جورج فريدمان: تركيا تقوم بخطوتها نحو الظهور الحتمي

الخميس 2 يناير 2020 07:16 م

في كتابي "المائة عام المقبلة"، وصفت تركيا كقوة إقليمية ناشئة من شأنها أن توسع نطاق نفوذها بمرور الوقت لتصل إلى ما يشبه نطاق الإمبراطورية العثمانية. وعلى مدى العقد الماضي، على الرغم من الضغوط من مختلف الاتجاهات، فقد امتنعت عن تحمل مخاطر إظهار هذه النوايا بشكل واضح. لكن تغير هذا بشكل كبير في الأسابيع الأخيرة، مما يشير إلى ما هو برأيي ظهورٌ حتمي للقوة التركية.

وجاء هذا التحول في خطوتين. أولًا، حين أعلنت تركيا أنها وسعت منطقتها الاقتصادية الخالصة في شرق البحر المتوسط، ​​بالتعاون مع حكومة الوفاق الوطني الليبية. ثانيًا، حين أعلنت تركيا أنها بصدد بناء 6 غواصات جديدة. وليس هناك فائدة فورية من بناء غواصات جديدة، ولم تكن علاقة تركيا بليبيا في حاجة ملحة إلى تعاون لتوسيع المنطقة الاقتصادية الخالصة. لكن معًا، تشير هذه التحركات إلى تغيير في الموقف التركي.

  • إشارة كبيرة

ومن الناحية النظرية، يخلق الاتفاق مع ليبيا منطقة اقتصادية تقسم شرق البحر المتوسط وتتحدى النفوذ القبرصي اليوناني. وللوهلة الأولى، بدا أن هذه مجرد إشارة ما، حتى وإن كانت كبيرة. ولا تحدد المنطقة الاقتصادية مجالات النفوذ العسكري. بل تدل ببساطة على وجود مجال للهيمنة الاقتصادية، وموافقة ليبيا على إعادة تشكيل المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا، في خضم حرب أهلية مستمرة، لا تعني الكثير. وكانت خطوة تركيا محيرة، ولكنها ليست مهمة بالضرورة.

وأدى إعلان تركيا بعد بضعة أسابيع بأنها سترسل قوات إلى ليبيا، للدفاع عن حكومة الوفاق الوطني ضد المتمردين بقيادة "خليفة حفتر"، إلى زيادة أهمية التغيرات التي طرأت على المنطقة الاقتصادية الخالصة بعدة درجات. وكان التحول في السياسة التركية مرئيًا لنا عندما طالبت أنقرة الولايات المتحدة بسحب قواتها من منطقة في شمال سوريا تضم ​​قوات كردية. وحتى الآن، كانت تركيا حذرة من عمليات التوغل في البلدان المجاورة. لكن هذه المرة، كان الأتراك يعتزمون إرسال عدد كبير من القوات، على الأرجح لفترة ممتدة، لتوسيع حدود تركيا غير الرسمية لتشمل مناطق من العهد العثماني. ولقد كانت خطوة مثيرة، ولكنها ليست نهائية.

ويمثل قرار إرسال القوات التركية إلى ليبيا امتدادًا دراماتيكيًا لهذه السياسة. وفي الماضي، كانت تركيا قد أرسلت قوات إلى قبرص لمواجهة ما اعتبرته تركيا تهديدات للقبارصة اليونانيين ضد الأتراك. لكن الانتقال إلى ليبيا يعد تحولًا كبيرًا. وبالطبع يعد النفط أحد الدوافع. وتوجد وفرة عالمية في أسعار النفط تبقي الأسعار معتدلة، لكن هذا قد يتغير. وحتى في وجود وفرة عالمية، يمكن الوصول إلى النفط عن طريق السياسة.

وتعتمد تركيا على النفط من مختلف المصادر الإقليمية، بما في ذلك روسيا. لكن هذا موقف محفوف بالمخاطر بالنسبة لتركيا، لأنها لا يمكن أن تكون قوة إقليمية دون الحصول على الطاقة. ولقد كانت تبحث، جنبا إلى جنب مع الآخرين، في الحفر في أعماق البحار حول قبرص. لكن سعي تركيا للحصول على النفط والغاز في شرق البحر المتوسط ​​كان صعبًا ومكلفًا للغاية، وغير ناجح أيضًا. ولقد طورت ليبيا حقولًا نفطية، وإذا تم تحييدها، يمكنها دعم الاحتياجات التركية وتقليل تعرضها للمصادر الأخرى. ومن المثير للاهتمام أن الأتراك يجندون القوات الموالية لتركيا في سوريا للانضمام إلى جهودهم في ليبيا.

ومن الأهمية بمكان أن روسيا تدعم "حفتر" عبر الدعم الاقتصادي والمعدات العسكرية والمرتزقة الروس. وكانت حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة، في موقفٍ دفاعي لفترة ممتدة، مع قدرٍ كبير من الدعم الدولي في شكل بيانات قوية، لكنها لا تمتلك ما يكفي من القوة لكسر شوكة "حفتر". ويبدو أن الدعم الروسي سيكون حاسمًا.

وبالإضافة إلى الرغبة في تأمين مصادر الطاقة، تريد تركيا أن توضح أن شرق البحر المتوسط ​​هو منطقة يجب النظر فيها إلى المصالح التركية. ويضعها هذا على خلاف مع كل قوة تقريبًا في المنطقة. وبالنسبة لموسكو، فإن التدخل التركي المخطط له في ليبيا يتعارض مع المصالح الروسية قديمة العهد. ورغم أنه من الممكن أن تكون تركيا وروسيا قد توصلت إلى اتفاق للإدارة المشتركة لليبيا، تتعارض المطالبات التركية في شرق البحر المتوسط ​​مع مشاريع الحفر الإسرائيلية قبالة ساحل قبرص.

ولقد احتجت (إسرائيل) بقوة، بالتنسيق مع اليونان. كما أن مصر، التي تدعم جيش "حفتر" الوطني الليبي، تعادي الحركة التركية، ولديها علاقات جيدة مع (إسرائيل) واليونان، ولديها مصالح في حماية الجرف القاري الغني بالموارد. وهكذا، يبدو أن كتلتين تظهران في البحر الأبيض المتوسط، تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية من جانب، و(إسرائيل) وقبرص ومصر واليونان والجيش الوطني الليبي التابع لـ "حفتر" من جانبٍ آخر.

ويبرز هنا سؤال مهم، وهو ماذا سيفعل الأوروبيون. وتمتلك إيطاليا مصالح كبيرة في ليبيا تركز على النفط، وهي جزء من خط أنابيب غاز "إيست ميد"، إلى جانب (إسرائيل) وقبرص واليونان. أما اليونان، على الرغم من انجذابها إلى الدعم التركي للحكومة المركزية، إلا أنها عضو في الاتحاد الأوروبي، ومعادية للأتراك، وبالتالي من المحتمل أن ترغب في منع تركيا من تلك التحركات. ومن ناحية أخرى، لدى الدول الأوروبية الأخرى أيضًا مصالح في ليبيا، وقد تكون الكتلة الليبية الفرنسية حاسمة.

ولن تتقرر هذه المسألة بسرعة. ويتحدث الفرنسيون مع المصريين، بينما يتحدث الروس إلى الألمان الذين يحاولون لعب دور الوسيط. ولقد كان اليونانيون يتحدثون مع أي طرف قد يستمع، وظل الإسرائيليون في موقفٍ متأني لقراءة الأوراق، على الرغم من أن العلاقات التركية الإسرائيلية، والمنافسة على النفط بينهما، واضحة. ويتمثل الموقف الرسمي لجميع هذه الدول في أنه لا ينبغي لأحد أن يزعزع استقرار ليبيا. والحقيقة هي أن ليبيا هي الاسم الملازم دائمًا لزعزعة الاستقرار، والخيار في الوقت الراهن يدور بين التمرد، المدعوم من روسيا، والحكومة الرسمية، المدعومة الآن بقوة من تركيا.

  • مرحلة جديدة

وربما تكون النقطة الأكثر إثارة للاهتمام، بصرف النظر عن تصرفات تركيا، هي أن العلاقة غير المستقرة بين روسيا وتركيا تقترب من نهايتها. ولم تكن تلك العلاقة مريحة أبدًا، لأن تركيا وروسيا كانتا خصمتين تاريخيتين، لكنهما عملا مع في إطار احتواء الحرب السورية وبناء النفوذ التركي مع الولايات المتحدة. وقد تبقى تلك العلاقة لفترة من الوقت، حيث يختبر كل طرف الآخر. لكن القضية السورية ليست بالشيء الكبير لكلا البلدين. وتبحث روسيا في سوريا عن المصداقية لهيمنتها، وتعارض تركيا نظام "الأسد" تاريخيًا، ومن هنا يسعى الأتراك لتجنيد المقاتلين السوريين للقتال في ليبيا. وبالطبع، لم تصل القوات التركية بعد، وقد يحدث الكثير، لكن تركيا أعلنت أنها أصبحت قوة إقليمية، وأصبحت أفعالها هي التي تقودها بدلًا من ردود الفعل، وهذا هو المهم.

وتبقى الولايات المتحدة موجودة، لكن مصالحها غير واضحة. وتعد الولايات المتحدة هي القوة البحرية الحاسمة في البحر الأبيض المتوسط، إذا اختارت أن تكون، لكن من غير المحتمل أن تتحدى الخطوة التركية. وحتى الآن، كانت الولايات المتحدة هادئة. ويعتزم وزير الخارجية "مايك بومبيو" زيارة قبرص في يناير/كانون الثاني، لكن موضوع النقاش سيكون قانون شراكة الطاقة والأمن في شرق المتوسط، وليس زيادة الوجود التركي في المنطقة.

والأهم من ذلك، أن الاهتمام التركي بالبحر الأبيض المتوسط ​​يتحدى القوة الروسية. ويقوم الروس والسوريون بمناورات بحرية في شرق البحر المتوسط. وفي الوقت نفسه، تريد الولايات المتحدة الإبقاء على علاقتها مع تركيا، خاصةً لأنها تصبح مع الوقت قوةً رئيسية. لكن السؤال هو ما الثمن الذي ستريده تركيا من هذه الصداقة. ويُشار إلى أن الولايات المتحدة بدأت في قصف القواعد الإيرانية في سوريا والعراق دون إعلام الروس على ما يبدو. ولا يوجد اتفاق بين تركيا والولايات المتحدة، ولكن هناك مصالح متوازية في الوقت الراهن على الأقل.

نحن ندخل الآن مرحلة جديدة، لا يسيطر فيها الأتراك على شرق البحر المتوسط، لكن على جميع دول المنطقة أن تأخذ رغباتهم ونواياهم على محمل الجد. وهم لا يسيطرون على حوض البحر الأبيض المتوسط ​​، لكنهم يسيطرون على قضايا محددة في البحر المتوسط، مثل الحدود البحرية وإدارة النفط بينها. والأهم من ذلك، أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا جعلت تركيا هي القوة المحركة في المنطقة في الوقت الحالي، وكما أعتقد، قد تبقى كذلك على المدى الطويل.

المصدر | جورج فريدمان /جيوبوليتيكال فيوتشرز- ترجمة الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الاتفاق الليبي التركي جورج فريدمان

ليبيا وقوات الدعم التركي.. حسم عسكري أم سوريا جديدة؟