ستيفن والت: التجربة أثبتت فشل استراتيجية الهيمنة الليبرالية

السبت 25 أبريل 2020 09:49 م

بالرغم من أنه يكاد يكون من المستحيل الحديث عن أي شيء آخر بعيدا عن "كوفيد-19" وآثاره، يحاول كاتب هذا المقال منح القارئ فرصة لإراحة ذهنه قليلا بعيدا عن أخبار وتحليلات الجائحة، والتحول للحديث عن بعض مسائل النظام العالمي.

أريد استكشاف موضوع كنت أناقشه أنا وطلابي قبل أيام قليلة، في درس حول المفاهيم الواقعية والليبرالية للنظام العالمي.

وكان السؤال هو هل كانت محاولة الولايات المتحدة لإنشاء نظام عالمي ليبرالي خلال فترة "القطب الواحد" محكوم عليها بالفشل منذ البداية.

ولكي نكون أكثر تحديدا، هل الانتقادات التي وجهتها أنا وآخرين إلى استراتيجية الولايات المتحدة "للهيمنة الليبرالية" عادلة حقا؟ هل من الممكن أن يكون إنشاء نظام عالمي قائم على القيم الليبرالية، أي الديمقراطية والأسواق الحرة وسيادة القانون وحقوق الفرد وما إلى ذلك، أكثر جدوى مما يبدو الآن؟

وهل كانت هذه الاستراتيجية لتنجح إذا كان القادة الأمريكيون أكثر ذكاء وأقل تعجرفا وأكثر صبرا وأكثر حظا؟

هل كانت الهيمنة الليبرالية فاشلة حتما، كما قال "جون ميرشايمر" في الربيع الماضي، أم كانت هناك مسارات معقولة للعمل كان من شأنها أن تؤدي إلى التوسع المطرد والدمج العميق للقيم والمؤسسات الليبرالية حول العالم؟

وفي حال وجدت الولايات المتحدة نفسها في موقف مشابه مرة أخرى، فهل يمكن أن تتعلم من أخطائها السابقة وتتحسن في المرة الثانية؟

حسنا، يجب أن يكون الحكم بفشل المحاولة الأولى، فضلا عن تكلفتها الباهظة، حكما راسخا بعيدا عن الجدل.

فبدلا من التقدم، ظلت الديمقراطية تتراجع في جميع أنحاء العالم لأكثر من عقد من الزمن، بما في ذلك في الولايات المتحدة نفسها، ولم تؤد الجهود التي قادتها الولايات المتحدة لتغيير النظام إلى ازدهار الديمقراطيات، ولكن إلى دول فاشلة وكوارث باهظة الثمن.

وأنتجت العولمة المفرطة تحت رعاية الولايات المتحدة أزمة مالية خطيرة في عام 2008، وشردت الملايين من الموظفين، وساعدت في إثارة رد فعل شعبي واسع النطاق.

وساعد توسيع حلف "الناتو" في تسميم العلاقات مع روسيا، وألهمت سياسات مثل الاحتواء المزدوج في الخليج العربي بيئة معادية للولايات المتحدة.

ومع تصاعد الإرهاب، بما في ذلك هجمات 11 سبتمبر/أيلول وجميع العواقب السلبية التي نجمت عن ذلك الحدث، كانت النتيجة النهائية لهذه التطورات تراجعا جزئيا عن العولمة، وظهور مستبدين محتملين في المجر وبولندا، وحتى في الولايات المتحدة، واستعادة السلطوية في العديد من الأماكن الأخرى.

لا يزال الكثير من الناس مقتنعين بأن محاولة إنشاء نظام عالمي ليبرالي بقيادة الولايات المتحدة كان الهدف الصحيح، وأن الولايات المتحدة تحتاج فقط للتعلم من أخطاء الماضي والقيام بذلك بشكل أفضل و أذكى في المستقبل.

ويشمل المدافعون عن هذا الرأي صقور مثل "إريك إيدلمان" و"راي تاكيه"، الذين يعتقدون أن ما يحتاجه الشرق الأوسط هو تغيير الطريقة التي تقود بها الولايات المتحدة.

ويشمل مؤيدون آخرون لهذا الرأي سياسيين متفانين للنظام مثل "جيك سوليفان"، الذي يعتقد أن المشكلة ليست الاستراتيجية الأساسية للولايات المتحدة، بل بالأحرى حقيقة أن الأمريكيين يشككون فيها بشكل متزايد.

ويرى المرء دوافع مماثلة في كتابات "هال براندز"، و"بيتر فيفر"، والمدافعين الآخرين عن دور أمريكي موسع.

وإذا فاز نائب الرئيس الأمريكي السابق "جو بايدن" في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني، وآمل أن يفعل ذلك، فإن رُسل الهيمنة الأمريكية ودورها العالمي "الذي لا غنى عنه" سيعودون للمشهد، ومن المرجح أن نرى محاولة جزئية على الأقل لإعادة عقارب الساعة إلى الأيام التي كانت فيها الولايات المتحدة تحاول بنشاط إنشاء نظام ليبرالي عالمي.

وهنا فلنتخيل أنه يمكننا العودة بالزمن إلى عام 1992، مع معرفة كاملة بجميع الأخطاء التي تم ارتكابها منذ ذلك الحين.

ثم تخيل أنك ما زلت تريد إنشاء نظام عالمي ليبرالي، مع تجنب جميع الأخطاء التي تم ارتكابها خلال ربع القرن الماضي. ماذا ستفعل إذن بشكل مختلف، وبرأيك، هل سينجح هذا النهج الجديد؟

حسنا، لنبدأ بالنقطة الأكثر وضوحا؛ وهي أنه يجب أن يكون النهج الأكثر ذكاء للهيمنة الليبرالية أكثر صبرا. وفي التسعينات، شعر الأمريكيون أنهم وجدوا الصيغة السحرية للنجاح في عالم معولم، في ما سماه "توماس فريدمان" بـ"DOS Capitalism"، وأن الدول الأخرى لا تستطيع الانتظار لتصبح مثل الولايات المتحدة.

وكانت الرياح داعمة للولايات المتحدة، وكان التاريخ يتحرك لصالحها، وكانت كل الأمور تشي بدفعة قوية لصالح الليبرالية من شأنها أن تسرع العملية. ولكن هذه النظرة كانت متفائلة بشكل ساذج.

وكان على الولايات المتحدة أن تتبنى نهجا بطيئا وثابتا وغير عسكري لنشر القيم الليبرالية، لكنها لم تدرك أن الأمر سيستغرق عدة عقود أو أكثر حتى تؤتي الاستراتيجية ثمارها.

ويمكن للمرء أن يسمي هذا النهج "الهيمنة الليبرالية الخفيفة".

ومن الناحية العملية، كان من شأن الهيمنة الليبرالية أن تتجنب توسع "الناتو"، وأن تميل إلى ما يسمى الشراكة من أجل السلام بدلا من ذلك.

وكانت الشراكة من أجل السلام ستعزز التعاون الأمني ​​مع الدول المستقلة حديثا في أوروبا الشرقية، وبالتالي تساعد في تقوية نظمها الديمقراطية الوليدة، لكنها كانت ستشمل روسيا أيضا، كما وعد المسؤولون الأمريكيون قبل انهيار الاتحاد السوفييتي.

وربما كانت العلاقات مع موسكو ستسوء أيضا حين تستعيد بعض قوتها السابقة، ولكن ليس بالسرعة التي حدثت، وربما ليس إلى هذا المدى.

وفي حال لم يتوسع "الناتو"، ولم تحاول الولايات المتحدة ترشيح أوكرانيا لعضوية الحلف عام 2008، من الصعب أن نتخيل أن الأمور في أوكرانيا كانت لتصبح مضطربة كما هي اليوم.

ومع الاستفادة من الإدراك المتأخر، كانت الولايات المتحدة الأكثر حكمة ستتبع نهجا أكثر التزاما بالعولمة الاقتصادية.

ويعمل تقليل الحواجز أمام التجارة والاستثمار على تحسين الكفاءة الاقتصادية العامة، وهو أمر مرغوب فيه بشكل عام، ولكن تناوله بشكل أبطأ كان سيعطي القطاعات التي تضررت من المنافسة الأجنبية المزيد من الوقت للتكيف.

وكان من الخطأ أيضا إدخال الصين إلى منظمة التجارة العالمية قبل الأوان، على أساس الأمل في أنها ستسرع بانتقال الصين إلى الديمقراطية وتحويل الصين إلى "صاحب مصلحة مسؤول".

وبدلا من ذلك، سرع ذلك من بروز الصين كمنافس قوي. كما سيحذر مستشارنا الذي سيسافر عبر الزمن من رفع القيود المفرطة على الأسواق المالية، ويحذر من مخاطر فقاعات المال والفقاعات الأصولية، وهي النصيحة التي كانت ستجعل الأزمة المالية لعام 2008 أقل احتمالية.

وسيحذر أيضا من سياسة الاحتواء المزدوج في الخليج العربي، ومن محاولة خلق ديمقراطية على النمط الغربي في أفغانستان بعد 11 سبتمبر/أيلول، والقرار الأحمق بالإطاحة بالرئيس العراقي "صدام حسين" عام 2003.

وكانت الولايات المتحدة لتتخذ نهجا أكثر دقة تجاه الربيع العربي، مع دعم انتقال تونس إلى الديمقراطية، ولكن ليس الإطاحة القسرية بالديكتاتور الليبي "معمر القذافي".

وبدلا من الإعلان عن أن "الأسد يجب أن يرحل" في بداية الحرب الأهلية السورية، كانت الولايات المتحدة لتعمل مع جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك إيران، لإنهاء هذا الصراع بسرعة مع خسارة أقل بكثير في الأرواح، حتى لو كانت النتيجة النهائية هي ترك "الأسد" في السلطة.

باختصار، كان يمكن للولايات المتحدة أن تدفع باتجاه نظام عالمي أكثر انفتاحا وحرية وليبرالية بشكل أساسي، ولكن بطريقة تدريجية وأكثر تعقيدا.

وكانت الولايات المتحدة ستقدم دعما اقتصاديا ودبلوماسيا وخطابيا للبلدان التي كانت تحاول حقا التحرك في اتجاهات أكثر ليبرالية، وكان يمكن أن تعمل بجد أكثر للحفاظ على صورة الولايات المتحدة كنموذج يريد الآخرون محاكاته.

لكنها كانت ستمتنع عن محاولة تنفيذ مشاريع ضخمة للهندسة الاجتماعية في البلدان التي تفتقر إلى الشروط الأساسية لوجود ديمقراطية مستقرة، وكانت ستدرك أن دفع تلك البلدان بوتيرة أسرع سيؤدي إلى مقاومة القادة الاستبداديين الذين ليس لديهم نية للتخلي عن السلطة طواعية.

لو كانت الولايات المتحدة سعت للهيمنة الليبرالية بهذه الطريقة، كان من الممكن تجنب العديد من التداعيات السلبية التي حدثت بالفعل.

وكان التقدم نحو نظام عالمي أكثر ليبرالية سيكون أبطأ بالطبع، ولكن ربما كان الزخم في أوائل التسعينات قد استمر في المضي قدما.

وهنا نعود للسؤال من جديد، هل تعني هذه الحجة أن الهيمنة الليبرالية كانت المسار الصحيح بعد كل شيء، وأنه ينبغي تبني نسخة أكثر تعقيدا وبطئا إذا وجدت الولايات المتحدة نفسها في موقع القيادة مرة أخرى؟ حسنا، لا أعتقد ذلك.

ويفترض البعض أنه إذا كان لدى صانعي السياسات في الأعوام السابقة معرفة كاملة بنتائج أفعالهم، فيمكنهم اختيار المسار الصحيح في كل نقطة حرجة.

على سبيل المثال، لو كان الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج دبليو بوش" يمتلك بصيرة تامة، لم يكن ليختار غزو العراق عام 2003، أو ربما كان سيخصص الكثير من الوقت والجهد للتحضير لمرحلة ما بعد "صدام حسين". ومع ذلك، فإن المعرفة الكاملة حول الخطأ الذي حدث لن تضمن النجاح في المرة الثانية.

فحتى عندما نعرف الأخطاء التي يجب تجنبها، قد لا يكون هناك أي مسار للعمل من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة ناجحة. وتعد الولايات المتحدة قوية جدا وغنية وآمنة، لكن بعض المهام قد تكون ببساطة خارج حدود إمكانياتها، وخارج حدود فهمها.

ويبدو أن محاولة استخدام القوة العسكرية لتحويل المجتمعات المنقسمة بشدة إلى ديمقراطيات ليبرالية واحدة منها.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد اتخذت مسارا مختلفا تماما للعمل في النقاط الحرجة خلال الأعوام الماضية، لكان التاريخ تحرك في اتجاه مختلف. وفي هذه الحالة كان قادة الولايات المتحدة سيواجهون مجموعة مختلفة تماما من الخيارات التي لا يمكن معرفة نتائجها مقدما.

بعبارة أخرى، ربما لا تساعد الدروس المستفادة من الأحداث كما وقعت بالفعل الولايات المتحدة على تحديد ما يجب فعله بمجرد أن يتبع التاريخ مسارا مختلفا.

والأهم من ذلك، فإن الهيمنة الليبرالية نفسها تستلزم الكثير من الهندسة الاجتماعية المعقدة. وبحكم التعريف، فإن النظام العالمي الليبرالي هو النظام الذي تكون فيه بعض المبادئ السياسية الرئيسية عالمية، مثل الديمقراطية، والسيادة، والحواجز المنخفضة أمام التجارة والاستثمار والسفر، وسيادة القانون، والحقوق الفردية.

لكننا نعيش في عالم لا يتم فيه احتضان هذه القيم عالميا. ولم تكن الديمقراطيات أغلبية على الإطلاق. ويعتقد الملايين من الناس أن الأمن والسيادة والقيم الثقافية والاستقلالية الوطنية والأهداف السياسية الأخرى أكثر أهمية، ما يعني أن محاولة حمل الآخرين على اعتناق الديمقراطية تتطلب ضغطا كبيرا يزيد من خطر عدم الاستقرار السياسي.

ولا بد أن تؤدي هذه الجهود حتما إلى استياء محلي من مختلف الأنواع، خاصة حين تجعل القومية والأشكال الأخرى للهوية المحلية الناس مستائين ومرتابين حتى من التدخل الأجنبي حسن النية.

علاوة على ذلك، كلما كانت التغييرات التي تحدث بين أي مجموعة من الناس بعيدة المدى، كلما كانت النتائج غير قابلة للتنبؤ بها، وكلما ظهرت عواقب غير مقصودة.

وحتى التغيير السياسي التقدمي فإنه يخلق فائزين وخاسرين، وهذه الفئة الأخيرة لن تقابل بالضرورة مصيرها بالصبر.

وبدلا من ذلك، قد يحملون السلاح لمحاولة استعادة مواقعهم السابقة، وبالتالي خلق نوع من المقاومة التي ساعدت على هزيمة جهود الولايات المتحدة لتعزيز النظام الليبرالي في الماضي.

وحتى إذا تجنب صانعو السياسة في المستقبل جميع الأخطاء التي وقعت بين عامي 1992 و2016، ناهيك عن الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" منذ ذلك الحين، فقد نكون واثقين من أنهم سيسيئون التعامل مع بعض التطورات غير المتوقعة التي من المحتم أن تنشأ.

خلاصة القول، ربما كانت حركة الهيمنة الليبرالية لتعمل بشكل أفضل قليلا مما فعلته الولايات المتحدة بالفعل، لكنها لم تكن ستحقق الهدف النهائي بالوصول إلى نظام ليبرالي عالمي قائم على قواعد واحدة.

ولا يعد هذا الإدراك حجة أو دعوة لفك الارتباط الأمريكي بالعالم أو السلبية الدبلوماسية؛ فإن الوضع الذي نتعامل معه يوميا هو تذكرة قوية بأن المصلحة الذاتية تتطلب أحيانا أن تتعاون الولايات المتحدة مع الدول الأخرى لحل المشكلات العالمية.

وعلى العكس فهي دعوة للتوقف عن مطاردة الأهداف المثالية، استنادا إلى الاعتقاد الخاطئ بأن معظم البشرية تشترك في القيم الأمريكية وأن إنشاء نظام عالمي ليبرالي سيكون من السهل القيام به.

المصدر | ستيفن والت - فورين بوليسي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

النظام الليبرالي العالمي تصدع النظام العالمي الهيمنة العالمية

فورين أفيرز: عصر الهيمنة الأمريكية انتهى.. والعالم أصبح بلا قيادة موحدة