كيف يؤثر الاستقطاب داخل أمريكا على سياستها الخارجية؟

الاثنين 8 يونيو 2020 02:03 م

كان من المفترض أن تكون الأزمة الوطنية التي تواجه أمريكا سببا في توحد المجتمع الأمريكي، وعلى العكس من ذلك فقد تصاعدت مظاهر التمزق مع وجود رئيس مثير للانقسام، حيث يعاني البلد من جائحة غير مسبوقة بتفشي فيروس كورونا، فضلا عن أمراض العنصرية وعدم المساواة التي تعود إلى قرون.

وبالطبع فإن عواقب هذا الانقسام مقلقة للغاية في الداخل، لكنها ليست أقل إثارة للقلق في الخارج.

وأثر أسلوب ومضمون السياسة الأمريكية الموبوءة بالاستقطاب على الدبلوماسية الأمريكية. وكانت السياسات تدور بين الأحزاب، وتنتهي الالتزامات مع نهاية كل إدارة، ويتم تسييس المؤسسات.

والآن، طغت عدم القدرة على العمل معا في الداخل على طريقة العمل في الخارج. وفي الماضي، كان الشعور بالهم المحلي المشترك يعطي ثقلا للدبلوماسية الأمريكية؛ والآن غياب هذا الشيء يعيقه.

ولا تعد الانقسامات الحزبية حول السياسة الخارجية جديدة، من المعارك حول السياسة الأمريكية في أمريكا الوسطى في عهد "ريجان"، إلى الحرب في العراق بعد عقدين. لقد كان لدى الولايات المتحدة الكثير من الانقسامات المؤلمة، والمعارك السياسية المريرة، والوجوه المثيرة للجدل في الإدارات.

ولكن كما يوضح "كينيث شولتز" من جامعة ستانفورد في دراسة مهمة، فإن العداء الحزبي والانقسام هما القاعدة وليس الاستثناء.

وما كان ظاهرة غالبا، عندما كانت موافقة مجلس الشيوخ على المعاهدات الدولية شبه محسومة، أصبح ذلك صعبا أكثر من أي وقت مضى خلال العقود القليلة الماضية.

ومنذ جاءت إدارة "أوباما"، أصبح الأمر شبه مستحيل. وحتى عندما جلس "بوب دول"، الذي أصيب بجروح بالغة في الحرب العالمية الثانية، ثم بعد ذلك زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ومرشح الحزب الجمهوري، على كرسيه المتحرك في قاعة مجلس الشيوخ عام 2012 وطلب من رفاقه الجمهوريين التصديق على معاهدة دولية للإعاقة على غرار قانون الولايات المتحدة، تجاوزه جميعهم تقريبا للتصويت بـ"لا"، مصممين على حرمان "باراك أوباما" من أي نوع من الانتصار.

وإذا كان هذا يبدو وكأنه مستوى جديد من الانحطاط في المعارضة الحزبية، فقد أثبت الرئيس "دونالد ترامب"، كما هو الحال مع معظم الأشياء الأخرى التي يقوم بها، أنه يمكنه التعمق أكثر في هذا الانحطاط.

لقد ألغى "ترامب" الاتفاقية تلو الأخرى، بفرحة مدمرة، ودون اعتبار لوجود خطة "ب". وبدأ بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، الذي وصفه بـ"المحرج"، واتفاق باريس للمناخ، الذي وصفه بـ "غير العادل تماما"، والشراكة عبر المحيط الهادئ، التي اعتبرها "اغتصابا" لموارد البلاد، وكلها تم التفاوض عليها من قبل إدارة سلفه الديمقراطي، قبل أن ينتهي بها المطاف في كومة القمامة.

وربما تكون الخطوة القادمة خروج الرئيس من معاهدة الأجواء المفتوحة. وفي غضون ذلك، تهدد الإدارة باستئناف التجارب النووية والدخول في سباق تسلح جديد مع المنافسين.

ولا يعد تآكل الإجماع على السياسة الخارجية بين الحزبين مأساة في حد ذاته، نظرا لعيوبه العديدة، والبقع العمياء التي يسببها، وسجل الاختيارات الخاطئة. لكن الانقسامات الحادة، وتكتيكات الأرض المحروقة التي سممت سياسات الولايات المتحدة الداخلية خلال العقد الماضي، تشل الدبلوماسية الأمريكية أيضا. والعواقب وخيمة. وهناك 3 نقاط تبرز ذلك على وجه الخصوص.

أولا، تضررت مصداقية أمريكا وموثوقيتها وسمعتها. وتعد المصداقية مهمة في المجال الدبلوماسي، خاصة عندما تصبح قدرة أمريكا على حشد الدول الأخرى حول المخاوف المشتركة أكثر أهمية، في عالم لم تعد فيه الولايات المتحدة قادرة على شق طريقها بمفردها.

وإذا كان ممثلونا المنتخبون لن يعطوا اتفاقية متفاوض عليها جلسة استماع عادلة، أو يدعمونها، أو يتجنبون على الأقل تقويضها حتى قبل أن يجف الحبر، فلماذا يدخل أي صديق أو عدو في أي نوع من المفاوضات بحسن نية مع الولايات المتحدة؟

ولماذا يجب أن يكون لديهم أي ثقة بأن الحكومة الأمريكية ستفي بالتزاماتها إذا وقعت في الأساس؟ وأتذكر هنا دبلوماسيا إيرانيا سألني خلال لحظة صعبة بشكل خاص في المحادثات النووية لماذا يجب أن يعتقد أنه لن يتم إلغاء الاتفاق ببساطة عند وصول إدارة مختلفة.

وأجبت، بقناعة تامة، أنه إذا امتثلت جميع الأطراف بالتزاماتها، فإن النظام الأمريكي سيدعمها، وقد كنت مخطئا بالتأكيد.

وأصبحت الولايات المتحدة عالقة في وحل الخلل الاستقطابي الداخلي، وتضررت سمعتها بشدة بشأن إنجاز المهام الكبيرة. ولطالما كان لدى الآخرين في جميع أنحاء العالم شكاوى بشأن سياسات أمريكا ووزنها الجيوسياسي، ولكن كان لديهم عادة احترام مضطرد لكفاءتها وقوتها.

واليوم، لا تستطيع حكومة الولايات المتحدة تمرير ميزانية، ناهيك عن الجمع بين العالم لوقف انتشار جائحة مدمرة.

وادعى "ترامب" ذات مرة أن الأجانب كانوا يضحكون على الولايات المتحدة. لكن الواقع اليوم أسوأ بكثير، إنهم ينظرون إليها بشفقة ويستهزؤون بها.

ثانيا، تسبب الاستقطاب في هدم الدور الدبلوماسي غير السياسي. وخلال 10 وزراء عاصرتهم، فقد قاموا جميعا بضبط الرسائل السياسية بدقة، ولولا ذلك ما كان لهم ليحصلوا على الوظيفة في المقام الأول.

وكان جميعهم حريصين على إبقاء السياسة الداخلية بعيدة عن السياسة الخارجية. على النقيض من ذلك، كان "بومبيو" وزير الخارجية الأكثر انحيازا في الذاكرة الحية، حيث قام بتهميش المهنيين المحترفين بشكل منتظم لصالح الحلفاء السياسيين، وشن حربا ضد "دولة عميقة" متخيلة، متورطا في المناوشات السياسية، ومهاجمة وسائل الإعلام "المعارضة"، والتخلص من الأصوات المستقلة، واستخدم الوزارة كمنبر للطموح السياسي المستقبلي.

وإذا اعتاد العالم على التعامل مع وجود تمايز بين السياسات الخارجية الديمقراطية والجمهورية، فسوف يزداد إغراء تجاهل الدبلوماسيين المحترفين، والتدخل في سياسات الولايات المتحدة، والانتظار لتجاوز الإدارات العدائية، وانتظار الإدارات الصديقة، على حساب المصالح الوطنية لأمريكا.

وأخيرا، يقوض القادة إمكانات الدبلوماسية عندما تصبح ميزة "اللا مساومة" في السياسات الداخلية سمة من سمات الدبلوماسية أيضا.

وأتذكر قصة عن كتيب عسكري أمريكي تم إصداره وإرساله لقوات "صدام حسين" خلال غزو 2003 واحتوى خطأ جسيما. وفي الكتيب تم كتابة رسالة "الاستسلام (و) الموت"، بدلا من "الاستسلام (أو) الموت".

ويعد الأول شعارا مناسبا لمعظم مقاربة إدارة "ترامب" للمفاوضات الدبلوماسية، والتي تجسدت بشكل كبير في حملتها "أقصى ضغط" ضد إيران.

ولم تكن إدارة "ترامب" أول من يتبنى هذا التطرف الدبلوماسي. ولقد كانت هذه عادة مدمرة للدبلوماسية الأمريكية لبعض الوقت. لكن بشأن تأجيج نيران الاستقطاب في السياسة الخارجية، فقد تفوقت هذه الإدارة أكثر من أي من سابقاتها في خنق إمكانات الدبلوماسية الأمريكية عندما كان الاحتياج لها شديدا.

ولا يزال الاستقطاب في السياسة الخارجية الأمريكية محصورا إلى حد كبير في النخبة السياسية، وليس في عامة الناس. وهذا هو الخبر السار. لكن الأخبار السيئة هي أنه بينما قد يبدأ الاستقطاب بين النخب، فإنه نادرا ما ينتهي عند هذا الحد. وبمجرد انتشاره، يصبح من المستحيل إخماده.

وتعد الانقسامات الحزبية صارخة اليوم بشأن عدد من قضايا السياسة الخارجية، مثل تغير المناخ والهجرة. ولكن في بعض أسئلة السياسة التأسيسية، فإن الرأي العام أقل انقساما بكثير مما هو عليه في واشنطن.

وبالرغم من شعار الرئيس "ترامب"، "أمريكا أولا"، فإن الغالبية المتزايدة من الأمريكيين يؤيدون دورا نشطا ومنضبطا للولايات المتحدة على المسرح العالمي.

والأهم من ذلك، يوجد تقدير متزايد للحاجة إلى ترسيخ السياسة الخارجية بقوة أكبر في احتياجات وتطلعات الطبقة الوسطى الأمريكية.

وتعد السياسة الخارجية الأكثر تمثيلا لمخاوف الجمهور الأمريكي من مخاوف نخبة السياسة الخارجية الأصيلة هي بداية جيدة نحو إزالة الاستقطاب، لكنها ليست كافية.

وسيتعين على القادة الأمريكيين أيضا تحقيق نتائج، مع انضباط أكبر بكثير في الخارج، وتجاوز التلاعب بعواطف القاعدة الحزبية.

وسيتطلب ذلك العمل مع الدوائر الانتخابية الجديدة، بما في ذلك رؤساء البلديات والمحافظين، الذين لديهم نهج عملي يخدم الشؤون الخارجية بشكل أكبر، مع تجديد المؤسسات المكلفة بتعزيز المصالح الوطنية للولايات المتحدة.

وسيحتاج القادة إلى إعادة اختراع إجماع على السياسة الخارجية يعكس الحقائق العالمية الجديدة والأولويات المحلية الملحة، وتجنب إغراء استقطاب السياسة الخارجية، حتى لو كان في تحد أساسي مثل التنافس مع الصين.

وكان الاستقطاب حالة مزمنة مسبقا في أمريكا، قبل فترة طويلة من عصر "ترامب". وسيكون التغيير في صندوق الاقتراع، في نوفمبر/تشرين الثاني، علاجا مؤقتا، ولكن ليس حلا جذريا.

وسوف يستغرق علاج الانقسامات التي كشف عنها الوباء والاحتجاجات وقتا ورؤية وعملا شاقا. والآن، مع المشهد الدولي الذي لا يرحم، لا يوجد تقريبا هامش للخطأ.

المصدر | ويليام بيرنس- ذا أتلانتيك - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الاحتجاجات الأمريكية السياسة الخارجية الأمريكية الاستقطاب السياسي

الخارجية الإيرانية: العقوبات الأمريكية الأخيرة إغلاق دائم لطريق الدبلوماسية