيه ضربات دقيقة على أهداف جيش الفتح المتقدم.

مسألة «الأسد»

في سبتمبر/أيلول 2015، قال الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» للصحفيين بأن حكومته مستعدة لقبول حل سياسي، قد يبقى «الأسد» في منصبه لمدة ستة أشهر بعد أن يوافق على التنحي. وهذه السياسة لا تمثل تغيرا كبيرا في دعم أنقرة السابق لبيان جنيف 2012، ولكنها أظهرت اختلافا عن إصرار تركيا السابق على أن خطوة «الأسد» في الانسحاب يجب أن تتم على الفور من أجل التوصل إلى اتفاق للانتقال. وقد كانت مفصلية «أردوغان» في هذا نابعة من افتراض حول نوايا «الأسد» الذي أراد خلق «دولة بوتيك» لنفسه وحلفائه، على طول الساحل السوري، وبدعم روسي.

تنظر تركيا إلى تفكك الدولة السورية باعتباره يشكل تهديدا خطيرا، نظرا لاحتمال أن هذا الحدث من شأنه أن يترتب علىه إنشاء منطقة فدرالية كردية على طول كبير من الحدود. وهذا يخلق كما من الحوافز المتضاربة لصناع السياسة التركية، وخاصة مع الإجراءات المتزامنة التي تقودها الولايات المتحدة لهزيمة «الدولة الإسلامية».

تعتمد استراتيجية الولايات المتحدة لهزيمة التنظيم على تمكين الجهات الفاعلة المحلية، بدعم من قوات العمليات الخاصة والقوة الجوية الأمريكية، للسيطرة على الأراضي الواقعة تحت سيطرة التنظيم. في سوريا، فقد تعاونت الولايات المتحدة بشكل وثيق مع قوات الحماية الشعبية (YPG)، وهي الاستراتيجية التي مكنت الجماعات من تحقيق مكاسب كبيرة.

 ومع ذلك ، ، فقد أوضح الأكراد السوريون أنهم يفضلون أن تكون لهم دولة على غرار مفهوم الحكم الذاتي الديمقراطي. ويستند هذا الهيكل السياسي على رؤية زعيم حزب العمال الكردستاني «عبد الله أوجلان»، الذي وضع رؤية لتطبيق اللامركزية الشديدة، بناء على المجالس الاستشارية، التي يقودها مجلس مشترك محلي في المناطق الواقعة تحت السيطرة الكردية.

وقد استخدم حزب الاتحاد الديمقراطي مكاسبه العسكرية لتثبيت هذا النموذج في خلق حقائق على أرض الواقع لتحقيق نتائج سياسية على المدى الطويل، والتي هي على خلاف مع أمن أنقرة ومصالحها الوطنية. وفي نفس الوقت، فإن واضعي السياسات التركية تتغير الآن حساباتهم حول قدرة «الأسد» على الحفاظ على السلطة في سوريا. ولا تزال تركيا تشعر بالإحباط بسبب رفض واشنطن للعمل على تغيير النظام في سوريا، وبسبب الانفصام بين سلوك الولايات المتحدة بقيادة حملة عسكرية ضد الدولة الإسلامية، في الوقت الذي تدعم فيه الجهود الدبلوماسية للتفاوض على الانتقال.

لهذه الأسباب، على تركيا إعادة ضبط خيارات المدى الأطول وجها لوجه مع نظام «الأسد» وسنده الأقوى وروسيا. وقد انهارت العلاقات التركية الروسية منذ إسقاط القوات الجوية التركية قاذفة روسية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2015. وقد تضر العقوبات الروسية بصناعة السياحة التركية، في حين ساهمت عودة حزب العمال الكردستاني إلى العنف مع الحكومة التركية أيضا إلى انخفاض كبير في عدد الزوار إلى تركيا كل سنة.

وقد خلق هذا حوافز مزدوجة لإصلاح العلاقات مع روسيا، مع العمل على استكشاف سبل للتحوط ضد البقاء المحتمل للنظام السوري. في منتصف يونيو/حزيران، أرسل «أردوغان» إلى الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» رسالة بريد إلكتروني بمناسبة العيد الوطني لروسيا وتحدث علنا ​​عن ضرورة إقامة علاقات جيدة. في الوقت نفسه، تحدث مسؤول تركي لم يكشف عن اسمه لـ«رويترز» حول مصلحة مشتركة في منع الحكم الذاتي الكردي.

من غير المرجح أن تتراجع تركيا عن سياستها أن «الأسد» يجب أن يغادر في نهاية فترة انتقالية مدتها ستة أشهر. بدلا من ذلك، تعمل تركيا للضغط على النظام عسكريا في حلب، بينما في نفس الوقت تحاول الوصول بهدوء إلى استكشاف سبل التآزر الأمنية المحتملة بغض النظر عن موقف «الأسد» على قمة الحكومة السورية. وهذا النهج هو تضييق كبير للأهداف التركية في سوريا،. لا تزال تركيا تعتقد أن هذه السياسات هي على خلاف مع بعضها البعض، ولكن لديها عدد قليل من الخيارات لتغيير مسار الأحداث. وبالتالي، فقد انتقلت من صنع السياسات إلى التخفيف من السقوط، بما في ذلك تعويم بالون اختبار للعمل مع النظام ضد عدو مشترك.

العمل ضد كردستان السورية

تتركز الجهود التركية في جيب منبج الآن على تنظيم الدولة. يتواصل القصف المدفعي التركي على التنظيم بشكل يومي، وحسبما ورد فإن هذا يمثل جزءا من جهد أوسع لتمكين تقدم القوات العربية على طول الحدود السورية التركية. هذه السياسة، كما هو موضح في الصحافة التركية، كان من المفترض من البداية أن تكون أكثر طموحا، وتنطوي هذا أيضا على استخدام هذه القوات لطرد التنظيم من جيب منبج. ولكن مجموعات الثوار المختلفة التي تعمل في المنطقة، ضعيفة، ومنقسمة، ولذا وجدت صعوبة في كسب الأراضي من التنظيم. وقد عملت تركيا لتوحيد هذه المجموعات لسنوات، ولكن لم تفلح جهودها.

مضت الولايات المتحدة قدما في عملية دعمت فيها قوات الدفاع الكردية من أجل السيطرة على منبج. وقد انخرطت الولايات المتحدة في الدبلوماسية الهادئة مع تركيا لعدة أشهر قبل العملية، من أجل طمأنة الحكومة التركية أن الجزء الأكبر من القوات التي من شأنها أن تستولي على الأراضي التي ستؤخذ من تنظيم الدولة في جيب منبج ستكون مفي قبضة القوات العربية. تشعر واشنطن بالقلق أيضا إزاء احتمال وجود غزو تركي، وبالتالي ذهبت للوقاية لمنع خطر اشتباك حليفها في الناتو، تركيا، مع قوات الدفاع الذاتي التي تدعمها. وكانت هذه الجهود الدبلوماسية ناجحة.

نجحت قوات الدفاع الذاتى في كسب مساحة كبيرة من تنظيم الدولة في و حول منبج (لا تزال المدينة نفسها واقعة تحت سيطرة التنظيم ولكنها محاصرة). «أردوغان» والحكومة التركية لم يهاجما العملية علنا، والأهم، أن الجيش التركي لم يتدخل.

تسعى الحكومة التركية لأن تبقي قوات الدفاع الذاتى خارج حدودها في جيب منبج. وللقيام بذلك، تنظر أنقرة إلى المعارضين العرب وتواصل تقديم لهم في المنطقة لمواصلة التقدم شرقا على طول الحدود. وفي حال نجاح ذلك، يمكن لهذا النهج تشكيل منطقة عازلة صغيرة، من الجماعات العارضة القريبة إلى تركيا، في حين أن قوات الدفاع الذاتى وحلفاءها سيكون لهم السيطرة الممر الجنوبي، إلى الجنوب من الحدود، والذي يمكن، في نهاية المطاف عبره ربط منبج مع عفرين التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي. وتدعم الولايات المتحدة هذا النهج كما يتضح من الدعم العسكري المستمر للمجموعات المعارضة في مارع / إعزاز، مما يمهد الطريق للتوصل إلى تسوية تكتيكية حول هذا المرحلة المقبلة من الحرب ضد تنظيم الدولة.

تركيا تضيق أهدافها

إن التغييرات في سياسة تركيا تجاه سوريا هي نتيجة لانهيار موقف تركيا في شمال حلب. وهكذا تم إجبار أنقرة على تغيير جوانب سياساتها لحساب استمرار وجود النظام، فضلا عن التهديد المتزايد من التوسع الكردي في جيب منبج. وفي الوقت نفسه، لا تزال إدلب نقطة محورية في النهج العسكري لأنقرة في الصراع السوري. ولهذا نجد تكثيف الاعتماد التركي على جماعات مثل أحرار الشام ومظلتها، جيش الفتح.

يظهر عجز أنقرة في تشكيل الأحداث مباشرة على طول الحدود. تركيا الآن تمارس ردة الفعل على الأحداث على الأرض والتحوط ضد مجموعة من الخيارات السيئة على طول الحدود. الخوف من ترسيخ الكيان الكردي يجبر أنقرة على إعادة النظر في نهجها تجاه الصراع السوري، ولاسيما في جيب منبج. وبالمثل، فإن عدم قدرة تركيا على تغيير السياسة الأميركية على محمل الجد يلعب عاملا في صنع القرار التركي، على الرغم من أن صناع السياسة الأمريكية لا يسعون لتخفيف المخاوف الأمنية التركية حول تداعيات ما يجري على المدى الطويل من مهمة مكافحة تنظيم الدولة.

سوف تسعى تركيا إلى تشكيل حصيلة هجمات المعارضة في إدلب وجنوب مدينة حلب. ولكن في أجزاء أخرى من البلاد، فإن مصالح تركيا سوف تواجه تحديات كبيرة، مع وجود القليل من القوة لدى أنقرة لوقف الأحداث التي تعتبرها خطرا على الأمن القومي على المدى الطويل.

  كلمات مفتاحية

تركيا سوريا الأكراد أردوغان الأزمة السورية منبج ريف حلب

المعارضة تسيطر على قريتين بريف حلب بعد معارك مع «ميلشيات شيعية»

تركيا: الأنباء حول تشكيل منطقة آمنة في سوريا غير صحيحة

«ستراتفور»: كيف ستحدد حلب مصير سوريا؟

«أردوغان» لأمريكا: حولتم المنطقة لـ«بركة دم» بدعمكم الأكراد

«أردوغان»: الوضع في تل أبيض بات يهدد تركيا بعد سيطرة الأكراد عليها

من الاستعصاء السوري الداخلي إلى الاستعصاء الخارجي