"فورين بوليسي": مصر سئمت انتظار الليبراليين

الجمعة 27 سبتمبر 2019 06:44 م

في الأسبوع الماضي، خرج الآلاف من المصريين إلى الشوارع مطالبين الرئيس "عبد الفتاح السيسي" بالتنحي، وكانت الاحتجاجات مفاجأة لعدة أسباب.

وكان خروج التظاهرات مفاجأة في حد ذاتها؛ حيث تعد هذه أول احتجاجات كبيرة ضد "السيسي" منذ توليه السلطة في انقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيا "محمد مرسي" عام 2013.

وكان الكثير من المراقبين المصريين يعتقدون أن الجنرال السابق قد أوقف أي احتمال لتنظيم احتجاجات ضده، بعد أن قاد قمعا غير عادي وغير مسبوق ضد الزعماء التقليديين للمعارضة في البلاد، من الليبراليين إلى الإسلاميين.

ويؤدي هذا إلى المفاجأة الرئيسية الثانية في تلك الاحتجاجات، وهي قيادتها، فقد نظر النشطاء الراسخون، الذين قادوا الانتفاضة التي أطاحت بالرئيس "حسني مبارك" عام 2011، ويواصل العديد منهم نشاطهم في المنفى، إلى هذه الجولة من المظاهرات بعين الريبة.

وبدلا من ذلك، تمكن المصريون من اختراق جدار الصمت الحالي بفضل جهود منفي آخر لم يكن ممثلا سياسيا في السابق على الإطلاق، وتعارضه الآن النخب الحكومية والليبرالية على حد سواء.

وبدأت الاحتجاجات بسلسلة من مقاطع الفيديو التي شاركها "محمد علي"، وهو ممثل مصري يبلغ من العمر 45 عاما، ربح ثروة من العمل كمقاول من الباطن يعمل مع الجيش، ويعيش الآن في إسبانيا.

ومنذ أن بدأ لأول مرة في إطلاق مقاطع الفيديو بشكل يومي تقريبا على "فيسبوك" و"يوتيوب"، في 2 سبتمبر/أيلول، شاهدها باستمرار مئات الآلاف من الأشخاص، وتمت مشاهدة بعضها ملايين المرات.

وتظهر مقاطع الفيديو "علي" وهو يتحدث مباشرة إلى الكاميرا، وغالبا ما يترك 3 أزرار من قميصه دون إغلاق مع تدخين السجائر.

ويتلخص الموضوع العام للمقاطع في أفعال نظام "السيسي" ضد الشعب المصري، ويشمل هذا آثار السياسة الخارجية لـ "السيسي"؛ حيث تحدث "علي" عن خضوع مصر للممالك الغنية في الخليج العربي، بما في ذلك التخلي المثير للجدل عن جزيرتين في البحر الأحمر، وهما "تيران" و"صنافير"، لصالح المملكة العربية السعودية، والفشل في الوصول إلى أي انفراجة مع إثيوبيا بشأن بناء سد "النهضة" على النيل، النهر الذي يزود مصر بمعظم مياهها العذبة.

لكن الموضوع الرئيسي هو فساد الحكومة.

ويخرج "علي" ليكشف عن معلومات داخلية حول كيفية إساءة استخدام "السيسي" للأموال العامة لصالح أسرته وأصدقائه، عبر أعمال الجيش.

وفي أحد مقاطع الفيديو، يقول "محمد علي" إنه قد تم تكليفه بالمساعدة في بناء مشروع فندقي من فئة 7 نجوم، يسمى "تريومف"، لشريك الرئيس وصديقه اللواء "شريف سيف الدين"، الذي أخبر الرئيس عن المشروع، ومنحه الرئيس ميزانية مفتوحة.

ويقول "علي" في أول فيديو له: "لا أعرف كيف نحن فقراء للغاية، وتمنح صديقك المقرب فندقا تكلف أكثر من 2 مليار جنيه مصري".

وأضاف: "لقد تم بناء فيلا فخمة في مدينة المعمورة، لأن زوجة السيسي لا ترغب في النوم على سرير سوزان مبارك"، في إشارة إلى السيدة الأولى السابقة.

والأهم هي الطريقة التي يتحدث بها "علي"؛ فهو يتحدث بإيقاع وشخصية شخص كأنه من الريف المصري، ويتوجه بمقاطع الفيديو مباشرة للناس العاديين، ويشارك تفاصيل تربيته المتواضعة.

ويوضح "علي" كيف ترك عمله في مجال المجوهرات، مجال عمل عائلته، للعمل كمقاول لصالح الجيش منذ 15 عاما، خلال نظام "مبارك".

وبعد إثبات ولائه للجيش، بدأ يعيش نمط حياة باهظ، مليء بالسيارات الفاخرة والمنازل الفخمة.

وكانت هذه الثروة، التي كشف عنها حديثا، نتاج نظام فاسد، كما يقول، وليس لأنه كان مجدا في عمله.

وكانت العقود التي تلقاها في كثير من الأحيان تأتي إليه دون تقديم عطاءات، في مقابل ولائه والصمت.

وتركز مقاطع الفيديو على إظهار كيف أن فساد "السيسي" أسوأ من فساد "مبارك".

وبشكل حاسم، يلفت "علي" الانتباه إلى محاباة ومحسوبية "السيسي"، وهي عامل رئيسي وراء انتفاضة 2011 ضد "مبارك" وأبنائه.

ويقول إن "السيسي" أنفق 2 مليار جنيه مصري، أي نحو 120 مليون دولار، من أموال الدولة لبناء فندق من فئة 7 نجوم لصديق، وأراد "السيسي" بعد ذلك بناء قصر بقيمة 250 مليون جنيه مصري، أي 15 مليون دولار، مع تغييرات إضافية تكلفت نحو 25 مليون جنيه.

ويقول "علي" إن القصر تم بناؤه لصالح زوجة "السيسي".

ويشرح "علي" قائمة طويلة من المنازل الخاصة التي أنشأها الرئيس، وغيرها من الإسرافات، بما في ذلك ما يصل إلى 60 مليون جنيه مصري في حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، و2.3 مليون جنيه لتجهيز واجهة مقابر العائلة لدفن والدته.

وفي غضون ساعات من نشر أول مقطع فيديو له، تم حظر حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لـ "علي" في مصر، لكن الفيديوهات انتشرت بالفعل كالنار في الهشيم في الدردشات الجماعية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لها صدى لدى الكثير من المصريين الذين يعانون من التدهور الاقتصادي في بلادهم في الأعوام الأخيرة.

وأكدت كلماته ما كان يشك به كثير من المصريين منذ فترة طويلة، وجادل حوله الخبراء منذ زمن طويل، وهو أن استثمارات "السيسي" العامة الرئيسية لم تكن منطقية من الناحية الاقتصادية، وكانت تسهم في زيادة الفقر بين الناس العاديين.

كما قوضت ادعاءاته بفقر البلاد والحاجة إلى التقشف.

ولأعوام، أخبر "السيسي" المصريين في كل مناسبة أن البلاد فقيرة، وأنه لا يستطيع تحمل نفقات تحسين حياتهم.

وفي 14 سبتمبر/أيلول، تناول "السيسي" مباشرة مزاعم "علي" في مؤتمر للشباب.

ومن المثير للاهتمام أن الرئيس لم ينكر المزاعم بشكل كامل، وقال في المؤتمر: "يقولون إنكم تبنون قصور. نعم بالطبع أنا أفعل ذلك. لقد بنيت قصورا رئاسية، وسأبني المزيد. لكن هل هذا من أجلي؟... سأبني وأبني، لكنني لا أفعل ذلك من أجلي، ليس باسمي، إنها ليست باسمي، لا يوجد شيء باسمي، إنها باسم مصر".

لكن رد فعل "السيسي" المتشدد ضد مقاطع الفيديو منح المصداقية لادعاءات "محمد علي"، مما زاد من متابعته.

ثم بنى "علي" الزخم من خلال الدعوة إلى احتجاجات جماهيرية ضد "السيسي".

وما حدث بعد ذلك كان صدمة للكثيرين. فقد استجاب الآلاف من المصريين لنداء "علي" يوم الجمعة، 20 سبتمبر/أيلول.

وقد صرخت امرأة وسط الاحتجاجات: "لماذا يجب أن يعيش في القصور بينما يأكل الآخرون من القمامة؟" حيث رددت بوضوح نقاط الحديث التي تكلم بها "علي" في مقاطع الفيديو.

وقال متظاهر آخر، في بث على الهواء مباشرة على موقع "فيسبوك" من ميدان التحرير: "ليس لدي عمل، وليس لدي أي مكان أذهب إليه، في كلتا الحالتين أنا ميت".

ومن اللافت للنظر أن الاحتجاجات وقعت على الرغم من الضغط على "علي" وعلى دعوته إلى الاحتجاجات من قبل نشطاء ديمقراطيين بارزين، يعتقد الكثير منهم أن مصر لا تستطيع التعامل مع ثورة أخرى، خاصة بالنظر إلى قوة الجيش بالنسبة لمعارضيه.

ولقد كسر "وائل غنيم"، أيقونة ثورة 2011، عدة أعوام من الصمت لدعوة الناس إلى عدم الخروج.

واستفادت القنوات الموالية لـ "السيسي" من الهجمة المضادة ضد "علي" من تصرفات ناشطو الديمقراطية، وروجت لمقاطع فيديو "غنيم". وأصبحت الحركة المناهضة لـ "السيسي" منقسمة؛ فقد كان أنصار "غنيم" متشككين في ظهور "علي" المفاجئ، ويشتبه بعض المحللين في أن "علي" لديه صلات مع فصيل داخل النظام يعارض "السيسي"، في حين اشتبه أنصار "علي" في عودة "غنيم" إلى الظهور بعد أعوام من الغياب.

وعلى الرغم من الرد شبه الموحد على "علي" والمتظاهرين من جميع أنحاء النخبة المصرية، إلا أن رسائله لا تزال تتردد.

وقالت امرأة مصرية: "إنه يتحدث مثلنا، يبدو أنه يشبهنا، ويسب الرئيس بطرق نتمناها جميعا. إنه صورة للتنفيس عن غضبنا. وليس لديه أجندة، إنه ليس سياسيا. أين المعارضون ورؤساء المعارضة؟ إنهم جميعا في السجن. إنه ليس جزءا من أي من هذه الأشياء. لقد أصبح بطلا".

ويبدو أن موجة الاحتجاجات الجديدة جاءت من قاع المجتمع المصري، ومن جيل جديد غير مرتبط بالقادة التقليديين للمعارضة.

ومن خلال قيامه بذلك، استقطب "علي" التركيبة السكانية التي رآها "السيسي" كقاعدة له من قبل.

ورغم أن كثيرين اعترفوا بقسوة "السيسي"، إلا أن "علي" هو أول من ركز اهتمام الجمهور على محاباة ومحسوبية "السيسي"، ومحاولاته لإقامة شكل من أشكال حكم الأسرة.

وسواءً أدت الاحتجاجات إلى انتفاضة كاملة أم لا، فقد أنشأت بالفعل خط أساس جديد للمقاومة ضد "السيسي".

وقد نجح "علي"، على العكس من أكثر النخب الليبرالية في مصر، في إقامة علاقة مع أكثر المتضررين من سياسات "السيسي"، وتحويل انتباههم إلى السبب الحقيقي لمعاناتهم المتزايدة.

لقد حان الوقت لأن يبدأ "السيسي" بالقلق.

المصدر | علا سالم - فورين بوليسي

  كلمات مفتاحية

مظاهرات سبتمبر عبدالفتاح السيسي الفنان والمقاول محمد علي

"ستراتفور": هل الاحتجاجات في مصر علامة على شيء أكبر؟