«نيمتسوف» .. الاغتيال الأحمق

الجمعة 6 مارس 2015 07:03 ص

لا شك في أن موسكو لم تكن بحاجة لاغتيال المعارض السياسي الروسي «بوريس نيمتسوف» مساء الجمعة، السابع والعشرين من شباط الماضي، وسط العاصمة الروسية بالقرب من الكرملين مقرّ الحكم، حيث أُطلق الرصاص عليه وهو يسير مشياً على الأقدام في صحبة عارضة أزياء أوكرانية شابة.

وقد تمكّن القاتل أو القتلة من الفرار، برغم انتشار عناصر الأمن الروسي والكاميرات بكثافة في مكان الحادث. ولذلك سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ليلة الحادث نفسها إلى إدانة الجريمة ومطالبة أجهزة الأمن بالكشف عن مرتكبيها.

وعاد «بوتين» في الرابع من آذار/مارس الجاري في اجتماع مع قيادات وزارة الداخلية الروسية ليُشدد مرة أخرى على ضرورة أن « تُولي أجهزة الأمن أقصى قدر من الاهتمام لكشف ملابسات الجرائم التي تُرتكب بدوافع سياسية مثل جريمة قتل بوريس نيمتسوف»، لافتاً إلى «ضرورة تخليص روسيا مما تجلبه هذه الجرائم من عارٍ ومآسٍ». وربما هذا يعني أن الكرملين يُدرك جيداً الطابع السياسي للاغتيال، والذي لا يُعدّ الأول من نوعه في روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. 

وفي الوقت الذي يعتبر فيه رأس الدولة الروسية أن مثل هذه الجرائم ذات الطابع السياسي تمثل عاراً على بلاده، ارتفعت بعض الأصوات قائلة بفرضية وقوف الاستخبارات الأميركية وراء الاغتيال بهدف زعزعة الاستقرار في روسيا.

وفي هذا السياق تأتي أيضاً تلميحات البعض إلى أنه طالما كان نيمتسوف ليبرالياً ومعارضاً لسياسة موسكو في أوكرانيا، فهو «يستحق ما جرى» لأنه يُعَدّ من «الطابور الخامس» الموالي للولايات المتحدة الراغبة في «تدمير روسيا وإسقاط نظامها السياسي ورئيسها». لقد تزايد اتهام بعض السياسيين مؤخراً في روسيا، بمن فيهم يفغيني بريماكوف، بالانتماء إلى هذا «الطابور» بعد المواجهة الروسية الأميركية حول أوكرانيا، حيث لعبت، ولا تزال، وسائل إعلام روسية دوراً كبيراً على مدار العامين الماضيين في ذلك.

لقد عمل «نيمتسوف» مع الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، حيث شغل بعض المناصب الوزارية، منها النائب الأول لرئيس الحكومة ووزير الطاقة. ومن المعروف أن كثيرين يعتبرون أن فترة حكم يلتسين في روسيا كارثية، لما أنتجته من انهيار اقتصادي ونهب ثروات الشعب وضعف الدولة داخلياً وخارجياً. وهذا، تحديداً، ما يمثل نقطة الضعف الرئيسية للمعارضة الليبرالية الروسية العاملة خارج «النظام السياسي» الحالي، خصوصاً أن بعض رموزها الحاليين قد عمل مع حكومات يلتسين المتعاقبة في تسعينيات القرن الماضي.

لكن هذا، برأينا، لا يبرر التصفية الجسدية والاغتيالات السياسية. فثمة من يتجاهل أن عناصر المجموعة الاقتصادية داخل الحكومة الروسية ينتمون بمعظمهم إلى التيار الليبرالي اقتصادياً، وذلك رغم أن القيادة السياسية تؤكد أنها تتبنى «النزعة المحافظة» سياسياً في الداخل والخارج.

لقد عرضت النيابة العامة الروسية حوالي 50 ألف دولار لمن يُدلي بمعلومات عن قضية اغتيال «نيمتسوف» وطرحت فرضيات عدة حول هذه الجريمة، منها الوضع في أوكرانيا، حيث كان القتيل معارضاً لسياسات الكرملين تجاه كييف.

كما طرحت النيابة بعد ساعات قليلة من الحادث فرضية «الأثر الإسلامي» في الجريمة، والذي يُقصد به أن مجموعات إسلامية متشدّدة تقف وراء اغتيال «نيمتسوف» لأنه أيّد بقوة صحيفة «تشارلي أبدو» الفرنسية، وذلك في تصريحات علنية.

غير أن النيابة تطرح فرضية أخرى، يعتبرها البعض الأكثر ترجيحاً، وهي وقوف قوميين روس متشددين، مؤيدين لمواقف الكرملين تجاه أوكرانيا، وراء هذا الاغتيال.

في الوقت ذاته، لا تستبعد الأجهزة الرسمية الروسية المختصة احتمال أن يكون المعارض الروسي قد قُتل بسبب نشاطه في مجال الأعمال، أو نتيجة لعلاقات نسائية، أو لأنه كان محارباً للفساد في روسيا.

والمعروف أنه منذ مغادرة «نيمتسوف» مجلس الدوما الروسي في 2003، نشر العديد من الكتب والتقارير ينتقد فيها الفساد في روسيا وإدارة الرئيس بوتين، داعياً إلى عدم تزوير الانتخابات وإجراء انتخابات ديموقراطية شفافة ونزيهة. وكان أحد رموز المعارضة السياسية البارزة في المظاهرات الاحتجاجية، التي اندلعت في أعقاب الانتخابات البرلمانية الروسية نهاية 2011، التي أدت إلى عودة فلاديمير بوتين إلى الحكم لولاية ثالثة في آذار 2012.

وتشير وسائل إعلام روسية إلى أن «نيمتسوف» في الفترة الأخيرة عكف على إعداد تقرير حول التواجد العسكري الروسي في شرق أوكرانيا، وهو ما أكده الرئيس الأوكراني، بيوتر بوريشينكو، في تعليقه على حادث القتل.

وكان «نيمتسوف» قد صرّح لقناة تلفزيونية في بيلاروسيا، روسيا البيضاء، قبل نحو أسبوعين من اغتياله، بأنّه «يخشى على حياته». وتلفت بعض أروقة المعارضة الليبرالية الروسية إلى أن نيمتسوف كان قد تعرّض لمحاولات اغتيال عدة في السابق، وإن كانت تلك المحاولات لم تُثبَت من الناحية القانونية. 

أخيراً، نكرر القول بأن روسيا لم تكن بحاجة لاغتيال المعارض بوريس نيمتسوف، فهو لم يكن منافساً حقيقياً على الكرسي الرئاسي، برغم أنه كان يعتبر رمزاً داخل صفوف المعارضة الروسية الليبرالية، والتي لا تمثل، كما يتصوّر البعض، كل المعارضة العاملة خارج النظام السياسي في روسيا.

فهذه المعارضة بعد الزخم الكبير الذي شهدته نهاية 2011 ومطلع 2012، باتت مفتتة وضعيفة إلى حد كبير بفعل أسباب ذاتية وموضوعية تتعلق بها، وبفعل ترسانة من القوانين أُقرّت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وملاحقة رموزها قضائياً.

كما أن هذه المعارضة تراجعت بشكل واضح تحت تأثير الأزمة الأوكرانية والمواجهة الروسية الأميركية الحالية حول أوكرانيا. لذلك، نعتقد أن ما جرى يُعتبر من قبيل «الاغتيالات الحمقاء»، التي تجعل السلطات الروسية ملزمة أخلاقياً وسياسياً بالكشف عن أسبابها الحقيقية وعن مرتكبيها الحقيقيين، طالما الحديث يدور عن الاستقرار ومحاولات زعزعة هذا الاستقرار في روسيا. 

  كلمات مفتاحية

موسكو اغتيال المعارض السياسي بوريس نيمتسوف العاصمة الروسية الكرملين عناصر الأمن الكاميرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إدانة الجريمة أجهزة الأمن

العقوبات على روسيا قد ترتد على أصحابها

روسيا في الفناء الخلفي لأميركا

بوتين يختبر عزم الغرب في شرق أوكرانيا

روسيا تهدد بدعم إيران لمهاجمة السعودية في حال تسليح أمريكا لأوكرانيا

الصراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا يحبس أنفاس العالم في 2014